ولما كان المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم ، [ الذين ] يردون دعوته ، ينتظرون هلاكه ، ويتربصون به ريب المنون ، أمره الله أن يقول لهم : أنتم{[1184]} وإن حصلت لكم أمانيكم{[1185]} وأهلكني الله ومن معي ، فليس ذلك بنافع لكم شيئًا ، لأنكم كفرتم بآيات الله ، واستحققتم العذاب ، فمن يجيركم من عذاب أليم قد تحتم وقوعه بكم ؟ فإذًا ، تعبكم وحرصكم على هلاكي غير مفيد ولا مجد لكم شيئًا . ومن قولهم ، إنهم على هدى ، والرسول على ضلال ، أعادوا في ذلك وأبدوا ، وجادلوا عليه وقاتلوا ،
ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم للمرة الرابعة ، أن يرد على ما كانوا يتمنونه بالنسبة له ولأصحابه فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
ولقد كان المشركون يتمنون هلاك النبى صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يرددون ذلك فى مجالسهم ، وقد حكى القرآن عنهم ذلك في آيات منها قوله - تعالى - :
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } أي : قل لهم - أيها الرسول الكريم - { أَرَأَيْتُمْ } أي : أخبروني { إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله } . - تعالى - وأهلك - { وَمَن مَّعِيَ } من أصحابي وأتباعي { أَوْ رَحِمَنَا } بفضله وإحسانه بأن رزقنا الحياة الطويلة ، ورزقنا النصر عليكم .
فأخبروني في تلك الحالة { فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : من يستطيع أحد أن يمنع ذلك عنكم .
قال صاحب الكشاف : كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، فأمر بأن يقول لهم : نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنين : إما أن نهلك كما تتمنون ، فننقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة عليكم ، أما أنتم فماذا تصنعون ؟ من يجيركم - وأنتم كافرون - من عذاب أليم لا مفر لكم منه .
يعني : إنكم تطلبون لنا الهلاك الذي هو استعجال للفوز والسعادة ، وأنتم في أمر هو الهلاك الذي لا هلاك بعده . .
والمراد بالهلاك : الموت ، وبالرحمة : الحياة والنصر بدليل المقابلة ، وقد منح الله - تعالى - نبيه العمر المبارك النافع ، فلم يفارق صلى الله عليه وسلم الدنيا إلا بعد أن بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وكانت كلمته هى العليا .
والاستفهام في قوله { أَرَأَيْتُمْ } للإنكار والتعجيب من سوء تفكيرهم .
والرؤية علمية ، والجملة الشرطية بعدها سدت مسد المفعولين .
وقال - سبحانه - { فَمَن يُجِيرُ الكافرين } للإشارة إلى أن كفرهم هو السبب في بوارهم ، وفي نزول العذاب الأليم بهم .
ولقد كانوا يتربصون بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والحفنة المؤمنة التي معه أن يهلكوا فيستريحوا منهم ؛ وكانوا يتواصون بينهم بالصبر عليه حتى يوافيه الأجل ، فتسكن هذه الزوبعة التي أثارتها الدعوة في صفوفهم . كما كانوا يتبجحون أحيانا فيزعمون أن الله سيهلك محمدا ومن معه لأنهم ضالون ، ولأنهم يكذبون على الله فيما يقولون ! فهنا أمام مشهد الحشر والجزاء ، ينبههم إلى أن أمنيتهم حتى لو تحققت لا تعصمهم هم من عاقبة الكفر والضلال . فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم قبل هذا الموعد الذي واجههم به كأنه واقع بهم :
( قل : أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا ، فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ? ) . .
وهو سؤال يردهم إلى تدبر حالهم ، والتفكير في شأنهم ، وهو الأولى ! فما ينفعهم أن تتحقق أمانيهم فيهلك الله النبي ومن معه - كما لا ينقذهم بطبيعة الحال أن يرحم الله نبيه ومن معه . والله باق لا يموت . وهو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون . .
ولكنه لا يقول لهم : فمن يجيركم من عذاب أليم ? ولا ينص على أنهم كافرون . إنما يلوح لهم بالعذاب الذي ينتظر الكافرين : ( فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ) . . وهو أسلوب في الدعوة حكيم ، يخوفهم من ناحية ، ويدع لهم فرصة للتراجع عن موقفهم من ناحية . فلو جابههم بأنهم كافرون ، وأنه لا مفر لهم من العذاب الأليم . . فربما جهلوا وحمقوا وأخذتهم العزة بالإثم أمام الاتهام المباشر والتهديد .
ففي بعض الحالات يكون أسلوب التلميح أفعل في النفس من أسلوب التصريح !
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : خَلِّصوا أنفسكم ، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة ، والرجوع إلى دينه ، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنَّكَال ، فسواء عذبنا الله أو رحمنا ، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللّهُ وَمَن مّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد للمشركين من قومك : أرأَيْتُمْ أيها الناس إنْ أهْلَكَنِيَ اللّهُ فأماتني وَمَنْ مَعي ، أوْ رَحِمَنَا فأخرّ في آجالنا ، فَمَنْ يُجِيرُ الكافِرِينَ بالله مِنْ عَذَاب موجع مؤلم ، وذلك عذاب النار . يقول : ليس ينجي الكفار من عذاب الله موتُنا وحياتنا ، فلا حاجة بكم إلى أن تستعجلوا قيام الساعة ، ونزول العذاب ، فإن ذلك غير نافعكم ، بل ذلك بلاء عليكم عظيم .
وروي في تأويل قوله : { قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا } الآية ، أنهم كانوا يدعون على محمد وأصحابه بالهلاك ، وقيل بل كانوا يترامون بينهم بأن يهلكوه بالقتل ونحوه ، فقال الله تعالى : قل لهم أرأيتم إن كان هذا الذي تريدون بنا وتم ذلك فينا ، أو أرأيتم إن رحمنا الله فنصرنا ولم يهلكنا ، من يجيركم من العذاب الذي يوجبه كفركم على كل حال ؟ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : «إن أهلكنيَ الله ومن معيَ » بنصب الياءين ، وأسكن الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر الياء في : «معي » وقرأ حمزة : بإسكان الياءين ، وروى المسيب عن نافع أنه أسكن ياء : «أهلكني » ، قال أبو علي التحريك في الياءين حسن وهو الأصل ، والإسكان كراهية الحركة في حرف اللين ، يتجانس ذلك .