37- وقال الكفار متعنتين : نطلب أن ينزل على محمد دليل مادي من ربه يشهد بصدق دعوته . قل لهم أيها النبي : إن الله قادر على أن ينزل أي دليل تقترحونه . ولكن أكثرهم لا يعلمون حكمة الله في إنزال الآيات ، وأنها ليست تابعة لأهوائهم ، وأنه لو أجاب مقترحاتهم ثم كذبوا بعد ذلك لأهلكهم ، ولكن أكثرهم لا يعلمون نتائج أعمالهم ! !
{ وَقَالُوا } أي : المكذبون بالرسول ، تعنتا وعنادا : { لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ } يعنون بذلك آيات الاقتراح ، التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة .
كقولهم : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا *أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا } الآيات .
{ قُلْ } مجيبا لقولهم : { إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً } فليس في قدرته قصور عن ذلك ، كيف ، وجميع الأشياء منقادة لعزته ، مذعنة لسلطانه ؟ !
ولكن أكثر الناس لا يعلمون فهم لجهلهم وعدم علمهم يطلبون ما هو شر لهم من الآيات ، التي لو جاءتهم ، فلم يؤمنوا بها لعوجلوا بالعقاب ، كما هي سنة الله ، التي لا تبديل لها ، ومع هذا ، فإن كان قصدهم الآيات التي تبين لهم الحق ، وتوضح السبيل ، فقد أتى محمد صلى الله عليه وسلم ، بكل آية قاطعة ، وحجة ساطعة ، دالة على ما جاء به من الحق ، بحيث يتمكن العبد في كل مسألة من مسائل الدين ، أن يجد فيما جاء به عدة أدلة عقلية ونقلية ، بحيث لا تبقي في القلوب أدنى شك وارتياب ، فتبارك الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، وأيده بالآيات البينات ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، وإن الله لسميع عليم .
ثم حكى - سبحانه - بعض الشبهات التى تذرع بها المشركون تعنتا ، ورد عليها بما يخرس ألسنتهم ، وبما يؤكد قدرته النافذة وعلمه المحيط فقال - تعالى - : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ . . . } .
و { لَوْلاَ } هنا تحضيضية بمعنى هلا ، والمعنى : وقال أولئك الكافرون : هلا نزل عليك يا محمد معجزة حسية كتفجير الأنهار ، وفلق البحر ، ونزول الملائكة معك . . . إلخ .
فهذه الآيات الكريمة تحكى عنهم أنهم لم يكتفوا بالقرآن معجزة خالدة للنبى صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون معجزات حسية من جنس معجزات الأنبياء السابقين .
وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات ، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه ، حتى لكأنه لم ينزل عليه شىء عنادا وجحودا منهم .
وفى قولهم - كما حكى القرآن عنهم - { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } ببناء الفعل للمجهول وذكر لفظ الرب ، للإشارة إلى أنهم لا يوجهون الطلب إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإنما يوجهونه إلى الله تعالى ، لأنه إذا كان رسولا من عنده ، فليجب له هذا الطلب الذى نتمناه ونكون من بعده مؤمنين .
وقد رد الله - تعالى - عليهم بقوله : { قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
أى : قل لهم أيها الرسول الكريم على سبيل التوبيخ والتقريع إن الله - تعالى - قادر على تنزيل ما اقترحوا من آيات ، لأنه - سبحانه - لا يعجزه شىء ، ولكنه - سبحانه - ينزل ما تقتضيه حكمته ، إلا أنهم لجهلهم وعنادهم لا يعلمون شيئاً من حكم الله فى أفعاله ، ولا من سننه فى خلقه .
وقوله - تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يفيد أنهم لا يؤمنون حتى ولو جاءتهم الآيات التى اقترحوها ، لأن عدم إيمانهم ليس عن نقص فى الدليل ولكنه عن تكبر وجحود .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يُنَزّلٍ آيَةً وَلََكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء العادلون بربهم المعرضون عن آياته : لَوْلا نُزّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ يقول : قالوا : هلا نزل على محمد آية من ربه كما قال الشاعر :
تَعُدّونَ عَقْرَ النّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ ***بني ضَوْطَرَي لَوْلا الكَمِيّ المُقَنّعا
بمعنى : هّلا الكمّي . والاَية العلامة ، وذلك أنهم قالُوا : { ما لِهَذَا الرّسُولِ يأْكُلُ الطّعَامَ وَيْمشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فيكونَ مَعَهُ نَذِيرا أوْ يُلْقَي إلَيهِ كَنْزٌ أوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يأْكُلُ مِنْها } . قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لقائلي هذه المقالة لك : إن الله قادر على أن ينزل آية ، يعني : حُجة على ما يريدون ويسألون . { وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } . يقول : ولكن أكثر الذين يقولون ذلك فيسألونك آية ، لا يعلمون ما عليهم في الاَية ، إنّ نزْلها من البلاء ، ولا يدرون ما وجه ترك إنزال ذلك عليك ، ولو علموا السبب الذي من أجله لم أنزّلها عليك لم يقولوا ذلك ولم يسألوكه ، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك .
والضمير في { قالوا } عائد على الكفار ، و { لولا } تحضيض بمعنى : هلا ، قال الشاعر [ جرير ] : [ الطويل ]
تَعُدُّونَ عَقْرَ النّيبِ أفضلَ مَجْدِكُمْ . . . بَنِي ضَوْطرى لولا الكميّ المقنَّعا{[4905]}
ومعنى الآية هلا أنزل على محمد بيان واضح لا يقع معه توقف من أحد ، كملك يشهد له أو أكثر أو غير ذلك من تشططهم المحفوظ في هذا ، فأمر عليه السلام بالرد عليهم بأن الله عز وجل له القدرة على إنزال تلك الآية ، { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنها لو نزلت ولم يؤمنوا لعولجوا بالعذاب ، ويحتمل { ولكن أكثرهم لا يعلمون } إن الله تعالى إنما جعل المصلحة في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون .
عطف على جملة : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } [ الأنعام : 35 ] الآيات ، وهذا عود إلى ما جاء في أول السورة [ 4 ] من ذكر إعراضهم عن آيات الله بقوله { وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين } ثم ذكر ما تفنّنوا به من المعاذير من قولهم : { لولا أنزل عليه ملك } [ الأنعام : 8 ] وقوله : { وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها } [ الأنعام : 25 ] أي وقالوا : لولا أنزل عليه آية ، أي على وفق مقترحهم ، وقد اقترحوا آيات مختلفة في مجادلات عديدة . ولذلك أجملها الله تعالى هنا اعتماداً على علمها عند الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فقال : { وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه } .
فجملة : { وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربِّه } وقع عطفها معترضاً بين جملة { والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون } [ الأنعام : 36 ] وجملة { وما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] الخ . وفي الإتيان بفعل النزول ما يدلّ على أنّ الآية المسؤولة من قبيل ما يأتي من السماء ، مثل قولهم { لولا أنزل عليه ملك } [ الأنعام : 8 ] وقولهم : { ولن نُؤمن لِرُقيّك حتى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] وشبه ذلك .
وجرّد { نزّل } من علامة التأنيث لأنّ المؤنّث الذي تأنيثه لفظي بحت يجوز تجريد فعله من علامة التأنيث ؛ فإذا وقع بين الفعل ومرفوعه فاصل اجتمع مسوّغان لتجريد الفعل من علامة التأنيث ، فإنّ الفصل بوحده مسوّغ لتجريد الفعل من العلامة . وقد صرّح في « الكشاف » بأنّ تجريد الفعل عن علامة التأنيث حينئذٍ حسن .
و { لولا } حرف تحضيض بمعنى ( هلاّ ) . والتحضيض هنا لقطع الخصم وتعجيزه ، كما تقدّم في قوله تعالى آنفاً { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } [ الأنعام : 8 ] .
وتقدّم الكلام على اشتقاق { آية } عند قوله تعالى : { والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا } في سورة [ البقرة : 39 ] .
وفصل فعل { قل } فلم يعطف لأنَّه وقع موقع المحاورة فجاء على طريقة الفصل التي بيّنّاها في مواضع كثيرة ، أولها : قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة [ البقرة : 30 ] .
وأمَر الله رسوله أن يجيبهم بما يُعلم منه أنّ الله لو شاء لأنزل آية على وفق مقترحهم تقوم عليهم بها الحجّة في تصديق الرسول ، ولكنّ الله لم يرد ذلك لحكمة يعلمها ؛ فعبّر عن هذا المعنى بقوله : { إنّ الله قادر على أنّ ينزّل آية } وهم لا ينكرون أنّ الله قادر ، ولذلك سألوا الآية ، ولكنّهم يزعمون أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لا يَثبُت صدقه إلاّ إذا أيّده الله بآية على وفق مقترحهم . فقوله : { إنّ الله قادر على أن ينزّل آية } مستعمل في معناه الكنائي ، وهو انتفاء أن يريد الله تعالى إجابة مقترحهم ، لأنَّه لمّا أرسل رسوله بآيات بيّنات حصل المقصود من إقامة الحجّة على الذين كفروا ، فلو شاء لزادهم من الآيات لأنّه قادر .
ففي هذه الطريقة من الجواب إثبات للردّ بالدليل ، وبهذا يظهر موقع الاستدراك في قوله : { ولكنّ أكثرهم لا يعلمون } فإنّه راجع إلى المدلول الالتزامي ، أي ولكن أكثر المعاندين لا يعلمون أنّ ذلك لو شاء الله لفعله ، ويحسبون أنّ عدم الإجابة إلى مقترحهم يدلّ على عدم صدق الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك من ظلمة عقولهم ، فلقد جاءهم من الآيات ما فيه مزدجر .
فيكون المعنى الذي أفاده هذا الردّ غير المعنى الذي أفاده قوله { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون } [ الأنعام : 8 ] فإنّ ذلك نبّهوا فيه على أنّ عدم إجابتهم فيه فائدة لهم وهو استبقاؤهم ، وهذا نبّهوا فيه على سوء نظرهم في استدلالهم .
وبيان ذلك أنّ الله تعالى نصب الآيات دلائل مناسبة للغرض المستدلّ عليه كما يقول المنطقيّون : إنّ المقدّمات والنتيجة تدلّ عقلاً على المطلوب المستدلّ عليه ، وإنّ النتيجة هي عين المطلوب في الواقع وإن كانت غيره في الاعتبار ؛ فلذلك نجد القرآن يذكر الحجج على عظيم قدرة الله على خلق الأمور العظيمة ، كإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي في سياق الاستدلال على وقوع البعث والحشر . ويسمّى تلك الحجج آيات كقوله { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقَرّ ومستودع قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون } [ الأنعام : 98 ] ، وكما سيجيء في أول سورة [ الرعد : 2 ] { الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها } وذكر في خلال ذلك تفصيل الآيات إلى قوله : { وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنّا تراباً إنّا لفي خلق جديد } [ الرعد : 5 ] . وكذلك ذكر الدلائل على وحدانية الله باستقلاله بالخلق ، كقوله : { وخلق كلّ شيء وهو بكلّ شيء عليم ذلكم الله ربّكم لا إله إلاّ هو خالق كلّ شيء فاعبدوه } إلى قوله { وكذلك نفصّل الآيات وليقولوا دَرَست } [ الأنعام : 101 105 ] الخ ، وكقوله في الاستدلال على انفراده بأنواع الهداية { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحر قد فصّلنا الآيات لقوم يعلمون } . ولمّا كان نزول القرآن على الرسول عليه الصلاة والسلام حجّة على صدقه في إخباره أنّه مُنزل من عند الله لمَا اشتمل عليه من العلوم وتفاصيل المواعظ وأحوال الأنبياء والأمم وشرع الأحكام مع كون الذي جاء به معلوم الأمية بينهم قد قضى شبابه بين ظهرانيهم ، جعَله آية على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما أخبر به عن الله تعالى ، فسمّاه آيات في قوله : { وإذا تتلى عليهم آياتنا ، بيّنات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا } [ الحج : 72 ] فلم يشأ الله أن يجعل الدلائل على الأشياء من غير ما يناسبها .
أمّا الجهلة والضّالون فهم يرومون آيات من عجائب التصاريف الخارقة لنظام العالم ، يريدون أن تكون علامة بينهم وبين الله على حسب اقتراحهم بأن يحييهم إليها إشارة منه إلى أنّه صدّق الرسول فيما بلّغ عنه ، فهذا ليس من قبيل الاستدلال ولكنَّه من قبيل المخاطرة ليزعموا أنّ عدم إجابتهم لما اقترحوه علامة على أنّ الله لم يصدّق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة .
ومن أين لهم أنّ الله يرضى بالنزول معهم إلى هذا المجال ، ولذلك قال تعالى : { قل إنّ الله قادر على أن ينزّل آية ولكنّ أكثرهم لا يعلمون } ، أي لا يعلمون ما وجه الارتباط بين دلالة الآية ومدلولها . ولذلك قال في الردّ عليهم في سورة [ الرعد : 7 ] { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربّه إنّما أنت منذر } فهم جعلوا إيمانهم موقوفاً على أن تنزّل آية من السماء . وهم يعنون أنّ تنزيل آية من السماء جملة واحدة . فقد قالوا : { لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] وقالوا : { ولن نؤمن لرقّيك حتّى تُنَزّل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] . فردّ الله عليهم بقوله : { إنّما أنت منذر } [ الرعد : 7 ] ، أي لا علاقة بين الإنذار وبين اشتراط كون الإنذار في كتاب ينزّل من السماء ، لأنّ الإنذار حاصل بكونه إنذاراً مفصّلاً بليغاً دالاّ على أنّ المنذِر به ما اخترعه من تلقاء نفسه ، ولذلك ردّ عليهم بما يبيّن هذا في قوله : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذَنْ لارْتَابَ المُبطلون } إلى قوله { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه قل إنَّما الآيات عند الله وإنّما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم } [ العنكبوت : 48 51 ] ، أي فما فائدة كونه ينزل في قرطاس من السماء مع أنّ المضمون واحد .
وقال في ردّ قولهم : { حتّى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] { قل سبحان ربِّي هل كنت إلاّ بشراً رسولا } [ الإسراء : 93 ] . نعم إنّ الله قد يقيم آيات من هذا القبيل من تلقاء اختياره بدون اقتراح عليه ، وهو ما يسمّى بالمعجزة مثل ما سمّى بعض ذلك بالآيات في قوله : { في تسع آيات إلى فرعون وقومه } [ النمل : 12 ] ، فذلك أمر أنف من عند الله لم يقترحه عليه أحد . وقد أعطى نبيّنا محمداً صلى الله عليه وسلم من ذلك كثيراً في غير مقام اقتراحٍ من المعرضين ، مثل انشقاق القمر ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وتكثير الطعام القليل ، ونبع الماء من الأرض بسهم رشقه في الأرض . هذا هو البيان الذي وعدتُ به عند قوله تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه ملَك } في هذه السورة [ 8 ] .
ومن المفسِّرين من جعل معنى قوله { ولكنّ أكثرهم لا يعلمون } أنّهم لا يعلمون أنّ إنزال الآية على وفق مقترحهم يعقبها الاستئصال إن لم يؤمنوا ، وهم لعنادهم لا يؤمنون . إلاّ أنّ ما فسّرتها به أولى لئلاّ يكون معناها إعادة لمعنى الآية التي سبقتها ، وبه يندفع التوقّف في وجه مطابقة الجواب لمقتضى السؤال حسبما توقّف فيه التفتزاني في تقرير كلام « الكشاف » .
وقوله : { ولكنّ أكثرهم لا يعلمون } تنبيه على أنّ فيهم من يعلم ذلك ولكنّه يكابر ويُظهر أنّه لا يتمّ عنده الاستدلال إلاّ على نحو ما اقترحوه .
وإعادة لفظ { آية } بالتنكير في قوله { أن يُنزّل آية } من إعادة النكرة نكرة وهي عين الأولى . وهذا يبطل القاعدة المتداولة بين المعربين من أنّ اللفظ المنكّر إذا أعيد في الكلام منكّراً كان الثاني غير الأول . وقد ذكرها ابن هشام في « مغني اللبيب » في الباب السادس ونقضها . وممّا مثّل به لإعادة النكرة نكرة وهي عين الأولى لا غيرها قوله تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة } [ الروم : 54 ] . وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { فلا جناح عليهما أن يصّالحا بينهما صلحاً والصلح خير } في سورة [ النساء : 128 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا لولا}: هلا {نزل عليه} محمد كما أنزل على الأنبياء {آية من ربه} للكفار، {قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون} بأن الله قادر على أن ينزلها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم المعرضون عن آياته:"لَوْلا نُزّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ" قالوا: هلا نزل على محمد آية من ربه. والآية العلامة، وذلك أنهم قالُوا: {ما لِهَذَا الرّسُولِ يأْكُلُ الطّعَامَ وَيْمشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فيكونَ مَعَهُ نَذِيرا أوْ يُلْقَي إلَيهِ كَنْزٌ أوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يأْكُلُ مِنْها}. قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لقائلي هذه المقالة لك: "إن الله قادر على أن ينزل آية": حُجة على ما يريدون ويسألون. {وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}: ولكن أكثر الذين يقولون ذلك فيسألونك آية، لا يعلمون ما عليهم في الآية، إنّ نزّلها من البلاء، ولا يدرون ما وجه ترك إنزال ذلك عليك، ولو علموا السبب الذي من أجله لم أنزّلها عليك لم يقولوا ذلك ولم يسألوكه، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هؤلاء قوم همّهم العناد والمكابرة؛ قد كان أنزل عليه آيات عقليات وسمعيات وحسيات...
وقوله تعالى: {قل إن الله قادر على أن ينزل آية} التي سألوك {ولكن أكثرهم لا يعلمون} يحتمل [وجوها: أحدها]: يحتمل {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أنه [لو] أنزل آية على إثر السؤال لأنزل عليهم العذاب، واستأصلهم إذا عاندوا. والثاني: قوله تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أنه لا ينزل الآية إلا عند الحاجة بهم إليها. والثالث: لا يسألون الآية ليعلموا، ولكن يسألون ليتعنتوا. والرابع: إذا أنزل آية على إثر السؤال، فلم يقبلوها، ولم يؤمنوا بها أهلكهم على ما ذكرنا من سنته في الأولين. ولكنه وعد على إبقاء هذه الأمة إلى يوم القيامة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعنى "وقالوا "إخبار عما قاله الكفار من أنهم قالوا "لولا" ومعناه: هلا "أنزل عليه آية" يعني الآية التي سألوها واقترحوا أن يأتيهم بها من جنس ما شاءوا لما قالوا "فليأتنا بآية كما أرسل الأولون" يعنون فلق البحر وإحياء الموتى. وإنما قالوا ذلك حين أيقنوا بالعجز عن معارضته فيما أتى به من القرآن، فاستراحوا إلى أن يلتمسوا مثل آيات الأولين، فقال الله تعالى "أو لم يكفهم أنا نزلنا عليك الكتاب" وقال هاهنا قل يا محمد "إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون" ما في إنزالها من وجوب الاستئصال لهم إذا لم يؤمنوا عند نزولها. وما في الاقتصار بهم على ما أوتوا من المصلحة لهم. وبين في آية أخرى أنه لو أنزل عليهم ما أنزل لم يؤمنوا..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل من الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه، كأنه لم ينزل عليه شيء من الآيات عناداً منهم {قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ ءايَةً} تضطرهم إلى الإيمان. كنتق الجبل على بني إسرائيل ونحوه، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية، وأن صارفاً من الحكمة يصرفه عن إنزالها.
{ولكن أكثرهم لا يعلمون} واختلفوا في تفسير هذه الكلمة على وجوه: الوجه الأول: أن يكون المراد أنه تعالى لما أنزل آية باهرة ومعجزة قاهرة وهي القرآن كان طلب الزيادة جاريا مجرى التحكم والتعنت الباطل، والله سبحانه له الحكم والأمر فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل...
والوجه الثاني: هو أنه لما ظهرت المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة الكافية لم يبق لهم عذر ولا علة، فبعد ذلك لو أجابهم الله تعالى في ذلك الاقتراح فلعلهم يقترحون اقتراحا ثانيا، وثالثا، ورابعا، وهكذا إلى ما لا غاية له، وذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة، فوجب في أول الأمر سد هذا الباب والاكتفاء بما سبق من المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة. والوجه الثالث: أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من المعجزات القاهرة، فلو لم يؤمنوا عند ظهورها لاستحقوا عذاب الاستئصال، فاقتضت رحمة الله صونهم عن هذا البلاء فما أعطاهم هذا المطلوب رحمة منه تعالى عليهم، وإن كان لا يعلمون كيفية هذه الرحمة، فلهذا المعنى قال: {ولكن أكثرهم لا يعلمون}. والوجه الرابع: أنه تعالى علم منهم أنهم إنما يطلبون هذه المعجزات لا لطلب الفائدة بل لأجل العناد والتعصب، وعلم أنه تعالى لو أعطاهم مطلوبهم فهم لا يؤمنون، فلهذا السبب ما أعطاهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنه لا فائدة في ذلك..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما سلاه صلى الله عليه وسلم فيما أخبرته من أقوالهم بما شرح صدره وسر خاطره، وأعلمه تخفيفاً عليه أن أمرهم إنما هو بيده، ذكَّره بعضَ كلامهم الآئل إلى التكذيب عقب إخباره بالحشر الذي يجازي فيه كلاًّ بما يفعل، فقال عطفاً على قوله {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا} [الأنعام: 29] وقوله {وقالوا لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8] يعجب منه تعجيباً آخر: {وقالوا} أي مغالطة أو عناداً أو مكابرة {لولا} أي هلا {نزل} أي بالتدريج {عليه} أي خاصة {آية} أي واحدة تكون ثابتة بالتدريج لا تنقطع، وهذا منهم إشارة إلى أنهم لا يعدون القرآن آية و لا شيئاً مما رأوه منه صلى الله عليه وسلم من غير ذلك نحو انشقاق القمر {من ربه} أي المحسن إليه على حسب ما يدعيه لنستدل بها على ما يقول من التوحيد والبعث. ولما كان في هذا -كما تقدم- إشارة منهم إلى أنه لم يأت بآية على هذه الصفة إما مكابرة وإما مغالطة، أمره بالجواب بقوله: {قل إن الله} أي الذي له جميع الأمر {قادر على أن} وأشار بتشديد الفعل إلى آية القرآن المتكررة عليهم كل حين تدعوهم إلى المبارزة وتتحداهم بالمبالغة والمعاجزة فقال: {ينزل} وقراءة ابن كثير بالتخفيف مشيرة إلى أنهم بلغوا في الوقاحة الغاية، وأنهم لو قالوا: لولا أنزل، أي مرة واحدة، لكان أخف في الوقاحة، أو إلى أنه أنزل عليهم أيّ آية، كانت تلجئهم وتضطرهم إليه في آن واحد كما قال تعالى {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} [الشعراء: 4] ولكنه لا يسأل ذلك إلا بالتدريج كما يشير إليه صيغة التفعيل في قراءة غيره المذكرة بأن آية القرآن لا تنقضي، بل كلما سمعها أحد منهم أو من غيرهم طول الدهر كانت منزلة عليه لكونها واصلة إليه، فهو أبلغ من مطلوبهم آية ينزل عليه وحده، والحاصل أنهم طلبوا آية باقية محضة، فلوح لهم إلى آية هي -مع كونها خاصة به فيما حصل له من الشرف- عامة لكل من بلغته، باقية طول المدى {آية} أي مما اقترحوه ومن غيره، لا يعجزه شيء، وفي كل شيء له من الآيات ما يعجز الوصف، وكفى بالقرآن العظيم مثالاً لذلك {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي ليس فيهم قابلية العلم، فهم لا يتفكرون في شيء من ذلك الذي يحدثه من مصنوعاته ليدلهم على أنه على كل شيء قدير، فلا فائدة لهم في إنزال ما طلبوه، وأما غير الأكثر فهو سبحانه يردهم بآية القرآن أو غيرها مما لم يقترحوه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} أي وقال أولئك الظالمون لأنفسهم، الذين يجحدون بآيات ربهم، ويعاندون رسوله إليهم: هلا أنزل عليه – أي الرسول – آية من ربه، من الآيات المخالفة لسننه تعالى في خلقه، مما اقترحنا عليه، وجعلناه شرطا لإيماننا به؟ وقيل إن مرادهم آية ملجئة إلى الإيمان، والإلجاء اضطرار لا اختيار، فلا يوجه إليه الطلب، ولا يعتد به إن حصل. {قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون (37)} أي قل أيها الرسول إن الله تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا وإنما ينزلها إذا اقتضت حكمته تنزيلها، لا إذا تعلقت شهوتهم بتعجيز الرسول بطلبها؛ فإن إجابة المعاندين إلى الآيات المقترحة لم يكن في أمة من الأمم سببا للهداية، وقد مضت سنته تعالى في الأقوام، بأن يعاقب المعجزين للرسل بذلك بعذاب الاستئصال، فتنزيل آية مقترحة لا يكون خيرا لهم بل هو شر لهم، ولكن أكثرهم لا يعلمون شيئا من حكم الله تعالى في أفعاله، ولا من سننه في خلقه، ولا أنك أرسلت رحمة للعالمين، فلا يأتي على يديك سبب استئصال أمتك، بإجابة المعاندين منها إلى ما اقترحوا عليك لإظهار عجزك؛ ولا يعلمون أيضا أن إجابة اقتراح واحد يؤدي إلى اقتراحات كثيرة لا حد لها، ولا فائدة منها. وقد يعلم أفراد منهم بعض ذلك علما ناقصا لا يهدي إلى الاعتبار، ولا يصد صاحبه عن مثل هذا الاقتراح. ومن قال إنهم اقترحوا آية ملجئة يقول: ولكن أكثرهم لا يعلمون أن تنزيلها يزيل الاختيار الذي هو أساس التكليف فلا يبقى لدعوة الرسالة فائدة. قرأ ابن كثير {ينزل} بالتخفيف من الإنزال. والباقون بالتشديد من التنزيل الدال بصيغته على التدريج أو التكثير، وقال المفسرون: إن معناهما ههنا واحد، والذي نراه هو أن كل صيغة منهما على أصل معناها. وإن الجمع بينهما لبيان أن بعضهم اقترح آية واحدة تنزل دفعة واحدة كنزول ملك من السماء عليهم أو عليه، وهو المشار إليه بقراءة ابن كثير، وبعضهم اقترح عدة آيات منها ما لا يكون إلا بالتدريج، وهي المشار إليها بقراءة الجمهور. ولا ينافي إفراد الآية هنا طلب بعضهم لعدة آيات إذ المراد بها آية مما اقترحوا، وقد صرح بلفظ الجمع في آية العنكبوت الواردة بمعنى هذه الآية وسيأتي نصها قريبا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد كانوا يطلبون آية خارقة كالخوارق المادية التي صاحبت الرسالات السابقة، ولا يقنعون بآية القرآن الباقية، التي تخاطب الإدراك البشري الراشد، وتعلن عهد الرشد الإنساني، وتحترم هذا الرشد فتخاطبه هذا الخطاب الراقي؛ والتي لا تنتهي بانتهاء الجيل الذي يرى الخارقة المادية؛ بل تظل باقية تواجه الإدراك البشري بإعجازها إلى يوم القيامة.. وكانوا يطلبون خارقة، ولا يفطنون إلى سنة الله في أخذ المكذبين بالدعوة بعد مجيء الخارقة، وإهلاكهم في الدنيا. ولا يدركون حكمة الله في عدم مجيئهم بهذه الخارقة، وهو يعلم أنهم سيجحدون بها بعد وقوعها -كما وقع في الأقوام قبلهم- فيحق عليهم الهلاك، بينما يريد الله أن يمهلهم ليؤمن منهم من يؤمن. فمن لم يؤمن استخرج الله من ظهره ذرية مؤمنة. ولا يشكرون نعمة الله عليهم في إمهالهم، وذلك بعدم الاستجابة لاقتراحهم، الذي لا يعلمون جرائره! والقرآن يذكر اقتراحهم هذا، ويعقب عليه بأن أكثرهم لا يعلمون ما وراءه ولا يعلمون حكمه الله في عدم الاستجابة، ويقرر قدرة الله على تنزيل الآية، ولكن حكمته هي التي تقتضي، ورحمته التي كتبها على نفسه هي التي تمنع البلاء: 7 (وقالوا: لولا نزل عليه آية من ربه! قل: إن الله قادر على أن ينزل أية. ولكن أكثرهم لا يعلمون).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أمَر الله رسوله أن يجيبهم بما يُعلم منه أنّ الله لو شاء لأنزل آية على وفق مقترحهم تقوم عليهم بها الحجّة في تصديق الرسول، ولكنّ الله لم يرد ذلك لحكمة يعلمها؛ فعبّر عن هذا المعنى بقوله: {إنّ الله قادر على أنّ ينزّل آية} وهم لا ينكرون أنّ الله قادر، ولذلك سألوا الآية، ولكنّهم يزعمون أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لا يَثبُت صدقه إلاّ إذا أيّده الله بآية على وفق مقترحهم. فقوله: {إنّ الله قادر على أن ينزّل آية} مستعمل في معناه الكنائي، وهو انتفاء أن يريد الله تعالى إجابة مقترحهم، لأنَّه لمّا أرسل رسوله بآيات بيّنات حصل المقصود من إقامة الحجّة على الذين كفروا، فلو شاء لزادهم من الآيات لأنّه قادر. ففي هذه الطريقة من الجواب إثبات للردّ بالدليل، وبهذا يظهر موقع الاستدراك في قوله: {ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} فإنّه راجع إلى المدلول الالتزامي، أي ولكن أكثر المعاندين لا يعلمون أنّ ذلك لو شاء الله لفعله، ويحسبون أنّ عدم الإجابة إلى مقترحهم يدلّ على عدم صدق الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك من ظلمة عقولهم، فلقد جاءهم من الآيات ما فيه مزدجر. فيكون المعنى الذي أفاده هذا الردّ غير المعنى الذي أفاده قوله {ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون} [الأنعام: 8] فإنّ ذلك نبّهوا فيه على أنّ عدم إجابتهم فيه فائدة لهم وهو استبقاؤهم، وهذا نبّهوا فيه على سوء نظرهم في استدلالهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قالوا بصيغة الطلب الذي يشبه التمني والتحريض فعبر ب (لولا) الدالة على التحريض والتمني وكأنهم يتمنون الإيمان بتمني الآية وهم في ذلك منحرفون عن الغاية وقالوا لولا أنزل عليه أي على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك التنزيل آت من قبل ربه وعبروا بالمجهول وبربه وهما يفيدان أن الطلب ليس منه، ولكنه من ربه فإذا كان رسولا من عنده، فليجب ذلك الطلب الذي نتمناه، ونكون من بعده مؤمنين.وقد رد الله سبحانه وتعالى بأمرين: أولهما: أنه سبحانه قادر عليه فهو المالك للسموات والأرض ومن فيها، وهو القادر على أن ينزل عليهم تلك الآية، فلن يعجزه شيء في الأرض ولكن الآيات التي تكون مع النبيين لإثبات رسالتهم تكون على مقتضى حكمته وتكون مناسبة لشريعتهم فتكون خالدة بخلودها. الأمر الثاني: الذي أجابهم سبحانه وتعالى هو أن أكثرهم لا يعلمون وهذا يفيد أنه سبحانه وتعالى مع قدرته على ما يطلبون لن يجيبهم لأنهم لا يعلمون أنهم لا يؤمنون ولو جاءهم بالآيات لأنهم سبقوا إلى الإنكار والجحود. فيكفرون بهذه الآية كما كفروا بالقرآن ولأن القرآن حجة في ذاته وهو أقوى حجة تناسب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الآيات المادية وقائع حسية تنتهي بانتهاء زمنها، ولا يعرفها إلا الذين يرونها أما القرآن فهو باق خالد معجز في كل الأعصار والدهور فناسب شريعة خالدة باقية إلى يوم القيامة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشير هذه الآية إِلى واحد من الأعذار التي يتذرع بها المشركون، فقد جاء في بعض الرّوايات أنّه عندما عجز بعض رؤساء قريش عن معارضة القرآن ومقابلته، قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل هذا الذي تقوله لا فائدة فيه، إِذا كنت صادقاً فيما تقول، فأتنا بمعجزات كعصا موسى وناقة صالح، يقول القرآن بهذا الشأن: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربّه). من الواضح أنّ أُولئك لم يكونوا جادين في بحثهم عن الحقيقة، لأنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد جاء لهم من المعاجز بما يكفي، وحتى لو لم يأت بمعجز سوى القرآن الذي تحداهم في عدة آيات منه ودعاهم بصراحة إِلى أن يأتوا بمثله فعجزوا عن ذلك، لكان فيه الكفاية لإِثبات نبوته، غير أنّ هؤلاء المزيفين كانوا يبحثون عن عذر يتيح لهم إِهانة القرآن من جهة، والتملص من قبول دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة أُخرى، لذلك كانوا لا يفتأون يطالبونه بالمعجزات، ولو أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استجاب لمطالبهم لأنكروا كل ذلك بقولهم (هذا سحر مبين)، كما جاء في آيات أُخرى من القرآن، لذلك يأمر الله رسوله أن: (قل إِنّ الله قادر على أن ينزل آية) إِلاّ أنّ في ذلك أمراً أنتم عنه غافلون، وهو أنّه إِذا حقق الله مطاليبكم التي يدفعكم إِليها عنادكم، ثمّ بقيتم على عنادكم ولم تؤمنوا بعد مشاهدتكم للمعاجز، فسوف يقع عقاب الله عليكم جميعاً، وتفنون عن آخركم، لأنّ ذلك سيكون منتهى الاستهتار بمقام الأُلوهية المقدس وبمبعوثه وآياته ومعجزاته، ولهذا تنتهي الآية بالقول: (ولكن أكثرهم لا يعلمون).