70 - الذين كذَّبوا بالقرآن وبما أرسلنا به رسلنا - جميعاً - من الوحي ، فسوف يعلمون عاقبة تكذيبهم حين تكون الأغلال والسلاسل في أعناقهم ، يجرون بها في الماء الذي بلغ الغاية في الحرارة ، ثم بعد ذلك يلقون في النار يصطلون حرها ، ثم يقال لهم - توبيخاً وتبكيتاً - : أين معبوداتكم التي كنتم تعبدونها من دون الله ؟ قال الكافرون : غابوا عنا ، بل الحق أننا لم نكن نعبد من قبل في الدنيا شيئاً يعتد به . مثل هذا الإضلال الشنيع يُضل الله الكافرين عن سبيل الحق لعلمه أنهم يؤثرون الضلالة على الهدى .
{ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } أي : غابوا ولم يحضروا ، ولو حضروا ، لم ينفعوا ، ثم إنهم أنكروا فقالوا : { بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا } يحتمل أن مرادهم بذلك ، الإنكار ، وظنوا أنه ينفعهم ويفيدهم ، ويحتمل -وهو الأظهر- أن مرادهم بذلك ، الإقرار على بطلان إلهية ما كانوا يعبدون ، وأنه ليس للّه شريك في الحقيقة ، وإنما هم ضالون مخطئون ، بعبادة معدوم الإلهية ، ويدل على هذا قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ } أي : كذلك الضلال الذي كانوا عليه في الدنيا ، الضلال الواضح لكل أحد ، حتى إنهم بأنفسهم ، يقرون ببطلانه يوم القيامة ، ويتبين لهم معنى قوله تعالى : { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } ويدل عليه قوله تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } الآيات .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ } تبكيت وتأنيب لهم .
أى : ثم قيل بعد هذا العذاب المهين لهم : أين تلك الآلهة التى كنتم تعبدونها من دون الله ، لكى تدفع عنكم شيئا من العذاب الأليم الذى نزل بكم ؟
وقوله : { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً .
. . } حكاية لجوابهم الذى يدل على حسرتهم وبؤسهم .
أى : قالوا : ذهبوا وضاعوا وغابوا عنا ولم نعد نعرف لهم طريقا ، ولا هم يعرفون عنا طريقا . ثم أضربوا عن هذا القول توهما منهم أن هذا الإضراب ينفعهم فقالوا : بل لم نكن نعبد من قبل فى الدنيا شيئا يعتد به ، وإنما كانت عبادتنا لتلك الآلهة أوهاما وضلالا . .
وقوله - تعالى - : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين } أى مثل هذا الضلال البين والتخبط الواضح ، يضل الله - تعالى - الكافرين ، ويجعلهم يتخبطون فى إجابتهم على السائلين لهم .
وقوله : ثُمّ قِيلَ لَهُمْ أيْنَما كُنْتُمْ تُشرِكُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ يقول : ثم قيل : أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياها من دون الله من آلهتكم وأوثانكم حتى يغيثوكم فينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب ، فإن المعبود يغيث من عبده وخدمه وإنما يقال هذا لهم توبيخا وتقريعا على ما كان منهم في الدنيا من الكفر بالله وطاعة الشيطان ، فأجاب المساكين عند ذلك فقالوا : ضلوا عنا : يقول : عدلوا عنا ، فأخذوا غير طريقنا ، وتركونا في هذا البلاء ، بل ما ضلوا عنا ، ولكنا لم نكن ندعو من قبل في الدنيا شيئا : أي لم نكن نعبد شيئا يقول الله تعالى ذكره : كذَلكَ يُضِلّ اللّهُ الكَافِرِينَ يقول : كما أضلّ هؤلاء الذين ضلّ عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله من الاَلهة والأوثان آلهتهم وأوثانهم ، كذلك يضلّ الله أهل الكفر به عنه ، وعن رحمته وعبادته ، فلا يرحمهم فينجيهم من النار ، ولا يغيثهم فيخفف عنهم ما هم فيه من البلاء .
ومعنى { ضَلُوا } غابوا كقوله : { أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] أي غُيبنا في التراب ، ثم عرض لهم فعلموا أن الأصنام لا تفيدهم . فأضربوا عن قولهم : { ضَلُوا عَنَّا } وقالوا : { بَلْ لَمْ نَكُن نَدْعُوا مِن قَبْلُ شَيْئَاً } أي لم نكن في الدنيا ندعو شيئاً يغني عنا ، فنفي دعاء شيء هنا راجع إلى نفي دعاء شيء يُعتدّ به ، كما تقول : حسبتُ أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء ، إن كنتَ خبرته فلم تر عنده خيراً . وفي الحديث : « سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال : « ليسوا بشيء » أي ليسوا بشيء معتدّ به فيما يقصدهم الناس لأجله ، وقال عباس بن مرداس :
وقد كنت في الحرب ذا تدراء *** فلم أعط شيئاً ولم أمنع
وتقدم عند قوله تعالى : { لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل } في سورة [ العقود : 68 ] ، إذ ليس المعنى على إنكار أن يكونوا عبدوا شيئاً لمنافاته لقولهم : { ضَلُّوا عَنَّا } المقتضي الاعترافَ الضمني بعبادتهم .
وفسر كثير من المفسرين قولهم : { بَل لَّمْ نَكُن ندْعُوا من قَبْلُ شيئاً } أنه إنكار لعبادة الأصنام بعد الاعتراف بها لاضطرابهم من الرعب فيكون من نحو قوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] . ويجوز أن يكون لهم في ذلك الموقف مقالان ، وهذا كله قبل أن يحشروا في النار هم وأصنامهم فإنهم يكونون متماثلين حينئذٍ كما قال تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون اللَّه حصب جهنم } .
وجملة { كذلك يُضِلُّ الله الكافرين } تذييل معترض بين أجزاء القول الذي يقال لهم . ومعنى الإِشارة تعجيب من ضلالهم ، أي مثل ضلالهم ذلك يُضل الله الكافرين . والمراد بالكافرين : عموم الكافرين ، فليس هذا من الإِظهار في مقام الإِضمار . والتشبيه في قوله : { كذلك يُضِلُّ الله الكافرين } يُفيد تشبيه إضلال جميع الكافرين بإضلاله هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله ، فتكون جملة { كذلك يُضِلُّ الله الكافرين } تذييلاً ، أي مثل إضلال الذين يجادلون في آيات الله يُضل الله جميع الكافرين ، فيكون إضلال هؤلاء الذين يجادلون مشبهاً به إضلال الكافرين كلهم ، والتشبيه كناية عن كون إضلال الذين يجادلون في آيات الله بلغ قوة نوعه بحيث ينظّر به كل ما خفي من أصناف الضلال ، وهو كناية عن كون مجادلة هؤلاء في آيات الله أشدُّ الكفر .
والتشبيه جار على أصله وهو إلحاق ناقص بكامل في وصف ولا يكون من قبيل { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] ولا هو نظير قوله المتقدم { كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات اللَّه يجحدون } [ غافر : 63 ] .