{ 40 ، 41 } { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ }
يقول تعالى لرسوله : { قُلْ } للمشركين بالله ، العادلين به غيره : { أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : إذا حصلت هذه المشقات ، وهذه الكروب ، التي يضطر إلى دفعها ، هل تدعون آلهتكم وأصنامكم ، أم تدعون ربكم الملك الحق المبين .
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين عند ما تحيط بهم المصائب والأهوال لا يتوجهون بالضراعة والدعاء إلا إلى الله ، وأنهم مع ذلك لا يخصونه بالعبادة كما يخصونه بالدعاء لكشف الضر ، فقال - تعالى - : { قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ . . . . } .
{ أَرَأَيْتَكُم } المقصود به أخبرونى ، وكلمة أرأيت فى القرآن تستعمل للتنبيه والحث على الرؤية والتأمل ، فهو استفهام للتنبيه مؤداه : أرأيت كذا فإن لم تكن رأيته فانظره وتأمله .
والمعنى : قل - يا محمد - لهؤلاء المشركين : أخبرونى عن حالكم عندما يداهمكم عذاب الله الدنيوى كزلزال مدمر ، أو ريح صر صر عاتية ، أو تفاجئكم الساعة بأهوالها وشدائدها ألستم فى هذه الأحوال تلتجئون إلى الله وحده وتنسون آلهتكم الباطلة ، لأن الفطرة حينئذ هى التى تنطق على ألسنتكم بدون شعور منكم ؟ وما دام الأمر كذلك فلماذا تشركون مع الله آلهة أخرى ؟ إن أحوالكم هذه لتدعو إلى الدهشة والغرابة ، لأنكم تلجأون إليه وحده عند الشدائد والكروب ومع ذلك تعبدون غيره ومن لا يملك ضرا ولا نفعا .
والاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } للتوبيخ والتقريع والتعجب من حالهم .
وجواب الشرط محذوف ، والتقدير : إن كنتم صادقين فى أن الأصنام تنفعكم فادعوها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } . .
اختلف أهل العربية في معنى قوله : أرأيْتَكُمْ فقال بعض نحويّي البصرة : الكاف التي بعد التاء من قوله : أرأيْتَكُمْ إنما جاءت للمخاطبة ، وتركت التاء مفتوحة كما كانت للواحد ، قال : وهي مثل كاف رُوَيدك زيدا ، إذا قلت : أرود زيدا ، هذه الكاف ليس لها موضع مسمى بحرف لا رفع نصب ، وإنما هي في المخاطبة مثل كاف ذاك ، ومثل ذلك قول العرب : أبصرك زيدا ، يدخلون الكاف للمخاطبة .
وقال آخرون منهم : معنى : أرأيْتَكُمْ إنْ أتاكُمْ أرأيتم ، قال : وهذه الكاف تدخل للمخاطبة مع التوكيد ، والتاء وحدها هي الاسم ، كما أدخلت الكاف التي تفرّق بين الواحد والاثنين والجميع في المخاطبة كقولهم : هذا ، وذاك ، وتلك ، وأولئك ، فتدخل الكاف للمخاطبة وليست باسم ، والتاء هو الاسم للواحد والجميع ، تُرِكَتْ على حال واحدة ، ومثل ذلك قولهم : ليسك ثم إلاّ زيد ، يراد : ليس ولا سِيّك زيد ، فيراد : ولا سيما زيد ، وبلاك ، فيراد بلى ، في معنى : ولبئسك رجلاً ولنعمك رجلاً وقالوا : انظرك زيدا ما أصنع به ، وأبصرك ما أصنع به ، بمعنى أبصرُه . وحكى بعضهم : أبصركم ما أصنع به ، يراد : أبصروا ، وانظركم زيدا : أي انظروا . وحكي عن بعض بني كلاب : أتعلمك كان أحد أشعر من ذي الرمة ؟ فأدخل الكاف . وقال بعض نحوّيي الكوفة : أرأيتك عمرا أكثرُ الكلام ، فيه ترك الهمز . قال : والكاف من أرأيتك في موضع نصب ، كأن الأصل : أرأيت نفسك على غير هذه الحال ؟ قال : فهذا يثنى ويجمع ويؤنث ، فيقال : أرأيتما كما وأرأيتموكم وأرَيْتُنّكُنّ أوقع فعله على نفسه ، وسأله عنها ، ثم كثر به الكلام حتى تركوا التاء موحدة للتذكير والتأنيث والتثنية والجمع ، فقالوا : أرأيتكم زيدا ما صنع ، وأرأيتكن زيدا ما صنع ، فوحدوا التاء وثّنُوا الكاف وجمعوها فجعلوها بدلاً من التاء ، كما قال : هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ وهاءَ يا رجل ، وهاؤُما ، ثم قالوا : هاكم ، اكتفى بالكاف والميم مما كان يثنى ويجمع ، فكأن الكاف في موضع رفع إذ كانت بدلاً من التاء ، وربما وحدت للتثنية والجمع والتذكير والتأنيث ، وهي كقول القائل : عليك زيدا ، الكاف في موضع خفض ، والتأويل رفع . فأما ما يجلب فأكثر ما يقع على الأسماء ، ثم تأتي بالاستفهام ، فيقال : أرأيتك زيدا هل قام ، لأنها صارت بمعنى : أخبرني عن زيد ، ثم بين عما يستخبر ، فهذا أكثر الكلام ، ولم يأت الاستفهام ثنيها ، لم يقل : أرأيتك هل قمت ، لأنهم أرادوا أن يبينوا عمن يسأل ، ثم تبين الحالة التي يسأل عنها ، وربما جاء بالخير ولم يأت بالاسم ، فقالوا : أرأيت زيدا هل يأتينا ، وأرأيتك أيضا ، وأرأيت زيدا إن أتيته هل يأتينا إذا كانت بمعنى أخبرني ، فيقال باللغات الثلاث .
وتأويل الكلام : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام ، أخبروني إن جاءكم أيها القوم عذاب الله ، كالذي جاء من قبلكم من الأمم الذين هلك بعضهم بالرجفة ، وبعضهم بالصاعقة ، أو جاءتكم الساعة التي تنشرون فيها من قبوركم وتبعثون لموفق القيامة ، أغير الله هناك تدعون لكشف ما نزل بكم من البلاء أو إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نزل بكم من عظيم البلاء إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يقول : إن كنتم محقّين في دعواكم وزعمكم أن آلهتكم تدعونها من دون الله تنفع أو تضرّ .
وقوله تعالى : { قل أرأيتكم } الآية ، ابتداء احتجاج على الكفار الجاعلين لله شركاء ، والمعنى أرأيتم إذا خفتم عذاب الله أو خفتم هلاكاً أو خفتم الساعة أتدعون أصنامكم وتلجأون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم : إنها آلهة ؟ بل تدعون الله الخالق الرزاق فيكشف ما خفتموه إن شاء ، وتنسون أصنامكم أي تتركونهم ، فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول وإغفال ، فكيف يجعل إلهاً من هذه حاله في الشدائد والأزمات ؟ وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة «أرأيتكم » بألف مهموزة على الأصل ، لأن الهمزة عين الفعل ، وقرأ نافع بتخفيف الهمزة بْين بْين على عرف التخفيف وقياسه ، وروي عنه أنه قرأها بألف ساكنة وحذف الهمزة ، وهذا تخفيف على غير قياس ، والكاف في أرأيتك زيداً و «أرأيتكم » ليست باسم وإنما هي مجردة للخطاب كما هي في ذلك ، وأبصرك زيداً ونحوه ، ويدل على ذلك أن رأيت بمعنى العلم ، إنما تدخل على الابتداء والخبر ، فالأول من مفعوليها هو الثاني بعينه ، والكاف في أرأيتك زيداً ليست المفعول الثاني كقوله تعالى : { أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ }{[4912]} فإذا لم تكن اسما صح أنها مجردة للخطاب ، وإذا تجردت للخطاب صح أن التاء ليست للخطاب كما هي في ( أنت ) لأن علامتي خطاب لا تجمعان{[4913]} على كلمة كما لا تجتمع علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام فلما تجردت التاء من الخطاب وبقيت علامة الفاعل فقط استغني عن إظهار تغيير الجمع والتأنيث لظهور ذلك في الكاف ، وبقيت التاء على حد واحد في الإفراد والتثنية والجمع والتأنيث ، وروي عن بعض بني كلاب أنه قال : أتعلمك كان أحد أشعر من ذي الرمة ؟ . فهذه الكاف صلة في الخطاب ، و { أتاكم عذاب الله } معناه أتاكم خوفه وأماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض ونحوها التي يخاف منها الهلاك ، ويدعو إلى هذا التأويل أنا لو قدرنا إتيان العذاب وحلوله لم يترتب أن يقول بعد ذلك { فيكشف ما تدعون } لأن ما قد صح حلوله ومضى على البشر لا يصح كشفه ، ويحتمل أن يراد ب { الساعة } في هذه الآية موت الإنسان .
استئناف ابتدائي يتضمّن تهديداً بالوعيد طرداً للأغراض السابقة ، وتخلّله تعريض بالحثّ على خلع الشرك إذ ليس لشركائهم نفع بأيديهم ، فذُكِّروا بأحوال قد تعرض لهم يلجأون فيها إلى الله . وألقي عليهم سؤال أيستمرون على الإشراك بالله في تلك الحالة وهل يستمرّون من الآن على الشرك إلى أن يأتيهم العذاب أو تأتيهم القيامة حين يلجأون إلى الإيمان بوحدانيته ، ولات حينَ إيمان .
وافتتح هذا التهديد بالأمر بالقول اهتماماً به وإلاّ فإنّ معظم ما في القرآن مأمور الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم . وقد تتابع الأمر بالقول في الآيات بعد هذه إلى قوله : { لكلّ نبأ مستقرّ } [ الأنعام : 67 ] اثنتي عشرة مرّة . وورد نظيره في سورة يونس .
وقوله : { أرأيتكم } تركيب شهير الاستعمال ، يفتتح بمثله الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به . وهمزة الاستفهام فيه للاستفهام التقريري .
و ( رأى ) فيه بمعنى الظنّ . يسند إلى تاء خطاب تلازم حالة واحدة ملازمة حركة واحدة ، وهي الفتحة لا تختلف باختلاف عدد المخاطب وصنفه سواء كان مفرداً أو غيره ، مذكّراً أو غيره ، ويجعل المفعول الأول في هذا التركيب غالباً ضمير خطاب عائداً إلى فاعل الرؤية القلبية ومستغنى به لبيان المراد بتاء الخطاب . والمعنى أنّ المخاطب يعلم نفسه على الحالة المذكورة بعد ضمير الخطاب ، فالمخاطب فاعل ومفعول باختلاف الاعتبار ، فإنّ من خصائص أفعال باب الظنّ أنّه يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها واحداً ( وألحق بأفعال العلم فعلان : فقَد ، وعَدِم في الدعاء نحو فقدتُني ) ، وتقع بعد الضمير المنصوب جملة في موضع مفعوله الثاني ، وقد يجيء في تلك الجملة ما يعلق فعل الرؤية عن العمل .
هذا هو الوجه في تحليل هذا التركيب . وبعض النحاة يجعل تلك الجملة سادّة مسدّ المفعولين تفصّياً من جعل ضمائر الخطاب مفاعيل إذ يجعلونها مجرّد علامات خطاب لا محلّ لها من الإعراب ، وذلك حفاظاً على متعارف قواعد النحو في الاستعمال الأصلي المتعارف مع أنّ لغرائب الاستعمال أحوالاً خاصّة لا ينبغي غضّ النظر عنها إلاّ إذا قصد بيان أصل الكلام أو عدم التشويش على المتعلّمين . ولا يخفى أنّ ما ذهبوا إليه هو أشدّ غرابة وهو الجمع بين علامتي خطاب مختلفتين في الصورة ومرجعهما متَّحد . وعلى الوجه الذي اخترناه فالمفعول الثاني في هذا التركيب هو جملة : { أغير الله تدعون } .
وإنّما تركت التاء على حالة واحدة لأنّه لمَّا جعلتْ ذاتُ الفاعل ذات المفعول إعراباً وراموا أن يجعلوا هذا التركيب جارياً مجرى المثل في كونه قليل الألفاظ وافر المعنى تجنّبوا ما يحدثه الجمع بين ضميري خطاب مرفوع ومنصوب من الثقل في نحو أرأيتما كُما ، وأرأيتُمْكُم وأريْتُنُّكُنّ ، ونحو ذلك ، سلكوا هذه الطريقة الغريبة فاستغنوا بالاختلاف حالة الضمير الثاني عن اختلاف حالة الضمير الأول اختصاراً وتخفيفاً ، وبذلك تأتَّى أن يكون هذا التركيب جارياً مجرى المثل لما فيه من الإيجاز تسهيلاً لشيوع استعماله استعمالاً خاصّاً لا يغيّر عنه ، فلذلك لا تكسر تلك التاء في خطاب المؤنّث ولا تضمّ في خطاب المثنّى والمجموع .
وعن الأخفش : أخرجت العرب هذا اللفظ من معناه بالكلية فألزمته الخطاب ، وأخرجته عن موضوعه إلى معنى ( أمّا ) بفتح الهمزة ، فجعلت الفاء بعده في بعض استعمالاته كقوله تعالى : { أرأيتَ إذْ أويْنَا إلى الصخرة فإنّي نسيت الحوت } [ الكهف : 63 ] فما دخلت الفاء إلاّ وقد أخرجت ( أرأيت ) لمعنى ( أمّا ) ؛ وأخرجته أيضاً إلى معنى ( أخبرني ) فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه ؛ وتلزم الجملة بعد الاستفهام ، وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرفِ الزمان . اهـ .
في « الكشاف » : متعلِّق الاستخبار محذوف ، تقديره : إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون ، ثم بكتهم بقوله { أغير الله تدعون } ، أي أتخصّون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها بل إيَّاه تدعون اهـ . وجملة : { أغير الله تدعون } هي المفعول الثاني لفعل { أرأيتكم } .
واعلم أنّ هذا استعمال خاصّ بهذا التركيب الخاصّ الجاري مجرى المثل ، فأمّا إذا أريد جريان فعل الرؤية العلمية على أصل بابه فإنَّه يجري على المتعارف في تعدية الفعل إلى فاعله ومفعوليه . فمن قال لك : رأيتُني عالماً بفلان . فأردت التحقّق فيه تقول : أرأيتَك عالماً بفلان . وتقول للمثنّى : أرأيتماكما عالمين بفلان ، وللجمع أرأيتُموكُم وللمؤنثة أرأيتِك بكسر التاء .
وقرأه نافع في المشهور بتسهيل الهمزة ألفاً ؛ وعنه رواية بجعلها بين الهمزة والألف . وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي هي عين الكلمة ، فيقول : { أرَيْت } وهي لغة . وقرأه الباقون بتحقيق الهمزة .
وجملة : { إن أتاكم عذاب الله } الخ معترضة بني مفعولي فعل الرؤية ، وهي جملة شرطية حذف جوابها لدلالة جملة المفعول الثاني عليه .
وإتيان العذاب : حلوله وحصوله ، فهو مجاز لأن حقيقة الإتيان المجيء ، وهو الانتقال من موضع بعيد إلى الموضع الذي استقر فيه مفعول الإتيان ، فيطلق مجازاً على حصول شيء لم يكن حاصلاً . وكذلك القول في إتيان الساعة سواء .
ووجه إعادة فعل { أتتكم الساعة } مع كون حرف العطف مغنياً عن إعادة العامل بأن يقال : إن أتاكم عذاب الله أو الساعة ، هو ما يوجَّه به الإظهار في مقام الإضمار من إرادة الاهتمام بالمُظْهَر بحيث يعاد لفظه الصريح لأنّه أقوى استقراراً في ذهن السامع .
والاهتمام هنا دعا إليه التهويل وإدخال الروع في ضمير السامع بأن يصرّح بإسناد هذا الإتيان لاسم المسند إليه الدّالّ على أمر مهول ليدلّ تعلّق هذا الفعل بالمفعول على تهويله وإراعته .
وقد استشعر الاحتياجَ إلى توجيه إعادة الفعل هنا الشيخ محمد بن عَرفة في درس تفسيره ، ولكنَّه وجّهه بأنَّه إذا كان العاملان متفاوتين في المعنى لكون أحدهما أشدّ يعاد العامل بعد حرف العطف إشعاراً بالتفاوت ، فإنّ إتيان العذاب أشدّ من إتيان الساعة ( أي بناء على أنّ المراد بعذاب الله عذاب الآخرة ) أو كان العاملان متباعدين ، فإن أريد بالساعة القيامة وبعذاب الله المحْقُ والرزايا في الدنيا فيعقبه بعد مهلة تامَّة .
وإن أريد بالساعة المدّة فالمحق الدنيوي كثير ، منه متقدّم ومنه متأخِّر إلى الموت ، فالتقدّم ظاهر اه . وفي توجيهه نظر إذ لا يشهد له الاستعمال .
وإضافة العذاب إلى اسم الجلالة لتهويله لصدوره من أقدر القادرين . والمراد عذاب يحصل في الدنيا يضرعون إلى الله لرفعه عنهم بدليل قوله { أغير الله تدعون } ، فإنّ الدعاء لا يكون بطلب رفع عذاب الجزاء . وهذا تهديد وإنذار .
والساعة : علَم بالغلبة على ساعة انقراض الدنيا ، أي إن أدركتْكم الساعة .
وتقديم { أغير الله } على عامله وهو { تدعون } لتكون الجملة المستفهم عنها جملة قصر ، أي أتعرضون عن دعاء الله فتدعون غيره دونه كما هو دأبكم الآن ، فالقصر لحكاية حالهم لا لقصد الردّ على الغير . وقد دلّ الكلام على التعجّب ، أي تستمرّون على هذه الحال . والكلام زيادة في الإنذار .
وجملة { إن كنتم صادقين } مستأنفة ، وجوابها محذوف دلّ عليه قوله : { أرأيتكم } الذي هو بمعنى التقرير . فتقدير الجواب : إن كنتم صادقين فأنتم مقرّون بأنَّكم لا تدعون غير الله . ذَكّرهم في هذه الآية وألجأهم إلى النظر ليعلموا أنّه إذا أراد الله عذابهم لا تستطيع آلهتهم دفعه عنهم ، فهم إن توخّوا الصدق في الخبر عن هذا المستقبل أعادوا التأمّل فلا يسعهم إلاّ الاعتراف بأنّ الله إذا شاء شيئاً لا يدفعه غيرُه إلاّ بمشيئته ، لأنّهم يعترفون بأنّ الأصنام إنَّما تقرّبهم إلى الله زلفى ، فإذا صدقوا وقالوا : أندعوا الله ، فقد قامت الحجّة عليهم من الآن لأنّ من لا يغني في بعض الشدائد لا ينبغي الاعتماد عليه في بعض آخر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوفهم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله} في الدنيا كما أتى الأمم الخالية، {أو أتتكم الساعة}، ثم رجع إلى عذاب الدنيا، فقال: {أغير الله} من الآلهة {تدعون} أن يكشف عنكم العذاب في الدنيا، {إن كنتم صادقين} بأنه معه آلهة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام: أخبروني إن جاءكم أيها القوم عذاب الله، كالذي جاء من قبلكم من الأمم الذين هلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالصاعقة، أو جاءتكم الساعة التي تنشرون فيها من قبوركم وتبعثون لموفق القيامة، أغير الله هناك تدعون لكشف ما نزل بكم من البلاء أو إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نزل بكم من عظيم البلاء "إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ": إن كنتم محقّين في دعواكم وزعمكم أن آلهتكم تدعونها من دون الله تنفع أو تضرّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أغير الله تدعون} يحتمل حقيقة الدعاء عند نزول البلاء، ويحتمل العبادة؛ أي أغير الله تعبدون على رجاء الشفاعة لكم، وقد رأيتم أنها لم تشفع لكم عند نزول البلاء.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
{أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} هذا استفهام بمعنى التقرير، يعني: لا تدعون إلا الله، وأراد به في أحوال الضرورات؛ فإن الكفار في حال الضرورات يدعون الله -تعالى- كما قال: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {قل أرأيتكم} الآية، ابتداء احتجاج على الكفار الجاعلين لله شركاء، والمعنى أرأيتم إذا خفتم عذاب الله أو خفتم هلاكاً أو خفتم الساعة، أتدعون أصنامكم وتلجؤون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم: إنها آلهة؟ بل تدعون الله الخالق الرزاق فيكشف ما خفتموه إن شاء، وتنسون أصنامكم أي تتركونهم، فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول وإغفال، فكيف يجعل إلهاً من هذه حاله في الشدائد والأزمات؟و {أتاكم عذاب الله} معناه أتاكم خوفه وأماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض ونحوها التي يخاف منها الهلاك، ويدعو إلى هذا التأويل أنا لو قدرنا إتيان العذاب وحلوله لم يترتب أن يقول بعد ذلك {فيكشف ما تدعون} لأن ما قد صح حلوله ومضى على البشر لا يصح كشفه، ويحتمل أن يراد ب {الساعة} في هذه الآية موت الإنسان.
اعلم أنه تعالى لما بين غاية جهل أولئك الكفار بين من حالهم أيضا أنهم إذا نزلت بهم بلية أو محنة يفزعون إلى الله تعالى ويلجؤون إليه ولا يتمردون عن طاعته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت هذه الآية -بما فيها من التصريح بالتكذيب- شديدة الاعتناق لقوله {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} [الأنعام: 21و 39] وقوله {كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباؤا} [الأنعام: 5] الآيتين رجع بالذي بعدها إلى فذلكة التفاصيل الماضية وواسطة عقدها وفريدة درها، وهو التوحيد الذي أبانته الأدلة قبل الآيتين، فقال دالاً على اعتقادهم القدرة التي استلزم نعتُهم بطلب الآية نفيها، واعتقادهم للتوحيد في الجملة وهم يكذبون به، بياناً لأنهم في الظلمات مقهورون بيد المشيئة لعدم تحاشيهم من التناقض معجباً منهم: {قل أرءيتكم} أي أخبروني يا من كذب بالآيات والقدرة عناداً وشهد أن مع الله آلهة أخرى، وعدل بالله الذي يعلم السر والجهر، وهو مع من يدعوه في كل سماء وكل أرض بعنايته ونصره.
ولما كانت حقيقة {أرءيتكم}: هل رأيتم أنفسكم، وكان هذا لكونه سؤالاً عن معلوم لا يجهله أحد -مشيراً إلى أن السؤال عن غيره مما قد يخفى من أحوال النفس، كان كأنه قيل: عن أيّ أحوال نفوسنا نُسأل؟ فقيل تنبيهاً لهم على حالة تلزمهم بالتوحيد أو العناد الذي يصير في العلم به كالسؤال عن رؤية النفس سواء: {إن أتاكم} أي قبل مجيء الساعة كما آتى من قبلكم {عذاب الله} أي المستجمع لمجامع العظمة، فلا يقدر أحد على كشف ما يأتي به {أو أتتكم الساعة} أي القيامة بما فيها من الأهوال.
ولما عجب منهم بما مضى- كما مضى، قال مجيباً للشرط موبخاً لهم منكراً عليهم عدم استمرارهم على دعائه ولزوم سؤاله وندائه، ويجوز أن يكون جواب الشرط محذوفاً تقديره: من تدعون؟ ثم زادهم توبيخاً وتبكيتاً بقوله: {أغير الله} أي الملك الذي له العظمة كلها {تدعون} أي لشدة من تلك الشدائد، ولا تدعون الله مع ذلك الغير {إن كنتم صادقين} أي في أن غير الله يغني شيئاً حتى يستحق الإلهية، وجواب الشرط محذوف تقديره: فادعوا ذلك الغير، وهذه حجة لا يسعهم معها غيرُ التسليم، فإن عادتهم كانت مستمرة أنهم إذا اشتد الأمر وضاق الخناق لا يدعون غير الله ولا يوجهون الهمم إلا إليه، فإن سلكوا سبيل الصدق الذي له ينتحلون وبه يتفاخرون فقالوا: لا ندعو غيره، فقد لزمتهم الحجة في أنه لا يعدل به شيء ولا شريك له، وإن عاندوا نطق لسان الحال أنهم على محض الضلال، وإن سكتوا أثبت عليك الخطاب، وهي مع ذلك -كما ترى- دليل على ما أخبرت به الآية قبلها من أن الأمر كله لله، أي إنكم كلكم مشتركون في وضوح الأمر في أنه لا منصرف إلا إليه وقد افترقتم فصدق بعض وكذب آخرون، فلو أن الأمر موقوف على وضوح الدلالة فقط كان الكل على نهج واحد.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا قول مستأنف أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوجهه إلى المشركين مذكرا إياهم بما أودع في فطرتهم من توحيده عز وجل ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض فاسد يشغل أذهانهم ومخيلاتهم في وقت الرخاء، وما يخف حمله من البلاء، حتى إذا ما نزل بهم ما لا يطاق من اللأواء، وأثار تقطع الأسباب في أنفسهم ضراعة الدعاء، دعوا الله وحده مخلصين له الدين {لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين} [يونس: 22]، وضل عنهم ما كانوا يدعون من الأصنام والأوثان، وما وضعت رمزا له من ملك أو إنسان، لأن هذا دعاء القلب لا دعاء اللسان، -ذكرهم بهذا بعد تذكيرهم بالمشابهة بين أمم الناس وأمم الحيوان، وحال من فسدت قواهم الفطرية من الناس، ولذلك قفى عليه بذكر من تركوا التضرع له تعالى حين البأس، وقبل أن يحيط بهم اليأس، فابتلاهم بالسراء والنعماء، بعد البأساء والضراء، فأعقبهم بدل الشكر فرح البطر، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
والذي أراه جامعا بين الأقوال أن « أرأيتكم» و « أرأيتم» استفهام عن الرأي، أو عن الرؤية التي بمعنى العلم، وأن الاستفهام في هذا الاستعمال للتقرير، وأن المراد منه التنبيه والتمهيد، لما يذكر بعده من نبإ غريب أو عجيب، أو استفهام تقوم به في المسألة الحجة، وتدحض الشبهة، ولولا أن الاستفهام للتقرير، لما كان لقول الجمهور إنه بمعنى طلب الأخبار وجه وجيه،
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هنا -في هذه الموجه- يواجه السياق القرآني فطرة المشركين ببأس الله. بل يواجههم بفطرتهم ذاتها حين تواجه بأس الله.. حين تتعرى من الركام في مواجهة الهول، وحين يهزها الهول فيتساقط عنها ذلك الركام! وتنسى حكاية الآلهة الزائفة؛ وتتجه من فورها إلى ربها الذي تعرفه في قرارتها تسأله وحده الخلاص والنجاة! ثم يأخذ بأيديهم ليوقفهم على مصارع الغابرين من أسلافهم، وفي الطريق يريهم كيف تجري سنة الله، وكيف يعمل قدر الله. ويكشف لأبصارهم وبصائرهم عن استدراج الله لهم، بعد تكذيبهم برسل الله، وكيف قدم لهم الابتلاء بعد الابتلاء -الابتلاء بالبأساء والضراء، ثم الابتلاء بالرخاء والنعماء- وأتاح لهم الفرصة بعد الفرصة، لينتبهوا من الغفلة، حتى إذا استنفدوا الفرص كلها، وغرتهم النعمة بعد أن لم توقظهم الشدة. جرى قدر الله، وفق سنته الجارية وجاءهم العذاب بغته: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين). وما يكاد هذا المشهد الذي يهز القلوب هزا يتوارى، حتى يجيء في أعقابه مشهد آخر وهم يتعرضون لبأس الله أيضا، فيأخذ سمعهم وأبصارهم، ويختم على قلوبهم، ثم لا يجدون إلها غير الله يرد عليهم سمعهم وأبصارهم وإدراكهم. وفي مواجهة هذين المشهدين الرائعين الهائلين يتحدث إليهم عن وظيفة الرسل.. إنها البشارة والنذارة.. ليس وراء ذلك شيء.. ليس لهم أن يأتوا بالخوارق، ولا أن يستجيبوا لمقترحات المقترحين! إنما هم يبلغون. يبشرون وينذرون. ثم يؤمن فريق من الناس ويعمل صالحا فيأمن الخوف وينجو من الحزن. ويكذب فريق ويعرض فيمسه العذاب بهذا الإعراض والتكذيب. فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.. فهذا هو المصير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. افتتح هذا التهديد بالأمر بالقول اهتماماً به وإلاّ فإنّ معظم ما في القرآن مأمور الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم. وقد تتابع الأمر بالقول في الآيات بعد هذه إلى قوله: {لكلّ نبأ مستقرّ} [الأنعام: 67] اثنتي عشرة مرّة. وورد نظيره في سورة يونس.
وقوله: {أرأيتكم} تركيب شهير الاستعمال، يفتتح بمثله الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به. وهمزة الاستفهام فيه للاستفهام التقريري.
و (رأى) فيه بمعنى الظنّ. يسند إلى تاء خطاب تلازم حالة واحدة ملازمة حركة واحدة، وهي الفتحة لا تختلف باختلاف عدد المخاطب وصنفه سواء كان مفرداً أو غيره، مذكّراً أو غيره، ويجعل المفعول الأول في هذا التركيب غالباً ضمير خطاب عائداً إلى فاعل الرؤية القلبية ومستغنى به لبيان المراد بتاء الخطاب. والمعنى أنّ المخاطب يعلم نفسه على الحالة المذكورة بعد ضمير الخطاب، فالمخاطب فاعل ومفعول باختلاف الاعتبار، فإنّ من خصائص أفعال باب الظنّ أنّه يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها واحداً (وألحق بأفعال العلم فعلان: فقَد، وعَدِم في الدعاء نحو فقدتُني)، وتقع بعد الضمير المنصوب جملة في موضع مفعوله الثاني، وقد يجيء في تلك الجملة ما يعلق فعل الرؤية عن العمل.
هذا هو الوجه في تحليل هذا التركيب. وبعض النحاة يجعل تلك الجملة سادّة مسدّ المفعولين تفصّياً من جعل ضمائر الخطاب مفاعيل إذ يجعلونها مجرّد علامات خطاب لا محلّ لها من الإعراب، وذلك حفاظاً على متعارف قواعد النحو في الاستعمال الأصلي المتعارف مع أنّ لغرائب الاستعمال أحوالاً خاصّة لا ينبغي غضّ النظر عنها إلاّ إذا قصد بيان أصل الكلام أو عدم التشويش على المتعلّمين. ولا يخفى أنّ ما ذهبوا إليه هو أشدّ غرابة وهو الجمع بين علامتي خطاب مختلفتين في الصورة ومرجعهما متَّحد. وعلى الوجه الذي اخترناه فالمفعول الثاني في هذا التركيب هو جملة: {أغير الله تدعون}.
وإنّما تركت التاء على حالة واحدة لأنّه لمَّا جعلتْ ذاتُ الفاعل ذات المفعول إعراباً وراموا أن يجعلوا هذا التركيب جارياً مجرى المثل في كونه قليل الألفاظ وافر المعنى تجنّبوا ما يحدثه الجمع بين ضميري خطاب مرفوع ومنصوب من الثقل في نحو أرأيتما كُما، وأرأيتُمْكُم وأريْتُنُّكُنّ، ونحو ذلك، سلكوا هذه الطريقة الغريبة فاستغنوا بالاختلاف حالة الضمير الثاني عن اختلاف حالة الضمير الأول اختصاراً وتخفيفاً، وبذلك تأتَّى أن يكون هذا التركيب جارياً مجرى المثل لما فيه من الإيجاز تسهيلاً لشيوع استعماله استعمالاً خاصّاً لا يغيّر عنه، فلذلك لا تكسر تلك التاء في خطاب المؤنّث ولا تضمّ في خطاب المثنّى والمجموع.
.. ووجه إعادة فعل {أتتكم الساعة} مع كون حرف العطف مغنياً عن إعادة العامل بأن يقال: إن أتاكم عذاب الله أو الساعة، هو ما يوجَّه به الإظهار في مقام الإضمار من إرادة الاهتمام بالمُظْهَر بحيث يعاد لفظه الصريح لأنّه أقوى استقراراً في ذهن السامع.
والاهتمام هنا دعا إليه التهويل وإدخال الروع في ضمير السامع بأن يصرّح بإسناد هذا الإتيان لاسم المسند إليه الدّالّ على أمر مهول ليدلّ تعلّق هذا الفعل بالمفعول على تهويله وإراعته.
وقد استشعر الاحتياجَ إلى توجيه إعادة الفعل هنا الشيخ محمد بن عَرفة في درس تفسيره، ولكنَّه وجّهه بأنَّه إذا كان العاملان متفاوتين في المعنى لكون أحدهما أشدّ يعاد العامل بعد حرف العطف إشعاراً بالتفاوت، فإنّ إتيان العذاب أشدّ من إتيان الساعة (أي بناء على أنّ المراد بعذاب الله عذاب الآخرة) أو كان العاملان متباعدين، فإن أريد بالساعة القيامة وبعذاب الله المحْقُ والرزايا في الدنيا فيعقبه بعد مهلة تامَّة.
وإن أريد بالساعة المدّة فالمحق الدنيوي كثير، منه متقدّم ومنه متأخِّر إلى الموت، فالتقدّم ظاهر اه. وفي توجيهه نظر إذ لا يشهد له الاستعمال.
وإضافة العذاب إلى اسم الجلالة لتهويله لصدوره من أقدر القادرين. والمراد عذاب يحصل في الدنيا يضرعون إلى الله لرفعه عنهم بدليل قوله {أغير الله تدعون}، فإنّ الدعاء لا يكون بطلب رفع عذاب الجزاء. وهذا تهديد وإنذار.
والساعة: علَم بالغلبة على ساعة انقراض الدنيا، أي إن أدركتْكم الساعة.
وتقديم {أغير الله} على عامله وهو {تدعون} لتكون الجملة المستفهم عنها جملة قصر، أي أتعرضون عن دعاء الله فتدعون غيره دونه كما هو دأبكم الآن، فالقصر لحكاية حالهم لا لقصد الردّ على الغير. وقد دلّ الكلام على التعجّب، أي تستمرّون على هذه الحال. والكلام زيادة في الإنذار.
وجملة {إن كنتم صادقين} مستأنفة، وجوابها محذوف دلّ عليه قوله: {أرأيتكم} الذي هو بمعنى التقرير. فتقدير الجواب: إن كنتم صادقين فأنتم مقرّون بأنَّكم لا تدعون غير الله. ذَكّرهم في هذه الآية وألجأهم إلى النظر ليعلموا أنّه إذا أراد الله عذابهم لا تستطيع آلهتهم دفعه عنهم، فهم إن توخّوا الصدق في الخبر عن هذا المستقبل أعادوا التأمّل فلا يسعهم إلاّ الاعتراف بأنّ الله إذا شاء شيئاً لا يدفعه غيرُه إلاّ بمشيئته، لأنّهم يعترفون بأنّ الأصنام إنَّما تقرّبهم إلى الله زلفى، فإذا صدقوا وقالوا: أندعوا الله، فقد قامت الحجّة عليهم من الآن لأنّ من لا يغني في بعض الشدائد لا ينبغي الاعتماد عليه في بعض آخر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وكلمة أرأيت في القرآن والاستعمال العربي تستعمل للتنبيه والتحريض على الرؤية والنظر فهو استفهام للتنبيه، مؤداه أرأيت كذا فإن لم تكن رأيته فانظره، فهو تنبيه وحث على الإمعان فيه والتأمل، وقوله تعالى: (أرأيتكم) فيه جمع بين خطابين أحدهما مفرد، وظاهره أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو التاء، وهو فاعل الرؤية أو على حد قول النحويين التاء فاعل، والثاني خطابهم بالكاف والظاهر الذي يبدو بادي الرأي أن الخطاب لهم بالقصد؛ ولذلك جاء بعده (إن أتاكم عذاب) وكان خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لتنبيهه صلى الله عليه وسلم وإجابتهم، ويكون المؤدى بيان ضعفهم أمام الحوادث والمسلمات، وصغارهم واستغاثتهم بالله وحده، وأنهم لا يدعون سواه، وتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك.