{ 42 - 45 } { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
يقول تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ } من الأمم السالفين ، والقرون المتقدمين ، فكذبوا رسلنا ، وجحدوا بآياتنا . { فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ } أي : بالفقر والمرض والآفات ، والمصائب ، رحمة منا بهم . { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } إلينا ، ويلجأون عند الشدة إلينا .
ثم أخذ القرآن فى تسلية النبى صلى الله عليه وسلم وفى بيان أحوال الأمم الماضية فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } .
البأساء : تطلق على المشقة والفقر الشديد ، وعلى ما يصيب الأمم من أزمات تجتاحها بسبب الحروب والنكبات . والضراء . تطلق على الأمراض والأسقام التى تصيب الأمم والأفراد .
والمعنى : ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلا إلى أقوامهم ، فكان هؤلاء الأقوام أعتى من قومك فى الشرك والجحود ، فعاقبناهم بالفقر الشديد والبلاء المؤلم ، لعلهم يخضعون ويرجعون عن كفرهم وشركهم .
فالآية الكريمة تصور لوناً من ألوان العلاج النفسى الذى عالج الله به الأمم التى تكفر بأنعمه ، وتكذب أنبياءه ورسله ، إذ أن الآلام والشدائد علاج للنفوس المغرورة بزخارف الدنيا ومتها إن كانت صالحة للعلاج .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىَ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضّرّآءِ لَعَلّهُمْ يَتَضَرّعُونَ } . .
يقول تعالى ذكره متوعدا لهؤلاء العادلين به الأصنام ، ومحذّرهم أن يسلك بهم إن هم تمادوا في ضلالهم سبيل من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم في تعجيل الله عقوبته لهم في الدنيا ، ومخبرا نبيه عن سنته في الذين خلوا قبلهم من الأمم على منهاجهم في تكذيب الرسل : وَلَقَدْ أرْسَلْنا يا محمد إلى أُمَمٍ يعني : إلى جماعات وقرون ، مِنْ قَبْلِكَ فأخَذْناهُمْ بالبَأْساءِ يقول : فأمرناهم ونهيناهم ، فكذّبوا رسلنا وخالفوا أمرنا ونهينا ، فامتحناهم بالابتلاء بالبأساء ، وهي شدّة الفقر والضيق في المعيشة والضّرّاء وهي الأسقام والعلل العارضة في الأجسام . وقد بينا ذلك بشواهده ووجوه إعرابه في سورة البقرة بما أغني عن إعادته في هذا الموضع . وقوله : لَعَلّهُمْ يَتَضَرّعُونَ يقول : فعلنا ذلك بهم ليتضرّعوا إليّ ، ويخلصوا لي العبادة ، ويفردوا رغبتهم إليّ دون غيري بالتذلل منهم لي بالطاعة والاستكانة منهم إليّ بالإنابة . وفي الكلام محذوف قد استغني بما دلّ عليه الظاهر عن إظهاره من قوله : وَلَقَدْ أرْسَلْنا إلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأخَذْناهُمْ . وإنما كان سبب أخذه إياهم تكذيبهم الرسل وخلافهم أمره ، لا إرسال الرسل إليهم . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن معنى الكلام : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً فكذّبوهم ، فأخذناهم بالبأساء . والتضرّع : هو التفعل من الضراعة ، وهي الذلة والاستكانة .
في الكلام حذف يدل عليه الظاهر تقديره فكذبوا فأخذناهم ، ومعناه لازمناهم وتابعناهم الشيء بعد الشيء ، «البأساء » المصائب في الأموال ، { والضراء } في الأبدان ، هذا قول الأكثر ، وقيل : قد يوضع كل واحد بدل الآخر ، ويؤدب الله تعالى عباده { بالبأساء والضراء } ومن هنالك أدب العباد نفوسهم بالبأساء في تفريق المال ، والضراء في الحمل على البدن في جوع وعري ، والترجي في «لعل » في هذا الموضع إنما هو على معتقد البشر لو رأى أحد ذلك لرجا تضرعهم بسببه ، والتضرع التذلل والاستكانة ، وفي المثل إن الحمى أضرعتني لك{[4916]} ، ومعنى الآية توعد الكفار وضرب المثل لهم .
لمّا أنذرهم بتوقّع العذاب أعقبه بالاستشهاد على وقوع العذاب بأمم من قبل ، ليَعلَم هؤلاء أنّ تلك سنة الله في الذين ظلموا بالشرك .
وهذا الخبر مستعمل في إنذار السامعين من المشركين على طريقة التعريض ، وهم المخاطبون بالقول المأمور به في الجملة التي قبلها .
فجملة : { ولقد أرسلنا } عطف على جملة : { قل أرأيتكم } [ الأنعام : 40 ] ، والواو لعطف الجمل ، فتكون استئنافية إذ كانت المعطوف عليها استئنافاً . وافتتحت هذه الجملة بلام القسم و ( قد ) لتوكيد مضمون الجملة ، وهو المفرّع بالفاء في قوله : { فأخذناهم بالبأساء والضرّاء } . نزّل السامعون المعرّض بإنذارهم منزلة من ينكرون أن يكون ما أصاب الأمم الذين من قبلهم عقاباً من الله تعالى على إعراضهم .
وقوله : { فأخذناهم } عطف على { أرسلنا } باعتبار ما يؤذن به وصف { مِنْ قبلك } من معاملة أممهم إيّاهم بمثل ما عاملك به قومك ، فيدلّ العطف على محذوف تقديره : فكذّبوهم .
ولمّا كان أخذهم بالبأساء والضرّاء مقارناً لزمن وجود رسلهم بين ظهرانيهم كان الموقع لفاء العطف للإشارة إلى أنّ ذلك كان بمرأى رسلهم وقبل انقراضهم ليكون إشارة إلى أنّ الله أيّد رسله ونصرهم في حياتهم ؛ لأنّ أخذ الأمم بالعقاب فيه حكمتان : إحداهما : زجرهم عن التكذيب ، والثانية : إكرام الرسل بالتأييد بمرأى من المكذّبين . وفيه تكرمة للنبيء صلى الله عليه وسلم بإيذانه بأنّ الله ناصره على مكذّبيه .
ومعنى { أخذناهم } أصبناهم إصابة تمكّن . وتقدّم تفسير الأخذ عند قوله تعالى : { أخذتْه العزّة بالإثم } في سورة [ البقرة : 206 ] .
وقد ذكر متعلّق الأخذ هنا لأنّه أخْذ بشيء خاصّ بخلاف الآتي بُعيد هذا .
والبأساء والضرّاء تقدّماً عند قوله تعالى : { والصابرين في البأساء والضرّاء } في سورة [ البقرة : 177 ] . وقد فسّر البأساء بالجوع والضرّاء بالمرض ، وهو تخصيص لا وجه له ، لأنّ ما أصاب الأمم من العذاب كان أصنافاً كثيرة . ولعلّ من فسَّره بذلك اعتبر ما أصاب قريشاً بدعوة النبي .
و ( لَعلّ ) للترّجي . جُعل علّة لابتداء أخذهم بالبأساء والضرّاء قبل الاستئصال .
ومعنى { يتضرّعون } يتذلّلون لأنّ الضراعة التذلّل والتخشّع ، وهو هنا كناية عن الاعتراف بالذنب والتوبة منه ، وهي الإيمان بالرسل .
والمراد : أنّ الله قدّم لهم عذاباً هيّناً قبل العذاب الأكبر ، كما قال : { ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّهم يرجعون } [ السجدة : 21 ] وهذا من فرط رحمته الممازجة لمقتضى حكمته ؛ وفيه إنذار لقريش بأنّهم سيصيبهم البأساء والضرّاء قبل الاستئصال ، وهو استئصال السيف . وإنّما اختار الله أن يكون استئصالهم بالسيف إظهاراً لكون نصر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم كان بيده ويد المصدّقين به . وذلك أوقع على العرب ، ولذلك روعي حال المقصودين بالإنذار وهم حاضرون . فنزّل جميع الأمم منزلتهم ، فقال : { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا } ، فإنّ ( لولا ) هنا حرف توبيخ لدخولها على جملة فعلية ماضوية واحدة ، فليست ( لولا ) حرفَ امتناع لوجود .
والتوبيخ إنّما يليق بالحاضرين دون المنقرضين لفوات المقصود . ففي هذا التنزيل إيماء إلى مساواة الحالين وتوبيخ للحاضرين بالمهمّ من العبرة لبقاء زمن التدارك قطعاً لمعذرهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد أرسلنا} الرسل {إلى أمم من قبلك}، فكذب بهم قومهم كما كذب بك كفار مكة، {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم} لكي {يتضرعون} إلى ربهم فيتوبون إليه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره متوعدا لهؤلاء العادلين به الأصنام، ومحذّرهم أن يسلك بهم إن هم تمادوا في ضلالهم سبيل من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم في تعجيل الله عقوبته لهم في الدنيا، ومخبرا نبيه عن سنته في الذين خلوا قبلهم من الأمم على منهاجهم في تكذيب الرسل:"وَلَقَدْ أرْسَلْنا" يا محمد "إلى أُمَمٍ": إلى جماعات وقرون، "مِنْ قَبْلِكَ فأخَذْناهُمْ بالبَأْساءِ": فأمرناهم ونهيناهم، فكذّبوا رسلنا وخالفوا أمرنا ونهينا، فامتحناهم بالابتلاء بالبأساء، وهي شدّة الفقر والضيق في المعيشة "والضّرّاء "وهي الأسقام والعلل العارضة في الأجسام. "لَعَلّهُمْ يَتَضَرّعُونَ" يقول: فعلنا ذلك بهم ليتضرّعوا إليّ، ويخلصوا لي العبادة، ويفردوا رغبتهم إليّ دون غيري بالتذلل منهم لي بالطاعة والاستكانة منهم إليّ بالإنابة. وفي الكلام محذوف قد استغني بما دلّ عليه الظاهر عن إظهاره من قوله: "وَلَقَدْ أرْسَلْنا إلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأخَذْناهُمْ". وإنما كان سبب أخذه إياهم تكذيبهم الرسل وخلافهم أمره، لا إرسال الرسل إليهم. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن معنى الكلام: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً فكذّبوهم، فأخذناهم بالبأساء. والتضرّع: هو التفعل من الضراعة، وهي الذلة والاستكانة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذتهم بالبأساء والضراء} اختلف فيه: قال بعضهم: البأساء: الشدائد التي تصيبهم من العدو، والضراء: ما يحل بهم من البلاء والسقم السماوي، وقال بعضهم: البأساء: هو ما يحل بهم من الفقر والقحط والشدة. وعن ابن عباس رضي الله عنه [أنه] قال: قوله تعالى: {فأخذتهم بالبأساء} الزمانة والخوف، {والضراء} البلاء والجوع {لعلهم يتضرعون} أي ابتلاهم بهذا، أو امتحنهم {لعلهم يتضرعون} ويرجعون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
في الكلام حذف يدل عليه الظاهر تقديره فكذبوا فأخذناهم، ومعناه لازمناهم وتابعناهم الشيء بعد الشيء، «البأساء» المصائب في الأموال، {والضراء} في الأبدان، هذا قول الأكثر، وقيل: قد يوضع كل واحد بدل الآخر، ويؤدب الله تعالى عباده {بالبأساء والضراء}، ومن هنالك أدب العباد نفوسهم بالبأساء في تفريق المال، والضراء في الحمل على البدن في جوع وعري، والترجي في «لعل» في هذا الموضع إنما هو على معتقد البشر لو رأى أحد ذلك لرجا تضرعهم بسببه، والتضرع التذلل والاستكانة، وفي المثل إن الحمى أضرعتني لك، ومعنى الآية توعد الكفار وضرب المثل لهم.
والمعنى أنه تعالى أعلم نبيه أنه قد أرسل قبله إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا، والمقصود منه التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والأخذ: الإمساك بقوة وبطش وقهر، وهو هنا مجاز عن متابعة العقوبة والملازمة. والمعنى: لعاقبناهم في الدنيا.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أقسم الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه أرسل رسلا قبله إلى أمم قبل أمته فكانوا أرسخ من قومه في الشرك، وأشد منهم إصرارا على الظلم. فإن قومه يدعون الله تعالى وحده عند شدة الضيق وينسون ما اتخذوه من دونه من الأولياء والأنداد، وأما تلك الأمم فلم تلن الشدائد قلوبهم، ولم تصلح ما أفسد الشيطان من فطرتهم.
الأخذ بالبأساء والضراء عبارة عن إنزالهما بهم، وأخذ الشيء يطلق على حوزه وتحصيله بالتناول والملك أو الاستيلاء والقهر، وقد يسند هذا إلى الأسباب غير الفاعلة المريدة كقوله تعالى: {أخذته العزة بالإثم} [البقرة: 206] {فأخذهم الطوفان}] العنكبوت: 14] {فأخذهم العذاب} [الشعراء: 158] {فأخذتهم الصيحة} [الحجر: 73] {الصاعقة} [النساء: 153] {الرجفة} [الأعراف: 91] والبأساء اسم يطلق على الحرب والمشقة، والبأس الشدة في الحرب والخوف في الشدة والعذاب الشديد والقوة والشجاعة. والبؤس الخضوع والفقر. كذا في لسان العرب. وقال الراغب البؤس البأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر، والبأس والبأساء في النكاية، وأورد الشواهد على ذلك. والضراء فعلاء من الضر – وهو ضد النفع وتطلق على السنة أي الجدب والأذى وسوء الحال حسيا كان أو معنويا – كالسراء من السرور وهي ضدها التي تقابلها كالنعماء. وأما الضر فيقابله النفع. وفسر ابن جرير البأساء بشدة الفقر والضيق في المعيشة والضراء بالأسقام والعلل العارضة في الأجسام، ونقل نحوه الرازي عن الحسن. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أن البأساء خوف السلطان وغلاء السعر.
والأقوال في الكلمتين متقاربة والفرق بينهما – كما أفهم – أن البأساء يقع في الخارج من الأمور الشديدة الوقع على من يمسه تأثيرها كالحرب الحاضرة الآن فإن وقعها أليم شديد على من أصيبوا بفقد أولادهم أو تخريب بلادهم أو ضيق معايشهم، وأما الضراء فهي كل ما يؤلم النفس ألما شديدا سواء كان سببه نفسيا أو بدنيا أو خارجيا – فعلى هذا تكون البأساء من أسباب الضراء. وقالوا إنهما جاءتا على وزن حمراء ولم يرد في مذكرهما وزن أحمر صفة بل ورد اسم تفضيل. والتضرع إظهار الضراعة بتكلف أو تكثر وهي الضعف أو الذل والخضوع.
ومعنى الآية: نقسم أننا قد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك فدعوهم إلى توحيدنا وعبادتنا فلم يستجيبوا لهم فأخذناهم أخذ ابتلاء واختبار بالبأساء والضراء ليكون ذلك معدا لهم لما يترتب عليه بحسب طباع البشر وأخلاقهم، من التضرع والجؤار بالدعاء لربهم، إذ مضت سنتنا بجعل الشدائد مربية للناس، بما ترجع المغرورين عن غرورهم، وتكف الفجار عن فجورهم، فما أجدرها بإرجاع أهل الأوهام، عن دعاء أمثالهم من البشر دع ما دونهم من الأصنام، ولكن من الناس من يضل إلى غاية من الشرك والفسق، لا يزيلها بأس ولا يزلزلها بؤس، فلا تنفع معهم العبر، ولا تؤثر فيهم الغير، وكان أولئك الأقوام منهم، ولذلك قال تعالى فيهم: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها المواجهة بنموذج من بأس الله سبحانه. نموذج من الواقع التاريخي. نموذج يعرض ويفسر كيف يتعرض الناس لبأس الله، وكيف تكون عاقبة تعرضهم له، وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه؛ فإذا نسوا ما ذكروا به، ولم توجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرع له، ولم توجههم النعمة إلى الشكر والحذر من الفتنة، كانت فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لا يرجى معه صلاح، وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لا تصلح معه للبقاء. فحقت عليهم كلمة الله. ونزل بساحتهم الدمار الذي لا تنجو منه ديار..
(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون)..
ولقد عرف الواقع البشري كثيرا من هذه الأمم، التي قص القرآن الكريم على الإنسانية خبر الكثير منها، قبل أن يولد "التاريخ "الذي صنعه الإنسان! فالتاريخ الذي سجله بنو الإنسان حديث المولد، صغير السن، لا يكاد يعي إلا القليل من التاريخ الحقيقي للبشر على ظهر هذه الأرض! وهذا التاريخ الذي صنعه البشر حافل -على قصره- بالأكاذيب والأغاليط؛ وبالعجز والقصور عن الإحاطة بجميع العوامل المنشئة والمحركة للتاريخ البشري؛ والتي يكمن بعضها في أغوار النفس، ويتوارى بعضها وراء ستر الغيب، ولا يبدو منها إلا بعضها، وهذا البعض يخطى ء البشر في جمعه، ويخطئون في تفسيره، ويخطئون أيضا في تمييز صحيحه من زائفة -إلا قليلا- ودعوى أي بشر أنه أحاط بالتاريخ البشري علما، وأنه يملك تفسيره تفسيرا "علميًا" وأنه يجزم بحتمياته المقبلة أيضا.. هي أكبر أكذوبة يمكن أن يدعيها بشر! ومن عجب أن بعضهم يدعيها! والأشد إثارة للعجب أن بعضهم يصدقها! ولو قال ذلك المدعي: إنه يتحدث عن [توقعات] لا عن [حتميات] لكان ذلك مستساغا.. ولكن إذا وجد المفتري من المغفلين من يصدقه فلماذا لا يفتري؟!
والله يقول الحق؛ ويعلم ماذا كان، ولماذا كان. ويقص على عبيده -رحمة منه وفضلا- جانبا من أسرار سنته وقدره؛ ليأخذوا حذرهم ويتعظوا؛ وليدركوا كذلك ما وراء الواقع التاريخي من عوامل كامنة وأسباب ظاهرة؛ يفسرون بها هذا الواقع التاريخي تفسيرا كاملا صحيحا. ومن وراء هذه المعرفة يمكن أن يتوقعوا ما سيكون، استنادا إلى سنة الله التي لا تتبدل.. هذه السنة التي يكشف الله لهم عنها..
وفي هذه الآيات تصوير وعرض لنموذج متكرر في أمم شتى.. أمم جاءتهم رسلهم. فكذبوا. فأخذهم الله بالبأساء والضراء. في أموالهم وفي أنفسهم. في أحوالهم وأوضاعهم.. البأساء والضراء التي لا تبلغ أن تكون "عذاب الله" الذي تحدثت عنه الآية السابقة، وهو عذاب التدمير والاستئصال..
وقد ذكر القرآن نموذجا محددا من هذه الأمم، ومن البأساء والضراء التي أخذها بها.. في قصة فرعون وملئه: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون. فإذا جاءتهم الحسنة قالوا: لنا هذه، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه. ألا إنما طائرهم عند الله، ولكن أكثرهم لا يعلمون. وقالوا: مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين. فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات، فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين)..
وهو نموذج من نماذج كثيرة تشير إليها الآية..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..ولمّا كان أخذهم بالبأساء والضرّاء مقارناً لزمن وجود رسلهم بين ظهرانيهم كان الموقع لفاء العطف للإشارة إلى أنّ ذلك كان بمرأى رسلهم وقبل انقراضهم ليكون إشارة إلى أنّ الله أيّد رسله ونصرهم في حياتهم؛ لأنّ أخذ الأمم بالعقاب فيه حكمتان: إحداهما: زجرهم عن التكذيب، والثانية: إكرام الرسل بالتأييد بمرأى من المكذّبين. وفيه تكرمة للنبيء صلى الله عليه وسلم بإيذانه بأنّ الله ناصره على مكذّبيه. لمّا أنذرهم بتوقّع العذاب أعقبه بالاستشهاد على وقوع العذاب بأمم من قبل، ليَعلَم هؤلاء أنّ تلك سنة الله في الذين ظلموا بالشرك.
وهذا الخبر مستعمل في إنذار السامعين من المشركين على طريقة التعريض، وهم المخاطبون بالقول المأمور به في الجملة التي قبلها. والمراد: أنّ الله قدّم لهم عذاباً هيّناً قبل العذاب الأكبر، كما قال: {ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّهم يرجعون} [السجدة: 21] وهذا من فرط رحمته الممازجة لمقتضى حكمته؛ وفيه إنذار لقريش بأنّهم سيصيبهم البأساء والضرّاء قبل الاستئصال، وهو استئصال السيف. وإنّما اختار الله أن يكون استئصالهم بالسيف إظهاراً لكون نصر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم كان بيده ويد المصدّقين به. وذلك أوقع على العرب، ولذلك روعي حال المقصودين بالإنذار وهم حاضرون. فنزّل جميع الأمم منزلتهم، فقال: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا}، فإنّ (لولا) هنا حرف توبيخ لدخولها على جملة فعلية ماضوية واحدة، فليست (لولا) حرفَ امتناع لوجود. والتوبيخ إنّما يليق بالحاضرين دون المنقرضين لفوات المقصود. ففي هذا التنزيل إيماء إلى مساواة الحالين وتوبيخ للحاضرين بالمهمّ من العبرة لبقاء زمن التدارك قطعاً لمعذرهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في هذا النص بيان لعلاج الله تعالى للأسقام النفسية للأمم التي تتعصى على الهداية وعلى الاستقامة على الحق إذا دعوا إليه فليس الناس جميعا طلاب حق يتبعونه إذا هدوا إليه، ولا يستمعون إلى الحجة إذا سيقت إليهم بل يعاندون ويكابرون فهؤلاء يحتاجون إلى علاج دنيوي وذلك بالشدائد تنزل بهم، لأن الجحود والمبالغة في الإنكار سببهما الاغترار بالدنيا وما فيها من متع ولا علاج لغرور الجدة إلا بالحرمان منها ليذوقوا طعم مر بعد أن ذاقوا رطب العيش، ولا علاج لغرور الصحة إلا بالمرض حينا، ولا لعلاج للقوة إلا بالضعف. وعسى أن يكون هذا بصوره المختلفة باختلاف الداء مؤديا إلى شفاء النفس والاتجاه بها إلى الهداية وقد عالج الله تعالى حالهم بأمرين: أخذهم بالبأساء وهي البؤس الشديد والبؤس هو الفقر وضيق العيش حتى يكون ضنكا وذلك يكون للأمم بالأزمات تجتاحها وبجفاف النبات وبالجوائح المبيدة وغيرها مما يصاب به اقتصاد الأمم والثاني الضراء بالمرض تصاب به الأجسام وبالأوباء المرضية تتفشى بين الجماعات.