{ 27 - 29 } { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ }
يخبر تعالى أن الذين كفروا بآيات الله يتعنتون على رسول الله ، ويقترحون ويقولون : { لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ } وبزعمهم أنها لو جاءت لآمنوا فأجابهم الله بقوله : { قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } أي : طلب رضوانه ، فليست الهداية والضلال بأيديهم حتى يجعلوا ذلك متوقفا على الآيات ، ومع ذلك فهم كاذبون ، { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون }
ولا يلزم أن يأتي الرسول بالآية التي يعينونها ويقترحونها ، بل إذا جاءهم بآية تبين ما جاء به من الحق ، كفى ذلك وحصل المقصود ، وكان أنفع لهم من طلبهم الآيات التي يعينونها ، فإنها لو جاءتهم طبق ما اقترحوا فلم يؤمنوا بها لعاجلهم العذاب .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك بعض المطالب المعنتة التي طلبها الكافرون من النبى - صلى الله عليه وسلم - ورد عليها بما يبطلها ، ومدح المؤمنين لاطمئنان قلوبهم إلى سلامة دينهم من كل نقص ، وأيأسهم من إيمان أعدائهم لاستيلاء العناد والجحود على قلوبهم ، فقال - تعالى - :
{ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ . . . } .
قوله - سبحانه - { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } حكاية لما طلبه مشركو مكة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التعنت والطغيان . ومرادهم بالآية : آية كونية كإحياء الموتى وإزاحة الجبال من أماكنها " لولا " هنا : حرف تحضيض بمعنى هلا .
أى : ويقول الكافرون على سبيل العناد والجحود ، هلا أنزل على هذا الرسول آية كونية تدل على صدقه ، كأن يحيى لنا موتانا ، أو أن يحول لنا جبل الصفا ذهبا . .
وكأنهم يرون أن القرآن الذي نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - لا يكفى - في زعمهم - أن يكون آية ومعجزة شاهدة على صدقه .
وقد أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم بقوله : { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } .
أى : قل لهم أيها الرسول الكريم على سبيل التعجب من أحوالهم ومن شدة ضلالهم : إن الله - تعالى - يضل عن طريق الحق من يريد إضلاله ، لاستحباب هذا الضال العمى على الهدى ، ويهدى إلى صراطه المستقيم ، من أناب إليه - سبحانه - ورجع إلى الحق الذي جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقلب سليم ، وعقل متفتح لمعرفة الصواب والرشاد .
فالجملة الكريمة تعجيب من أقوالهم الباطلة ، ومن غفلتهم عن الآيات الباهرة التي أعطاها الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسها القرآن الكريم الذي هو آية الآيات ، وحض لهم على الإِقلاع عما هم عليه من العنو والعناد .
والإِنابة : الرجوع إلى الشئ بعد تردد ، فقد جرت عادة كثيرة من النفوس البشرية أن يعرض عليها الحق فتتردد في قبوله في أول الأمر ، ثم تعود إلى قبوله واعتناقه بعد قيام الدلائل على صحته وسلامته من الفساد .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف طابق قولهم { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } قوله { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ . . . } ؟
قلت : هو كلام يجرى مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن الآيات الباهرة والمتكاثرة التي أوتيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤتها نبى قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية . فإذا جحدوها ولم يهتدوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط ، كان موضعاً للتعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم ، إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدة الشكيمة في الكفر ، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية { ويهدي إِلَيْهِ مَنْ } كان على خلاف صفتكم { أَنَابَ } أقبل إلى الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّ اللّهَ يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } .
يقول تعالى ذكره : ويقول لك يا محمد مشركو قومك : هلا أنزل عليك آية من ربك ، إما ملَك يكون معك نذيرا ، أو يلقى إليك كنز ، فقل : إن الله يضلّ منكم من يشاء أيها القوم فيخذله عن تصديقي والإيمان بما جئته به من عند ربي وليس ضلال من يضلّ منكم بأن لم ينزل على آية من ربي ولا هداية من يهتدى منكم بأنها أنزلت عليّ ، وإنما ذلك بيد الله ، يوفّق من يشاء منكم للإيمان ويخذل من يشاء منكم فلا يؤمن . وقد بيّنت معنى الإنابة في غير موضع من كتابنا هذا بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيهْدِي إلَيهِ مَنْ أنابَ : أي من تاب وأقبل .
عطف غرض على غرض وقصةٍ على قصة . والمناسبة ذكر فرحهم بحياتهم الدنيا وقد اغتروا بما هم عليه من الرزق فسألوا تعجيل الضرّ في قولهم : { اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ سورة الأنفال : 32 ] . وهذه الجملة تكرير لنظيرتها السابقة { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر } [ سورة الرعد : 7 ] . فأعيدت تلك الجملة إعادةَ الخطيب كلمةً من خطبته ليأتي بما بقي عليه في ذلك الغرض بعد أن يفصل بما اقتضى المقام الفصل به ثم يتفرغ إلى ما تركه من قبل ، فإنه بعد أن بَينتْ الآيات السابقة أنّ الله قادر على أن يعجل لهم العذاب ولكن حكمته اقتضت عدم التنازل ليتحدى عبيده فتبين ذلك كله كمال التبيين . وكل ذلك لاحق بقوله : { وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا تراباً إنا لفي خلق جديد } [ سورة الرعد : 5 ] ، وعود إلى المهم من غرض التنويه بآية القرآن ودلالته على صدق الرسول ، ولهذا أطيل الكلام على هدي القرآن عقب هذه الجملة .
ولذلك تعين أن موقع جملة { إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } موقع الخبر المستعمل في تعجيب الرسول عليه الصلاة والسلام من شدة ضلالهم بحيث يوقن من شاهد حالهم أن الضلال والاهتداء بيد الله وأنهم لولا أنهم جبلوا من خلقة عقولهم على اتباع الضلال لكانوا مُهتدين لأن أسباب الهداية واضحة .
أحدها : أن آيات صدق النبي صلى الله عليه وسلم واضحة لولا أن عقولهم لم تدركها لفساد إدراكهم .
الثاني : أن الآيات الواضحة الحسية قد جاءت لأمم أخرى فرأوها ولم يؤمنوا ، كما قال تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها } [ سورة الإسراء : 59 ] .
الثالث : أن لعدم إيمانهم أسباباً خفية يعلمها الله قد أبهمت بالتعليق على المشيئة في قوله : { يضل من يشاء } منها ما يُومىء إليه قوله في مقابلة { ويهدي إليه من أناب } . وذلك أنهم تكبروا وأعرضوا حين سمعوا الدعوة إلى التوحيد فلم يتأملوا ، وقد ألقيت إليهم الأدلة القاطعة فأعرضوا عنها ولو أنابوا وأذعنوا لهداهم الله ولكنهم نفروا . وبهذا يظهر موقع ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجيب به عن قولهم : { لولا أنزل عليه آية من ربه } بأن يقول : { إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } ، وأن ذلك تعريض بأنهم ممن شاء الله أن يكونوا ضالين وبأن حالهم مثار تعجب .
والإنابة : حقيقتها الرجوع . وأطلقت هنا على الاعتراف بالحق عند ظهور دلائله لأن النفس تنفر من الحق ابتداء ثم ترجع إليه ، فالإنابة هنا ضد النفور .