إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ} (27)

{ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ } أي أهلُ مكة ، وإيثارُ هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتِهم عقيبَ ذكرِ فرحِهم بالحياة الدنيا لذمهم والتسجيلِ عليهم بالكفر فيما حُكي عنهم من قولهم : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ من ربّهِ } فإن ذلك في أقصى مراتبِ المكابرةِ والعِناد كأن ما أنزل عليه الصلاة والسلام من الآيات العظامِ الباهرةِ ليس بآية حتى اقترحوا ما تقتضيه الحِكمةُ من الآيات المحسوسةِ التي لا يبقى لأحد بعد ذلك طاقةٌ بعدم القَبول ولذلك أُمر في الجواب بقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء } إضلالَه مشيئةً تابعة للحكمة الداعيةِ إليها أي يخلُق فيه الضلال لصرفه اختيارَه إلى تحصيله ويدعُه منهمكاً فيه لعلمه بأنه لا ينجَع فيه اللطفُ ولا ينفعه الإرشاد ، كمن كان على صفتكم في المكابرة والعِناد وشدةِ الشكيمةِ والغلوِّ في الفساد ، فلا سبيل له إلى الاهتداء ولو جاءتْه كلُّ آية { وَيَهْدِى إِلَيْهِ } أي إلى جنابه العليِّ الكبير هدايةً موصِلةً إليه لا دَلالةً مطلقة على ما يوصِل إليه فإن ذلك غيرُ مختصٍ بالمهتدين ، وفيه من تشريفهم ما لا يوصف { مَنْ أَنَابَ } أقبل إلى الحق وتأملَ في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحةِ ، وحقيقةُ الإنابة الدخولُ في نوبة الخير ، وإيثارُ إيرادِها في الصلة على إيراد المشيئةِ كما في الصلة الأولى لا للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعارِ بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة ، وفيه حث للكفرة على الأقلاع عما هم عليه من العتو والعِناد ، وإيثارُ صيغةِ الماضي للإيماء إلى استدعاء الهدايةِ لسابقة الإنابة كما أن إيثارَ صيغةِ المضارعِ في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئةِ حسب استمرار مكابرتهم .