روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا} (84)

وقوله تعالى : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرض } شروع في تلاوة الذكر المعهود حسبما هو الموعود ، والتمكين ههنا الأقدار وتمهيد الأسباب يقال مكنه ومكن له كنصحته ونصحت له وشكرته وشكرت له ؛ وفرق بينهما بأن معنى الأول جعله قادراً ومعنى الثاني جعل له قدرة وقوة ولتلازمهما في الوجود وتقاربهما في المعنى يستعمل كل منهما في محل الآخر وهكذا إذا كان التمكين مأخوذاً من المكان بناءً على توهم ميمه أصلية ؛ والمعنى أنا جعلنا له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار ، وقيل : تمكينه في الأرض من حيث أنه سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء وفي ذلك أثر ولا أراه يصح ، وقيل : تمكينه بالنبوة وإجراء المعجزات ، وروي القول بنبوته أبو الشيخ في العظمة عن أبي الورقاء عن علي كرم الله تعالى وجهه وإلى ذلك ذهب مقاتل ووافقه الضحاك . ويعارضه ما أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر . وابن المنذر . وابن أبي حاتم . وابن الأنباري في المصاحف . وابن أبي عاصم في السنة . وابن مردويه من طريق أبي الفضل أن ابن الكواء سأل علياً كرم الله تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً ؟ قال : لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله تعالى فأحبه ونصح الله تعالى فنصحه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابو زيد أنه قال : ذو القرنين بلغ السدين وكان نذيراً ولم أسمع بحق أنه كان نبياً ، وإلى أنه ليس بنبي ذهب الجمهور وتوقف بعضهم لما أخرجه عبد الرزاق . وابن المنذر . وابن أبي حاتم . وابن مردويه . والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري أتبع كان لعيناً أم لا وما أدري أذو القرنين كان نبياً أم لا وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا » وأنت تعلم أن هذا النفي لم يكن ليستمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيمكن أن يكون درى عليه الصلاة والسلام فيما بعد أنه لم يكن نبياً كما يدل عليه ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه فإنه لم يكن يقول ذلك إلا عن سماع ، ويشهد لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال : سئل علي كرم الله تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبي هو ؟ فقال : سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول هو عبد ناصح الله تعالى فنصحه { وَءاتَيْنَاهُ مِنَ كُلّ شيء } أراده من مهمات ملكه ومقاصده المعلقة بسلطانه { سَبَباً } أي طريقاً يوصله إليه وهو كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة لا العلم فقط وإن وقع الاقتصار عليه في بعض الآثار ، ومن بيانية والمبين سبباً وفي الكلام مضاف مقدر أي من أسباب كل شيء ، والمراد بذلك الأسباب العادية ، والقول بأنه يلزم على التقدير المذكور أن يكون لكل شيء أسباب لا سبب وسببان ليس بشيء ، وجوز أن يكون من تعليلية فلا تقدير واختاره بعضهم فتأمل ، واستدل بعض من قال بنبوته بالآية على ذلك وليس بشيء كما لا يخفى .