ثم بين - سبحانه - ما أعطاه الله لذى القرنين من نعم فقال : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً } .
وقوله : { مكنا } من التمكين بمعنى إعطائه الوسائل التى جعلته صاحب نفوذ وسلطان فى أقطار الأرض المختلفة . والمفعول محذوف ، أى : إنا مكنا له أمره من التصرف فيها كيف يشاء . بأن أعطيناه سلطانا وطيد الدعائم ، وآتيناه من كل شئ أراده فى دنياه لتقوية ملكه { سببا } أى سبيلا وطريقا يوصله إلى مقصوده ، كآلات السير ، وكثرة الجند ، ووسائل البناء والعمران .
وهذه الأسباب التى أعطاها الله إياه ، لم يرد حديث صحيح بتفصيلها ، فعلينا أن نؤمن بأن الله - تعالى - قد أعطاه وسائل عظيمة لتدعيم ، ملكه ، دون أن نلتفت إلى ما ذكره هنا بعض المفسرين من إسرائيليات لا قيمة لها .
وقوله { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ } أي : أعطيناه ملكًا عظيمًا متمكنًا ، فيه له من جميع ما يؤتى{[18420]} الملوك ، من التمكين والجنود{[18421]} ، وآلات الحرب والحصارات ؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض ، ودانت له البلاد ، وخضعت له ملوك العباد ، وخدمته الأمم ، من العرب والعجم ؛ ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين ؛ لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها .
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } : قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم : يعني علمًا .
وقال قتادة أيضًا في قوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } قال : منازل الأرض وأعلامها .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } قال : تعليم الألسنة ، كان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم .
وقال ابن لَهيعة : حدثني سالم بن غَيْلان ، عن سعيد بن أبي هلال ؛ أن معاوية بن أبي سفيان قال{[18422]} لكعب الأحبار : أنت تقول : إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا ؟ فقال له كعب : إن كنت قلت ذلك ، فإن الله تعالى قال : { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } .
وهذا الذي أنكره معاوية ، رضي الله عنه ، على كعب الأحبار هو الصواب{[18423]} ، والحق مع معاوية في الإنكار ؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب : " إن كنا لنبلو{[18424]} عليه الكذب " يعني : فيما ينقله ، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحيفته{[18425]} ، ولكن الشأن في صحيفته{[18426]} ، أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق{[18427]} ولا حاجة لنا مع خبر الله ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[18428]} إلى شيء منها بالكلية ، فإنه دخل منها على الناس شر كثير{[18429]} وفساد عريض . وتأويل كعب قول الله : { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحيفته من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق ؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك ، ولا إلى الترقي{[18430]} في أسباب السموات . وقد قال الله في حق بلقيس : { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] أي : مما يؤتى مثلها من الملوك ، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب ، أي : الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرَّسَاتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء ، وكبت ملوك الأرض ، وإذلال أهل الشرك . قد أوتي من كل شيء مما{[18431]} يحتاج إليه مثله سببًا ، والله أعلم .
وفي " المختارة " للحافظ الضياء المقدسي ، من طريق قتيبة ، عن أبي عوانة عن سماك بن حرب ، عن حبيب بن حماز{[18432]} قال : كنت عند علي ، رضي الله عنه ، وسأله رجل عن ذي القرنين : كيف بلغ المشارق والمغارب ؟ فقال سبحان الله سخر له السحاب ، وقَدَّر له الأسباب ، وبسط له اليد{[18433]} .
وقوله : إنّا مَكّنا لَهُ الأرْضِ وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا يقول : إنا وطأنا له في الأرض ، وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا يقول : وآتيناه من كلّ شيء : يعني ما يتسبب إليه وهو العلم به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا يقول : علما .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا : أي علما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا قال : من كلّ شيء علما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا قال : علم كلّ شيء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا علما .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وآتَيْناهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سبَبا يقول : علما .