إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا} (84)

وقوله عز وجل : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرض } شروعٌ في تلاوة الذكر المعهودِ حسبما هو الموعودُ ، والتمكينُ هاهنا الإقدارُ وتمهيدُ الأسباب ، يقال : مكّنه ومكّن له ومعنى الأولِ جعله قادراً وقوياً ، ومعنى الثاني جعل له قدرةً وقوةً ، ولتلازمهما في الوجود وتقاربهما في المعنى يُستعمل كلٌّ منهما في محل الآخر كما في قوله عز وعلا : { مكناهم في الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } أي جعلناهم قادرين من حيث القُوى والأسبابُ والآلاتُ على أنواع التصرفاتِ فيها ، ما لم نجعلْه لكم من القوة والسَّعة في المال والاستظهارِ بالعَدد والأسباب ، فكأنه قيل : ما لم نمكنْكم فيها أي ما لم نجعلْكم قادرين على ذلك فيها أو مكنّا لهم في الأرض ما لم نمكنْ لكم ، وهكذا إذا كان التمكينُ مأخوذاً من المكان بناءً على توهّم ميمِه أصليةً كما أشير إليه في سورة يوسفَ عليه الصلاة والسلام ، والمعنى إنا جعلنا له مَكِنةً وقدرةً على التصرف في الأرض من حيث التدبيرُ والرأيُ والأسبابُ ، حيث سُخّر له السحابُ ، ومُدّ له في الأسباب ، وبُسط له النورُ ، وكان الليلُ والنهار عليه سواءً ، وسُهِّل عليه السيرُ في الأرض ، وذُلّلت له طرقها { وآتيناه مِن كُلّ شَيء } أراده من مُهمّات مُلكه ومقاصدِه المتعلقة بسلطانه { سَبَباً } أي طريقاً يوصله إليه وهو كلُّ ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة .