بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{۞وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ} (21)

ثم قال عز وجل : { وَهَلْ أَتَاكَ نبأ الخصم } يعني : خبر الخصم . ويقال : خبر الخصوم أي : وهل أتاك يا محمد ، ما أتاك ، حين أتاك ، ويقال : وقد أتاك { إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } والتسور أن يصعد في مكان مرتفع ، وإنما سمي المحراب سوراً ، لارتفاعه من الأرض . ويقال { تَسَوَّرُواْ } يعني : دخلوا عليه من فوق الجدار . وقال الحسن البصري : وذلك أن داود عليه السلام جزأ الدهر أربعة أيام . فيوماً لنسائه ، ويوماً لقضائه ، ويوماً يخلو فيه لعبادة ربه ، ويوماً لبني إسرائيل ليسألونه فقال يوماً لبني إسرائيل : أيكم يستطيع أن يتفرغ لعبادة ربه يوماً لا يصيب الشيطان منه شيئاً ؟ فقالوا : يا نبي الله ، والله لا نستطيع . فحدث داود نفسه أنه يستطيع ذلك . فدخل محرابه ، وأغلق بابه ، فقام يصلي في المحراب ، فجاء طائر في أحسن صورة مزين كأحسن ما يكون ، فوقع قريباً منه ، فنظر إليه ، فأعجبه ، فوقع في نفسه منه ، فدنا منه ليأخذه ، فوقع قريباً منه وأطمعه ، أن سيأخذه ، ففعل ذلك ثلاث مرات ، حتى إذا كان في الرابعة ، ضرب يده عليه فأخطأه ، ووقع على سور المحراب . قال : وخلف المحراب حوض تغتسل فيه النساء ، فضرب يده عليه ، وهو على سور المحراب ، فأخطأه وهرب الطائر ، فأشرف داود ، فإذا بامرأة تغتسل ، فلما رأته نقضت شعرها ، فغطى جسدها ، فوقع في نفسه منها ما يشغله عن صلاته ، فنزل من محرابه ، ولبست المرأة ثيابها ، وخرجت إلى بيتها ، فخرج حتى عرف بيتها ، وسألها من أنت ؟ فأخبرته : فقال : هل لك زوج ؟ قالت : نعم . قال أين هو ؟ فقالت : في بعث كذا وكذا ، وجند كذا وكذا . فرجع ، وكتب إلى عامله إذا جاءك كتابي هذا ، فاجعل فلاناً في أول الخيل . فقدم في فوارس ، فقاتل ، فقتل . ثم انتظر حتى انقضت عدتها ، فخطبها ، وتزوجها . فبينما هو في المحراب ، إذ تسور عليه ملكان ، وكان الباب مغلقاً ، ففزع منهما ، فقالا : لا تخف { خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق } يعني : اقض بيننا بالعدل . ثم خاصم أحدهما الآخر ، فقال : { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } إلى آخره . فعلم داود عليه السلام أنه مراد بذلك ، فخرّ راكعاً وأناب . قال الحسن : سجد أربعين ليلة ، لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة . قال : ولم يذق طعاماً ، ولا شراباً ، حتى أوحى الله عز وجل إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك . وهكذا ذكر في رواية الكلبي عن ابن عباس ، أنه سجد أربعين يوماً حتى سقط جلد وجهه ، ونبت العشب من دموعه . فقال : يا رب كيف ترحمني وأنا أعلم أنك منتقم مني بخطيئتي ، وذكر أن جبريل عليه السلام قال له : اذهب إلى أوريا فاستحل منه ، فإنك تسمع صوته في يوم كذا ، فأتاه ذات ليلة ، فناداه ، فأجابه ، فاستحل منه ، فقال : أنت في حلّ .

فلما رجع ، قال له جبريل : هل أخبرته بجرمك . قال : لا . قال : فإنك لم تفعل شيئاً . قال : فارجع ، فأخبره بالذي صنعت ، فرجع داود فأخبره بذلك ، فقال : أنا خصمك يوم القيامة ، فرجع مغتماً ، وبكى أربعين يوماً فأتاه جبريل عليه السلام فقال : إن الله تعالى يقول : إني أستوهبك من عبدي فيهبك لي ، وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء ، فسري عنه ذلك ، وكان محزوناً في عمره ، باكياً على خطيئته . وروي في خبر آخر ، أن داود سمع بني إسرائيل كانوا يقولون في دعائهم : يا إله إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، فيستجاب لهم . فقال لهم داود عليه السلام اذكروني فيهم . فقولوا : يا إله إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وداود ، فقالوا : الله أمرك بهذا . قال : لا . فقالوا : لا نزيد فيهم ما لم يأمرك الله تعالى بذلك . فسأل داود ربه أن يجعله فيهم ، فأوحى الله تعالى إليه ، وذكر له ما لقي إبراهيم من الشدائد ، وما لقي إسحاق ويعقوب عليهم السلام فسأل داود ربه أن يبتليه ببلية لكي يبلغ منزلتهم ، فابتلي بذلك حتى بلغ مبلغهم . وقال بعضهم : هذه القصة لا تصح لأنه لا يظن بالنبي مثل داود أنه يفعل مثل ذلك ، ولكن كانت خطيئته أنه لما اختصما إليه ، فقال للمدعي : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، فنسبه إلى الظلم بقول المدعي . فكان ذلك منه زلة ، فاستغفر ربه عن زلته ، فذلك قوله : { إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُدُ } وقال بعضهم : كانوا اثنين . فذكر بلفظ الجماعة فقال : { إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُدُ } وقال بعضهم : كانوا جماعة ، ولكنهم كانوا فريقين فقال : { إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُدُ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ } يعني : استطال ، وظلم بعضنا على بعض { فاحكم بَيْنَنَا بالحق } يعني : اقض بيننا بالعدل { وَلاَ تُشْطِطْ } أي ولا تجر في الحكم ، والقضاء . ويقال : أشططت إذا جرت { واهدنا إلى سَوَاء الصراط } يعني : أرشدنا إلى أعدل الطريق .