والذين اجتنبوا الأصنام والشياطين ، ولم يتقربوا إليها ، ورجعوا إلى الله في كل أمورهم ، لهم البشارة العظيمة في جميع المواطن ، فبشر - يا محمد - عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون الأحسن والأهدى إلى الحق ، أولئك - دون غيرهم - الذين يوفقهم الله إلى الهدى ، وأولئك هم - دون غيرهم - أصحاب العقول النَّيِّرة .
ولما أخبر أن لهم البشرى ، أمره اللّه ببشارتهم ، وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ }
وهذا جنس يشمل كل قول فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي اجتنابه ، فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه ، وأحسنه على الإطلاق كلام اللّه وكلام رسوله ، كما قال في هذه السورة : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } الآية .
وفي هذه الآية نكتة ، وهي : أنه لما أخبر عن هؤلاء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، كأنه قيل : هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي الألباب ، وحتى نعرف أن من أثره علمنا أنه من أولي الألباب ؟
قيل : نعم ، أحسنه ما نص اللّه عليه { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } الآية .
{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ } لأحسن الأخلاق والأعمال { وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي : العقول الزاكية .
ومن لبهم وحزمهم ، أنهم عرفوا الحسن من غيره ، وآثروا ما ينبغي إيثاره ، على ما سواه ، وهذا علامة العقل ، بل لا علامة للعقل سوى ذلك ، فإن الذي لا يميز بين الأقوال ، حسنها ، وقبيحها ، ليس من أهل العقول الصحيحة ، أو الذى يميز ، لكن غلبت شهوته عقله ، فبقي عقله تابعا لشهوته فلم يؤثر الأحسن ، كان ناقص العقل .
ثم وصفهم - سبحانه - بما يدل على صفاء عقولهم ، وطهارة قلوبهم ، فقال : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ . . . } .
وللعلماء فى تفسير هذه الجملة الكريمة أقوال منها : أن المراد بالقول الذى يتبعون أحسنه . ما يشمل تعاليم الإِسلام كلها النابعة من الكتاب والسنة .
والمراد بالأحسن الواجب والأفضل ، مع جواز الأخذ بالمندوب والحسن .
فهم يتركون العقاب مع أنه جائز ، ويأخذون بالعفو لأنه الأفضل ، كما قال - تعالى - { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى . . . } وكما قال - سبحانه - : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } فيكون المعنى : الذين يستمعون الأقوال الحسنة والأشد حسنا فيأخذون بما هو أشد حسنا . . .
ومنها أن المراد بالقول هنا ما يشمل الأقوال كلها سواء أكانت طيبة أم غير طيبة ، فهم يستمعون من الناس إلى أقوال متباينة ، فيتبعون الطيب منها ، وينبذون غيره .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } هم الذين اجتنبوا وأنابوا لأغيرهم ، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإِنابة على هذه الصفة . . وأراد أن يكونوا نقادا فى الدين ، مميزين بين الحسن والأحسن ، والفاضل والأفضل ، فإذا اعترضهم أمران : واجب ومندوب ، اختاروا الواجب . . . فهم حريصون على فعل ما هو أكثر ثواباً عند الله .
وقيل : يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن . وقيل : يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها . نحو القصاص والعفو ، والانتصار والإِغضاء .
وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوئ ، فيحدث بأحسن ما سمع ، وكيف عما سواه .
ويبدو لنا أن هذا القول الأخير المأثور عن ابن عباس - رضى الله عنهما - هو أقرب الأقوال إلى الصواب ، لأنه هو الظاهر من معنى الجملة الكريمة .
وقوله - سبحانه - : { وأولئك هُمْ أُوْلُواْ الألباب } ثناء آخر من الله - تعالى - على هؤلاء المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت ، وأخلصوا لله - تعالى - العبادة . أى : أولئك الذين هداهم الله - تعالى - إلى دينه الحق ، وإلى الصراط المستقيم ، وأولئك هم أصحاب العقول السليمة ، والمدارك القويمة ، والقلوب الطاهرة النقية .
قال الآلوسى : وفى الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض ، ولذا قيل :
شمر وكن فى أمور الدين مجتهداً*** ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
واستدل بها على أن الهداية تحصل بفعل الله - تعالى - وقبول النفس لها . . .
هؤلاء من صفاتهم أنهم يستمعون ما يستمعون من القول ، فتلتقط قلوبهم أحسنه وتطرد ما عداه ، فلا يلحق بها ولا يلصق إلا الكلم الطيب ، الذي تزكو به النفوس والقلوب . . والنفس الطيبة تتفتح للقول الطيب فتتلقاه وتستجيب له . والنفس الخبيثة لا تتفتح إلا للخبيث من القول ولا تستجيب إلا له .
( أولئك الذين هداهم الله ) . .
فقد علم الله في نفوسهم خيراً فهداهم إلى استماع أحسن القول والاستجابة له . والهدى هدى الله .
فالعقل السليم هو الذي يقود صاحبه إلى الزكاة ، وإلى النجاة . ومن لا يتبع طريق الزكاة والنجاة فكأنه مسلوب العقل محروم من هذه النعمة التي أعطاها له الله .
وقوله : وَالّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ : أي اجتنبوا عبادة كلّ ما عُبد من دون الله من شيء . وقد بيّنا معنى الطاغوت فيما مضى قبل بشواهد ذلك ، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وذكرنا أنه في هذا الموضع : الشيطان ، وهو في هذا الموضع وغيره بمعنى واحد عندنا . ذكر من قال ما ذكرنا في هذا الموضع :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَالّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ قال : الشيطان .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَالّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ أنْ يَعْبُدُوها قال : الشيطان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ أنْ يَعْبُدُوها قال : الشيطان هو هاهنا واحد وهي جماعة .
والطاغوت على قول ابن زيد هذا واحد مؤنث ، ولذلك قيل : أن يعبدوها . وقيل : إنما أُنثث لأنها في معنى جماعة .
وقوله : وأنابُوا إلى اللّهِ يقول : وتابوا إلى الله ورجعوا إلى الإقرار بتوحيده ، والعمل بطاعته ، والبراءة مما سواه من الاَلهة والأَنداد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأنابُوا إلى اللّهِ : وأقبلوا إلى الله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : وأنابُوا إلى اللّهِ قال : أجابوا إليه .
وقوله : لَهُمُ البُشْرَى يقول : لهم البشرى في الدنيا بالجنة في الاَخرة فَبَشّرْ عِبادِ الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول من القائلين ، فيتبعون أرشده وأهداه ، وأدله على توحيد الله ، والعمل بطاعته ، ويتركون ما سوى ذلك من القول الذي لا يدل على رشاد ، ولا يهدي إلى سداد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَيَتّبِعُونَ أحْسَنَهُ وأحسنه طاعة : الله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : فَيَتّبِعُونَ أحْسَنَهُ قال : أحسن ما يؤمرون به فيعملون به .
وقوله : أُولَئِكَ الّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ يقول تعالى ذكره : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، الذين هداهم الله ، يقول : وفقهم الله للرشاد وإصابة الصواب ، لا الذين يُعْرِضون عن سماع الحقّ ، ويعبدون ما لا يضرّ ، ولا ينفع . وقوله : أُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الألْبابِ يعني : أولو العقول والحجا .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في رهط معروفين وحّدوا الله ، وبرئوا من عبادة كل ما دون الله قبل أن يُبعث نبيّ الله ، فأنزل الله هذه الاَية على نبيه يمدحهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ أنْ يَعْبُدُوها . . . الاَيتين ، حدثني أبي أن هاتين الاَيتين نزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون : لا إله إلا الله : زيد بن عمرو ، وأبي ذرّ الغفاري ، وسلمان الفارسيّ ، نزل فيهم : وَالّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ أنْ يَعْبُدُوها في جاهليتهم وأنابُوا إلى اللّهِ لَهُمُ البُشْرَى فَبَشّرْ عِبادِ الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أحْسَنَهُ لا إله إلا الله ، أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب ولا نبيّ وأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبابِ .
{ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وضع فيه الظاهر موضع ضمير { الذين اجتنبوا } للدلالة على مبدأ اجتنابهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحق والباطل ويؤثرون الأفضل فالأفضل . { أولئك الذين هداهم الله } لدينه . { وأولئك هم أولوا الألباب } العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة ، وفي ذلك دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله وقبول النفس لها .
وقوله تعالى : { الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه } كلام عام في جميع الأقوال ، وإنما القصد الثناء على هؤلاء ببصائر هي لهم وقوام في نظرهم حتى أنهم إذا سمعوا قولاً ميزوه واتبعوا أحسنه .
واختلف المفسرون في العبارة عن هذا ، فقالت فرقة : أحسن القول كتاب الله ، أي إذا سمعوا الأقاويل وسمعوا القرآن اتبعوا القرآن . وقالت فرقة : القول هو القرآن و { أحسنه } ما فيه من عفو وصفح واحتمال على صبر ونحو ذلك . وقال قتادة : أحسن القول طاعة الله ، وهذه أمثلة وما قلناه أولاً يعمها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم فقال: {الذين يستمعون القول} القرآن.
{فيتبعون أحسنه} أحسن ما في القرآن من طاعة الله عز وجل، ولا يتبعون المعاصي مثل قوله:
{واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} أي من طاعته.
{أولئك الذين هداهم الله} لدينه.
{وأولئك هم أولوا الألباب} أهل اللب والعقل حين يستمعون فيتبعون أحسنه من أمره ونهيه، أحسن ما فيه من أمره ونهيه، ولا يتبعون السوء الذي ذكره عن غيرهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 17]
وقوله:"وَالّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ": أي اجتنبوا عبادة كلّ ما عُبد من دون الله من شيء. وقد بيّنا معنى الطاغوت فيما مضى قبل بشواهد ذلك، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وذكرنا أنه في هذا الموضع: الشيطان، وهو في هذا الموضع وغيره بمعنى واحد عندنا...
وقوله: "وأنابُوا إلى اللّهِ "يقول: وتابوا إلى الله ورجعوا إلى الإقرار بتوحيده، والعمل بطاعته، والبراءة مما سواه من الآلهة والأَنداد...
وقوله: "لَهُمُ البُشْرَى "يقول: لهم البشرى في الدنيا بالجنة في الآخرة. "فَبَشّرْ عِبادِ الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ" يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول من القائلين، فيتبعون أرشده وأهداه، وأدله على توحيد الله، والعمل بطاعته، ويتركون ما سوى ذلك من القول الذي لا يدل على رشاد، ولا يهدي إلى سداد...
وقوله: "أُولَئِكَ الّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ" يقول تعالى ذكره: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، "الذين هداهم الله"، يقول: وفقهم الله للرشاد وإصابة الصواب، لا الذين يُعْرِضون عن سماع الحقّ، ويعبدون ما لا يضرّ ولا ينفع. وقوله: "أُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الألْبابِ" يعني: أولو العقول والحجا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف فيه: قال بعضهم: الذين يستمعون كلام الناس من الخير والشر والحسن والقبيح {فيتبعون أحسنه} أي يرون، ويحكمون منه ما هو خير وحسن، ويتركون ما هو شر وقبيح.
وقال بعضهم: يستمعون القرآن وكلام الناس وأحاديثهم، فيأخذون بالقرآن، ويتبعونه، ويتركون كلام الناس وأحاديثهم؛ فهو اتباع الأحسن منه، وهو القرآن...
وجائز يتبعون الحسن منه؛ والأحسن بمعنى الحسن.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ} أولئك هم المنتفعون بألبابهم وعقولهم حين اختاروا وآثروا هداية الله، ونظروا إليها بالتعظيم والإجلال، واهتدوا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما قال "أحسنه "ولم يقل حسنه؛ لأنه أراد ما يستحق به المدح والثواب، وليس كل حسن يستحق به ذلك؛ لأن المباح حسن ولا يستحق به مدح ولا ثواب. والأحسن الأولى بالفعل في العقل والشرع...
" وأولئك هم أولوا الالباب "أولوا العقول على الحقيقة؛ لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم من حيث اتبعوا ما يجب اتباعه، والكفار وإن كان لهم عقول فكأنهم لا عقول لهم من حيث إنهم لم ينتفعوا بما دعوا إليه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} يقتضي أن يكون الاستماع لكل شيء، ولكن الاتباع يكون للأحسن...
الثاني: الأحسن على المبالغة، والحَسَنُ ما كان مأذوناً فيه في صفة الخَلْق ويعْلَمُ ذلك بشهادة العلم، والأحسن هو الأَوْلَى والأصوب، ويقال الأحسن ما كان لله دون غيره، ويقال الأحسن هو ذكر الله خالصاً له. ويقال مَنْ عَرَفَ الله لا يسمع إلا بالله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
كلام عام في جميع الأقوال، وإنما القصد الثناء على هؤلاء ببصائر هي لهم وقوام في نظرهم حتى أنهم إذا سمعوا قولاً ميزوه واتبعوا أحسنه...
اعلم أنه تعالى: لما قال: {لهم البشرى} وكان هذا كالمجمل أردفه بكلام يجري مجرى التفسير والشرح له فقال تعالى: {فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} وأراد بعباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم، وهذا يدل على أن رأس السعادات ومركز الخيرات ومعدن الكرامات هو الإعراض عن غير الله تعالى، والإقبال بالكلية على طاعة الله، والمقصود من هذا اللفظ التنبيه على أن الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا، هم الموصوفون بأنهم هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فوضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على هذا الحرف.
ومنهم من قال إنه تعالى لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى، وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأولون، وقصر السعادة عليهم يقتضي الحرمان للأكثرين، وذلك لا يليق بالرحمة التامة، لا جرم جعل الحكم أعم، فقال كل من اختار الأحسن في كل باب كان في زمرة السعداء...
واعلم أن هذه الآية تدل على فوائد:...
الفائدة الأولى: وجوب النظر والاستدلال؛ وذلك لأنه تعالى بين أن الهداية والفلاح مرتبطان بما إذا سمع الإنسان أشياء كثيرة، فإنه يختار منها ما هو الأحسن الأصوب ومن المعلوم أن تمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يحصل بالسماع؛ لأن السماع صار قدرا مشتركا بين الكل، لأن قوله: {الذين يستمعون القول} يدل على أن السماع قدر مشترك فيه، فثبت أن تمييز الأحسن عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما يتأتى بحجة العقل، وهذا يدل على أن الموجب لاستحقاق المدح والثناء متابعة حجة العقل وبناء الأمر على النظر والاستدلال...
الفائدة الثانية: أن الطريق إلى تصحيح المذاهب والأديان قسمان:
أحدهما: إقامة الحجة والبينة على صحته على سبيل التحصيل، وذلك أمر لا يمكن تحصيله إلا بالخوض في كل واحد من المسائل على التفصيل.
والثاني: أنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها، نعرض تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا، فكل ما حكم أول العقل بأنه أفضل وأكمل كائن أولى بالقبول...
واعلم أنه تعالى حكم على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال: {أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} وفي ذلك دقيقة عجيبة، وهي أن حصول الهداية في العقل والروح أمر حادث، ولا بد له من فاعل وقابل: أما الفاعل فهو الله سبحانه وهو المراد من قوله: {أولئك الذين هداهم الله} وأما القابل فإليه الإشارة بقوله: {وأولئك هم أولوا الألباب} فإن الإنسان ما لم يكن عاقلا كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه.
وإنما قلنا إن الفاعل لهذه الهداية هو الله؛ وذلك لأن جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق والاعتقاد الباطل، وإذا كان الشيء قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية، ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون ذلك القابل سببا لرجحان أحد الطرفين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الذين يستمعون} أي بجميع قلوبهم.
{القول} أي هذا الجنس من كل قائل ليسوا جفاة عساة إذا أقبلوا على شيء أعرضوا عن غيره بغير دليل.
{فيتبعون} بكل عزائمهم بعد انتقاده.
{أحسنه} بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى هوى، ويدخل في هذه الآية دخولاً بيناً، حث أهل الكتاب على اتباع هذا القرآن العظيم، فإن كتب الله كلها حسنة، وهذا القرآن أحسنها كلاماً ومعاني ونظاماً، لا يشك في هذا أحد له أدنى ذوق.
ولما بين عملهم، أنتج ذلك مدحهم فقال مظهراً زيادة المحبة لهم والاهتمام بشأنهم بالتأكيد: {أولئك} أي العالو الهمة والرتبة خاصة.
{الذين} ولما كان في هؤلاء المجتبين العالو الرتبة جداً وغيره، أبرز المفعول فقال محولاً الأسلوب إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم هدايتهم: {هداهم الله} بما له من صفات الكمال فبين سبحانه أن لا وصول إليه إلا به، وهذا بخلاف آية الأنعام حيث ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال {أولئك الذين هدى الله} فحذف المفعول لتصير هدايتهم مكررة بوجوب تسليط العامل على الموصول الذي أعاد عليه الضمير في هذه الآية، وكرر الإشارة زيادة في تعظيمهم فقال: {وأولئك هم} أي خاصة.
{أولوا الألباب} العقول الصافية عن شوب كدر...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
هم الموصُوفون بالاجتنابِ والإنابةِ بأعيانهم لكنْ وُضع موضعَ ضميرِهم الظَّاهرُ تشريفاً لهم بالإضافةِ ودلالةً على أنَّ مدارَ اتصافِهم بالوصفينِ الجليلينِ كونُهم نُقَّاداً في الدَّينِ يميِّزون الحقَّ من الباطلَ ويؤُثرون الأفضلَ فالأفضلَ.
{أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتِّصافهم بما ذُكر من النَّعوتِ الجليلةِ، وما فيه من مَعْنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهم وبُعدِ منزلتِهم في الفضلِ، ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعده من الموصولِ أي أولئك المنعوتُون بالمحاسنِ الجميلةِ.
{الذين هَدَاهُمُ الله} للدِّين الحقِّ.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يتبعون القول الحسن من تلك الأقوال، فاسم التفضيل هنا ليس مستعملاً في تفاوت الموصوف به في الفضل على غيره فهو للدلالة على قوة الوصف، مثل قوله تعالى: {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} [يوسف: 33].
أثنى الله عليهم بأنهم أهل نقد يميزون بين الهدى والضلال والحكمة والأوهام نُظّار في الأدلة الحقيقية نُقّاد للأدلة السفسطائية، وفي الموصول إيماء إلى أن اتباع أحسن القول سبب في حصول هداية الله إياهم...
{أُولئِكَ الذينَ هداهُم الله} مستأنفة لاسترعاء الذهن لتلقي هذا الخبر. وأكد هذا الاسترعاء بجعل المسند إليه اسم إشارة ليتميز المشار إليهم أكمل تميزه مع التنبيه على أنهم كانوا أحرياء بهذه العناية الربانية؛ لأجل ما اتصفوا به من الصفات المذكورة قبل اسم الإِشارة...
وقد أفاد تعريف الجزأين في قوله: {أُولئكَ الذينَ هداهُم الله} قصر الهداية عليهم وهو قصر صفة على موصوف وهو قصر إضافي قصر تعيين، أي دون الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم...
{هدَاهُمُ الله} أنهم نالوا هذه الفضيلة بأن خلق الله نفوسهم قابلة للهدى الذي يخاطبهم به الرسول صلى الله عليه وسلم فتهيأت نفوسهم لذلك وأقبلوا على سماع الهدى بشَرَاشِرهم وسعوا إلى ما يبلغهم إلى رضاه وطلبوا النجاة من غضبه. وليس المراد بهدي الله إياهم أنه وجه إليهم أوامر إرشاده؛ لأن ذلك حاصل للذين خوطبوا بالقرآن فأعرضوا عنه ولم يتطلبوا البحث عما يرضي الله تعالى فأصروا على الكفر. وأشارت جملة {وأُولئِكَ هُم أُولوا الألبَابِ} إلى معنى تهيئهم للاهتداء بما فطرهم الله عليه من عقول كاملة، وأصل الخِلقة ميَّالة لفهم الحقائق غير مكترثة بالمألوف ولا مُرَاعاة الباطل، على تفاوت تلك العقول في مدى سرعة البلوغ للاهتداء، فمنهم من آمن عند أول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مثل خديجة وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، ومنهم من آمن بُعيد ذلك أو بَعده، فأشير إلى رسوخ هذه الأحوال في عقولهم بذكر ضمير الفصل مع كلمة {أُولُوا} الدالة على أن الموصوف بها ممسك بما أضيفت إليه كلمة {أُوْلُوا}، وبما دل عليه تعريف {الألبابِ} من معنى الكمال فليس التعريف فيه تعريف الجنس؛ لأن جنس الألباب ثابت لجميع العقلاء، وأشار إعادة اسم الإِشارة إلى تميزهم بهذه الخصلة من بين نظرائهم وأهل عصرهم...
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} القول لا بدَّ أنْ يكون من قائل، فإذا استمعوا القول من قائل يتبعون أحسن ما قيل، وأن ما قيل يكون من أحسن قائل، وإذا نظرنا إلى أحسن قائل لا نجد إلا الحق سبحانه وتعالى، فإذا أمر الله بحكم فاتبعوه فقوله أحسن القول، وأمره أنفع أمر.
والحق سبحانه لا يستفيد من أوامره لكم، ولا تضره معصيتكم، فأنتم إذن المنتفعون بالمنهج، المستفيدون من تنفيذه، ثم أنتم خَلْق الله وصَنْعته، ويعز عليه سبحانه أن تنحرف هذه الصنعة أو تعذَّب.
ثم يريد سبحانه من منهجه وشرعه أنْ يُديمَ عليكم عطاءه ونعمه، وأن تكون نعمة الدنيا موصولة لكم بنعمة الآخرة...
أو: أحسن ما قيل يعني الإسلام، فالإسلام جاء والناس أصناف شتَّى: كفرة لا يؤمنون بإله، ومشركون يؤمنون بإله معه غيره، وأتباع ديانات كان لها كتب ورسل سابقون كاليهود والنصارى. فهؤلاء الذين عاصروا الإسلام إنْ يستمعوا يستمعوا لقول هذا وقول ذاك، يستمعوا للكفار والملاحدة وللمشركين ولأصحاب الكتب السابقة.
فكأن الحق سبحانه يقول: اعرضوا هذه الأقوال على عقولكم، واختاروا أحسنها ولا تتعصبوا لقول دون أنْ تبحثوه وتقارنوه بغيره، فإن فعلتم ذلك وإنْ توفرت لكم هذه الموضوعية فلن تجدوا إلا الإسلام أحسن الأقوال والأَوْلَى بالاتباع، فهو الدين الذي جمع للناس كلَّ خير، ونأى بهم عن كل شر.
وهو الدين الذي جاء مهيمناً على جميع الأديان قبله، وكتابه المهيمن على كل الكتب قبله، وجاء الإسلام ديناً عاماً في الزمان وفي المكان؛ لذلك هو الدين الخاتم الذي لا دينَ بعده، ولا كتابَ بعد كتابه، ولا رسول بعد رسوله.
ودينٌ هذه صفاته لا بدَّ أن يكون قد استوفى كلّ شروط الكمال، كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلٰمَ دِيناً..} [المائدة: 3] فالإسلام إذن أحسن الأديان، وأحسن الأقوال، وأحسن ما نتبعه.
ثم تستمر الآيات في وَصْف المؤمنين الذين اجتنبوا الطاغوت أنْ يعبدوها، والذين أنابوا إلى الله والذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه {أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} هداهم يعني دلَّهم وأرشدهم، فلما اتبعوا دلالته وإرشاده ولم يكُنْ في نفوسهم عناد لهذه الدلالة أعطاهم هدايةَ التوفيق والإيمان فآمنوا...
كذلك الحق سبحانه يعطي عبده هداية الدلالة والإرشاد، وهذه للمؤمن وللكافر، فمَنْ أطاع في الأولى أخذ الثانية، وهي هداية المعونة، وهذه للمؤمن دون الكافر، فكأن الله تعالى يقول لعبده المؤمن: أنت آمنت بي، وسمعتَ كلامي، وأطعتَ فسوف أعينك على الطاعة، وأخفف أمرها عليك، وأُعسِّر عليك أمر المعصية.
وهذه من أعظم نِعَم الله على العبد أنْ يُيسِّر له أمر الطاعة، ويُعينه على مشقاتها، وفي المقابل يقفل دونه أبواب المعصية ودواعيها. وهذا معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
فمعنى (زادهم هدى) يعني: أعطاهم هداية المعونة على الإيمان.
وقوله: {وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أي: أصحاب العقول المفكرة المعتبرة، لأنهم نشروا أمامهم كل الأقوال، وبحثوها وقارنوا بينها، وأخذوا أحسنها الذي يحقق لهم السعادة والمصلحة والانسجام في حركة الحياة بلا تعاند، بل حركة مستقيمة متساندة تنفي من القلوب: الحقد والغل والحسد، وتمنع الانحراف من: سرقة وغش ورشوة واغتصاب.. إلخ.
فمَنْ يصادم مثل هذا المنهج؟ ومَنْ يرفضه؟ إنه منهج مستقيم لا يملك العقل السليم إلا الإذعان له والسير على هَدْيه، لذلك سمى الله هؤلاء الذين اختاروا هذا المنهج سماهم {أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [الزمر: 18] أي أصحاب العقول، والعقل مهمته أن يعقل الفكر فلا يشطح، بل يعرض المسائل ويختار من البدائل ما يصلحه، لكن آفة الرأي الهوى، فالهوى هو الذي يصرفك عن مقول العقل إلى مقول الهوى.
قول آخر يقول: المراد بقوله تعالى {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أنه خاصٌّ بمَنْ يستمعون أقوال الإسلام، فيتبعون أحسن هذه الأقوال؛ لذلك جاء بصيغة التفضيل (أحسن) فكأن في الإسلام (قول حسن) و (أحسن)، فهذا الرأي لا يأخذ المسألة على العموم، إنما يجعلها خاصة بأقوال الإسلام، وهي كلها مُتصفة بالحُسْن، لكن منها حسن وأحسن، وأصحاب العقول المتأملة يختارون منها الأحسن.
ومثال ذلك: شرع الإسلامُ مثلاً القصاصَ من القاتل وشرع الدية عليه، وشرع أيضاً العفو، فقال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ..} [البقرة: 178] فمن أخذ بالقصاص أو الدية أخذ بالحسن، ومَنْ تسامى إلى العفو أخذ بالأحسن.
كذلك في قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ..} [البقرة: 271] فإنْ أبديتَ الصدقة فأنت غير آثم، بل هو أمر حسن، لكن الأحسن منه أنْ تخفيها.