اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٖ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَتَضَرَّعُونَ} (42)

في الكلام : حَذْفٌ تقديره : " أرْسلْنَا رُسُلاً إلى أممٍ فكذبوا فأخذناهم " وهذا الحذفُ ظاهر جداً .

و " من قَبْلِكَ " متعلِّقٌ ب " أرْسلنا " ، وفي جعله صِفَةً ل " أمم " كلام تقدِّم مِرَاراً ، وتقدَّم تفسيرُ { الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ } [ البقرة : 177 ] ولم يُلْفَظُ لهما بِمُذَكِرٍ على " أفْعَل " .

قوله : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } .

" إذ " منصوب ب " تضرَّعوا " فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه ، وهو جائز في المفعول به ، تقول : " لولا زيداً ضَرَبْتَ " ، وتقدَّم أن حرفَ التَّحْضِيض مع الماضي يكون معناه التَّوْبِيخَ ، والتَّضَرُّع : " تَفَعُّل " من الضَّراعَة ؛ وهي الذِّلَّة والهَيْبَة المسببة عن الانْقِيَادِ إلى الطاعة ، يقال : " ضَرَعَ يَضْرَعُ ضراعة فهو ضارعٌ وضَرِعٌ " .

قال الشاعر : [ الطويل ]

ليُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ *** ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ{[13881]}

وللسهولة والتَّذَلُّلِ المفهومة من هذه المادة اشْتَقُّوا منها لِلثَّدْي اسماً فقالو له : " ضَرْعاً " .

قوله : { وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُم } " لكنْ " هنا وَاقِعَةٌ بين ضدَّيْنِ ، وهما اللِّينُ والقَسْوَةُ ؛ وذلك أن قوله : " تضرَّعوا " مُشْعِرٌ باللِّينِ والسُّهُولةِ ، وكذلك إذا جعلْتَ الضَّراعَةَ عبارة عن الإيمان ، والقَسْوَةَ عبارة عن الكُفْرِ ، وعبَّرت عن السبب بالمُسَبَّبِ ، وعن المُسَبَّبِ بالسبب ، ألا ترى أنك تقول : " آمنَ قلبه فتضرَّعُ ، وقسا قلبه فكفر " وهذا أحسن من قول أبي البقاء{[13882]} : " ولكن " استدراك على المعنى ، أي ما تَضَرَّعُوا ولكن يعني أن التَّحْضِيضَ في معنى النَّفْي ، وقد يَتَرَجَّحُ هذا بما قالهُ الزمخشري{[13883]} فإنه قال : مَعْنَاهُ نَفْيُ التضرُّع كأنه قيل : لم يَتَضرَّعوا إذ جاءهم بأسُنَا ، ولكنه جاء ب " لولا " ليفيد أنه لم يكن لهم عُذْرٌ في تَرْك التَّضَرُّعِ ، إلاَّ قَسْوَة قلوبهم ، وإعجابهم بأعمالهم التي زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لهم .

قوله : " وزيَّنَ لَهُم " هذه الجملة تَحْتَمِلُ وجهين :

أحدهما : أن تكون اسْتِئْنَافِيَّةً أخبر تعالى عنهم بذلك .

والثاني : - وهو الظاهر - : أنها داخلة في حيَّز الاستدراك فهو نسقٌ على قوله : " قَسَتْ قُلُوبهم " وهذا رأي الزمخشري فإن قال{[13884]} : " لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التَّضرُّعِ إلاَّ قَسْوَةُ قلوبهم وإعجابُهُم بأعمالهم " كما تقدَّم و " ما " في قوله : " ما كانوا " يحتمل [ أن تكون موصولة اسمية أي : الذي كانوا يعملونه ]{[13885]} وأن تكون مصدرية ، أي : زيَّنَ لهم عَملَهُم ، كقوله : { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [ النمل :4 ] ويَبْعُدُ جَعْلُها نكرةً موصوفة .

فصل

دلت هذه الآية مع الآية التي قبلها على مذهب أهل السُّنةِ ، لأنه بيَّن في الآية الأولى أن الكُفار يرجعون إلى الله -تعالى- عند نزول الشَّدائد ثم بيَّن في هذه الآية أنهم لا يَرْجعُونَ إلى الله -تعالى- عند كل ما كان من جِنْسِ الشَّدَائِدِ ، بل قد يبقون مُصِرِّينَ على الكُفْرِ غير راجعين إلى الله تعالى ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ من لم يَهْدِهِ الله لم يَهْتَدِ سواء شَاهَدَ الآيات أوْ لم يُشَاهد .

فإن قيل : ألَيْسَ قوله : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } يَدُلُّ على أنهم تَضَرَّعُوا ، وها هنا يقول : " قَسَتْ قُلوبهم ولم يتضرَّعوا " .

فالجوابُ : أولئك أقْوَامٌ وهؤلاء أقوامٌ آخَرُون ، أو نقول : أولئك تَضَرَّعُوا لطلب إزالة البَلِيَّة ولم يَتَضرَّعُوا على سبيل الإخلاصِ لله تعالى ، فلهذا الفَرْق حَسُنَ الإثْبَاتُ والنفي{[13886]} .

فصل

احتج الجُبَّائي{[13887]} بقوله : { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون } على أنه -تعالى- إنما أرْسَل الرسل إليهم ، وإنما سَلَّطَ البَأسَاءَ والضَّرَّاء عليهم لإرادةِ أن يتضرعوا أو يؤمنوا ، وذلك يَدُلُّ على أنه -تعالى- أراد الإيمان والطاعة من الكُلِّ .

والجوابُ أن كلمة " لَعلَّ " للتَّرَجِّي والتَّمَنِّي ، وهو في حق الله -تعالى- مُحَالٌ ، وأنتم حملتموه على إرادة هذا المَطْلُوب ، ونحن نحمله على أنه -تعالى- عاملهم مُعاملة لو صدرت عن غير الله لكان المَقْصُود منه هذا المعنى ، فأمَّا تعليل حكم الله -تعالى- ومشيئته ، فذلك مُحَالٌ على ما ثبت بالدَّليل ، ثم نقول : إن دَلَّتْ هذه الآية على قولكم من هذا الوَجْهِ ، فإنها تَدُلُّ على ضِدِّ قولكم من وجهٍ آخر ، وذلك لأنها تَدُلُّ على أنهم إنما لم يَتضَرَّعُوا لِقَسْوَةِ قلوبهم ، ولأجلِ أنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لهم أعْمَالَهُمْ ، فنقول : تلك القَسْوَةُ إن [ حصلت بفعلهم احتاجوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل وإن ]{[13888]} حصلت بفعل الله -تعالى- فالقول قولنا .

وأيضاً : هَبْ أن الكُفَّارَ إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح [ بسبب تزيين الشيطان ، إلاَّ أنا نقول : ولم بقي الشيطان مصراً على هذا الفعل القبيح ]{[13889]} ، فإن كان ذلك لأجل شَيْطان آخر تَسَلْسَلَ إلى غير نهاية ، وإذا بطلت هذه التَّقَادِيرُ وانتهت إلى أنَّ كُلَّ أحد إنما يُقدِمُ تارةً على الخير وأخْرَى على الشَّرِّ ؛ لأجل الدَّوَاعي التي تحصل في قَلْبِهِ ثم ثبت أن تلك الدَّوَاعي لا تحصل إلاَّ بإيجاد الله ، فحينئذٍ يَصحُّ قولنا ، ويفسدُ قولهم بالكلية ، والله أعلم .


[13881]:تقدم.
[13882]:ينظر: الإملاء 1/142.
[13883]:ينظر: الكشاف 2/23.
[13884]:ينظر: الكشاف 2/23.
[13885]:سقط في أ.
[13886]:ينظر: الرازي 12/185.
[13887]:ينظر: المصدر السابق.
[13888]:سقط في أ.
[13889]:سقط في أ.