لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس ، وكان معروفا بذلك مقصودا ، ذكر تعالى نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما اللّه فتنة لداود ، وموعظة لخلل ارتكبه ، فتاب اللّه عليه ، وغفر له ، وقيض له هذه القضية ، فقال لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ } فإنه نبأ عجيب { إِذْ تَسَوَّرُوا } على داود { الْمِحْرَابَ } أي : محل عبادته من غير إذن ولا استئذان ، ولم يدخلوا عليه مع باب .
ثم ساق - سبحانه - ما يشهد لعبده داود بذلك فقال : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } . : والاستفهام للتعجيب والتشويق لما يقال بعده ، لكونه أمرا غريبا تتطلع إلى معرفته النفس .
والنبأ : الخبر الذى له أهمية فى النفوس . .
والخصم : أى المتخاصمين أو الخصماء . وهو فى الأصل مصدر خصمه أى : غلبه فى المخاصمة والمجادلة والمنازعة ، ولكونه فى الأصل صح إطلاقه على المفرد والمثنى والجمع ، والمذكر والمؤنث . . قالوا : وهو مأخوذ من تعلق كل واحد من المتنازعين بخُصُم الآخر .
والظروف فى قوله : { إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } متعلق بمحذوف . والنسور : اعتلاء السور ، والصعود فوقه ، إذ صيغة التفعل تفيد العلو والتصعد . كما يقال تسنم فلان الجمل ، إذ علا فوق سنامه .
والمحراب : المكان الذى كان يجلس فيه داود - عليه السلام - للتعبد وذكر الله - تعالى - .
والمعنى : وهل وصل إلى علمك - أيها الرسول الكريم - ذلك النبأ العجيب ، ألا وهو نبأ أولئك الخصوم ، الذين تسلقوا على داود غرفته ، وقت أن كان جالسا فيها لعبادة ربه ، دون إذن منه ، ودون علم منه بقدومهم . .
إن كان هذا النبأ العجيب لم يصل إلى علمك ، فها نحن نقصه عليك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَاُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوّرُواْ الْمِحْرَابَ } :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وهل أتاك يا محمد نبأ الخصم وقيل : إنه عُني بالخصم في هذا الموضع ملكان ، وخرج في لفظ الواحد ، لأنه مصدر مثل الزور والسفر ، لا يثنى ولا يجمع ومنه قول لبيد :
وَخَصْمٍ يَعُدّونَ الذّحُولَ كأنّهُمْ *** قُرُومٌ غَيَارَى كلّ أزْهَرَ مُصْعَب
وقوله : ( إذْ تَسَوّرُوا المِحْرَابَ ) : يقول : دخلوا عليه من غير باب المحراب والمحراب مقدّم كل مجلس وبيت وأشرفه .
{ وهل أتاك نبأ الخصم } : استفهام معناه التعجيب والتشويق إلى استماعه والخصم في الأصل مصدر ولذلك أطلق على الجمع . { إذا تسوروا المحراب } : إذ تصعدوا سور الغرفة ، تفعل من السور كتسنم من السنام ، وإذ متعلق بمحذوف أي نبأ تحاكم الخصم { إذ تسوروا } أو بالنبأ على أن المراد به الواقع في عهد داود عليه الصلاة والسلام ، وأن إسناد أتى إليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم لما فيه من معنى الفعل لا بأتى لأن إتيانه الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن حينئذ
جملة { وهل أتاكَ نَبأ الخصم } إلى آخرها معطوفة على جملة { إنَّا سخرنا الجبال معه } [ ص : 18 ] . والإِنشاء هنا في معنى الخبر ، فإن هذه الجملة قصت شأناً من شأن داود مَع ربه تعالى فهي نظير ما قبلها .
والاستفهام مستعمل في التعجيب أو في البحث على العلم فإن كانت القصة معلومة للنبيء صلى الله عليه وسلم كان الاستفهام مستعملاً في التعجيب وإن كان هذا أول عهده بعلمها كان الاستفهام للحث مثل { هل أتاكَ حديثُ الغاشِيَةِ } [ الغاشية : 1 ] . والخطاب يجوز أن يكون لكل سامع والوجهان الأولان قائمان . والنبأ : الخبر .
والتعريف في { الخَصْمِ } للعهد الذهني ، أي عهد فرد غير معيّن من جنسه أي نبأ خصم معيّن هذا خبره ، وهذا مثل التعريف في : ادخل السوق . والخصام والاختصام : المجادلة والتداعي ، وتقدم في قوله : { هذان خصمان } في سورة [ الحج : 19 ] .
و { الخصم } : اسم يطلق على الواحد وأكثر ، وأريد به هنا خصمان لقوله بعده { خَصْمَانِ } . وتسميتهما بالخصم مجاز بعلاقة الصورة وهي من علاقة المشابهة في الذات لا في صفة من صفات الذات ، وعادة علماء البيان أن يمثلوها بقول القائل إذَا رأى صورة أسد : هذا أَسد .
وضمير الجمع مراد به المثنى ، والمعنى : إذ تسورا المحراب ، والعرب يعدلون عن صيغة التثنية إلى صيغة الجمع إذا كانت هناك قرينة لأن في صيغة التثنية ثقلاً لنْدرة استعمالها ، قال تعالى : { فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] أي قلباكما .
و { إذْ تَسَوَّرُوا } إذا جعلت { إذ } ظرفاً للزمن الماضي فهو متعلق بمحذوف دل عليه { الخَصم } ، والتقدير : تحاكم الخصم حين تَسوروا المحراب لداود .
ولا يستقيم تعلقه بفعل { أتاكَ } ولا ب { نَبَأ } لأن النبأ الموقت بزمننِ تسوّر الخصم محراب داود لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم .
ولك أن تجعل { إذ } اسماً للزمن الماضي مجرداً عن الظرفية وتجعله بدل اشتمال من { الخصم } لما في قوله تعالى : { واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها } [ مريم : 16 ] ، فالخصم مشتمل على زمن تسورهم المحراب ، وخروج { إذ } عن الظرفية لا يختص بوقوعها مفعولاً به بل المراد أنه يتصرف فيكون ظرفاً وغير ظرف .
والتسور : تفعل مشتق من السور ، وهو الجدار المحيط بمكان أو بلدٍ يقال : تَسوّر ، إذا اعتلى على السور ، ونظيره قولهم : تسنم جملَهُ ، إذا علا سَنامه ، وتَذَرأه إذا علا ذروته ، وقريب منه في الاشتقاق قولهم : صَاهى ، إذا ركب صهوة فرسه .
والمعنى : أن بيت عبادة داود عليه السلام كان محوطاً بسُور لئلا يدخله أحد إلا بإذن من حارس السور .
و { المحراب } : البيت المتّخذ للعبادة ، وتقدم عند قوله تعالى : { يعملون له ما يشاء من محاريب } في سورة [ سبأ : 13 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.