ثم ذكر انسداد الطريق الثاني ، وهو : طريق النظر فقال : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ْ } فلا يفيده نظره إليك ، ولا سبر أحوالك شيئًا ، فكما أنك لا تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ، فكذلك لا تهدي هؤلاء .
فإذا فسدت عقولهم وأسماعهم وأبصارهم التي هي الطرق الموصلة إلى العلم ومعرفة الحقائق ، فأين الطريق الموصل لهم إلى الحق ؟
ودل قوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ْ } الآية ، أن النظر إلى حالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهديه وأخلاقه وأعماله وما يدعو إليه من أعظم الأدلة على صدقه وصحة ما جاء به ، وأنه يكفي البصير عن غيره من الأدلة .
ثم صور - سبحانه - ما عليه أولئك الجاحدون من جهالات مطبقة ، وغباء مستحكم فقال - تعالى - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ . وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } .
أى : ومن هؤلاء المشركين - يا محمد - من يستمعون إليك وأنت تقرأ عليهم القرآن وترشدهم إلى ما ينفعهم ، ولكنهم يستمعون بلا تدبر أو فهم ، فهل أنت - يا محمد - في إمكانك أن تسمع الصم ، ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم ، لأن الأصم العاقل - كما يقول صاحب الكشاف - ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوى الصوت ، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعا فقد تم الأمر .
ومنهم - أيضاً - من ينظر إليك ، ويشاهد البراهين الدالى على صدقك ، فإن وجهك ليس بوجه كذاب ، ولكنه لا يتبع دعوتك جحودا وعنادا ، فهل أنت في إمكانك أن تهدي العمى ولو انضم إلى فقدان بصرهم فقدان بصيرتهم فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد نعتا على المشركين جهالاتهم ، وانطماس بصيرتهم ، بحيث صاروا لا ينتفعون بنعم الله التي أنعم بها عليهم .
فقد وصمهم - سبحانه - يفقدان السمع والبصر والعقل ، مع أنهم يسمعون ويبصرون ويعقلو ، لأنهم لما لم يستعملوا نعم الله فيما خلقت له ، صارت هيا والعدم سواء .
والاستفهام في الآيتين للإِنكار والاستبعاد .
وجواب { لو } في الآيتين محذوف لدلالة ما قبله عليه ، والجملة معطوفة على جملة مقدرة مقابلة لها . أى : أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون ، على معنى أفأنت تستطيع إسماعهم في الحالتين ؟ كلا لا تستطيع ذلك وإنما القادر على ذلك هو الله وحده .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ } أي : ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة ، والسمت الحسن ، والخلق العظيم ، والدلالة الظاهرة ، على نبوءتك لأولي البصائر{[14245]} والنهى ، وهؤلاء ينظرون كما ينظر
غيرهم ، ولا يحصل لهم من الهداية شيء مما{[14246]} يحصل لغيرهم ، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار ، والكافرون ينظرون إليك بعين الاحتقار ، { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا } [ الفرقان : 41 ، 42 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنهُمْ مّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن هؤلاء المشركين ، مشركي قومك ، من ينظر إليك يا محمد ويرى أعلامك وحججك على نبوّتك ، ولكن الله قد سلبه التوفيق فلا يهتدي ، ولا تقدر أن تهديه ، كما لا تقدر أن تحدث للأعمى بصرا يهتدي به . أفأنْتَ تَهْدِي العُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ يقول : أفأنت يا محمد تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك فلا يوفقون للتصديق بك أبصارا لو كانوا عميا يهتدون بها ويبصرون ؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك ، ولا يقدر عليه أحد سواي ، فكذلك لا تقدر على أن تبصرهم سبيل الرشاد ، أنت ولا أحد غيري ، لأن ذلك بيدي وإليّ . وهذا من الله تعالى ذكره تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم عن جماعة ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذّب ، وتعزية له عنهم ، وأمر برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله .
{ ومنهم من ينظر إليك } يعاينون دلائل نبوتك ولكن لا يصدقونك . { أفأنت تهدي العُمي } تقدر على هدايتهم . { ولو كانوا لا يبصرون } وإن انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الإبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك البصرة ، ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق . والآية كالتعليل للأمر بالتبري والإعراض عنهم .
وقوله { ومنهم من ينظر إليك } الآية ، هي نحو الأولى في المعنى ، وجاء { ينظر } على لفظ { من } ، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى ، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف آخر اللفظ ، لأن الكلام يلبس حينئذ{[6124]} ، وهذه الآية نحو الأولى في المعنى كأنه قال : ومنهم من ينظر إليك ببصره لكنه لا يعتبر ولا ينظر ببصيرته ، فهو لذلك كالأعمى فهون ذلك عليك ، أفتريد أن تهدي العمي ، والهداية أجمع إنما هي بيد الله عز وجل{[6125]} .