الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ} (21)

{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ } الآية . اختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب امتحان الله سبحانه نبيّه داود بما امتحنه به من الخطيئة .

فقال قوم : كان سبب ذلك أنه تمنى يوماً من الأيام على ربّه عزّ وجلّ منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ( عليهم السلام ) وسأله أن يمتحنه نحو الذي كان امتحنهم ، ويعطيه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم .

وروى السدي والكلبي ومقاتل : عن أشياخهم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا : كان داود قد قسّم الدهر ثلاثة أيام : يوماً يقضي فيه بين الناس ، ويوماً يخلوا فيه لعبادة ربّه ، ويوماً يخلوا فيه لنسائه وأشغاله . وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال : يارب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي . فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : أنهم إبتلوا ببلاء مالم تبتلِ بشيء من ذلك فصبروا عليها . إبتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه ، وإبتلى إسحاق بالذبح وبذهاب بصره ، وإبتلى يعقوب بالحزن على يوسف . وأنك لم تبتلِ بشيء من ذلك . فقال داود : ربِّ فإبتلني بمثل ما إبتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم . فأوحى الله سبحانه إليه : أنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا واحترس . فلمّا كان ذلك اليوم الذي وعده الله تعالى ، دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور ، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن ، فوقعت بين رجليه ، فمدَّ يده ليأخذها ويدفعها إلى ابن صغير له ، فلما أهوى إليها طارت غير بعيد ، من غير أن توئيسه من نفسها فامتد اليها ليأخذها فتنحت ، فتبعها فطارت حتّى وقعت في كوة ، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة ، فنظر داود أين تقع ، فبعث إليها من يصيدها ، فأبصر امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل ، هذا قول الكلبي .

وقال السدي : رآها تغتسل على سطح لها ، فراى امرأة من أجمل النساء خلقاً ، فتعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة وأبصرت ظله ، فنفضت شعرها فغطى بدنها ، فزاده ذلك إعجاباً بها فسأل عنها . فقيل : هي تشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا ، وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود .

فكتب داود إلى ابن أخته أيوب صاحب بعث البلقاء : أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وقدّمه قبل التابوت وكان من قدّم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتّى يفتح الله سبحانه على يديه أو يستشهد ، فبعثه وقدّمه فَفُتح له ، فكتب إلى داود بذلك ، فكتب إليه أيضاً : أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا . فبعثه فَفُتح له ، فكتب إلى داود بذلك ، فكتب إليه أيضاً : أن ابعثه إلى عدو كذا أشدّ منه بأساً . فبعثه فقتل في المرة الثالثة ، فلمّا انقضت عدّة المرأة تزوجّها داود فهي أم سليمان .

وقال آخرون : سبب امتحانه أن نفسه حدثته أنّه يطيق قطع يوم بغير مقارفة .

وهو ما أخبرنا شعيب بن محمّد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدثنا أحمد بن الأزهر قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا سعيد عن مطر عن الحسن قال : إن داود جزّأ الدهر أربعة أجزاء : يوماً لنسائه ، ويوماً للعبادة ، ويوماً للقضاء بين بني إسرائيل ، ويوماً لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ويبكهم ويبكونه .

قال : فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا : هل يأتي على الإنسان يوم لايصيب فيه ذنباً ؟

فأضمر داود في نفسه أنه سيطبق ذلك ، فلمأا كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر أن لايدخل عليه أحد ، وأكبّ على قراءة التوراة ، فبينما هو يقرأ إذ حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن قد وقعت بين يديه ، فأهوى إليها ليأخذها ، فطارت فوقعت غير بعيد من غير أن توئيسه من نفسها ، فما زال يتبعها حتّى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها ، فلمّا رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها ، فزاده ذلك بها إعجاباً ، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه ، فكتب إليه أن أسر إلى مكان كذا وكذا مكاناً ، إذا سار إليه قُتل ولم يرجع ففعل فأصيب ، فخطبها داود فتزوجها .

وقال بعضهم : في سبب ذلك ما أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد قال : حدثنا مخلد ابن جعفر الباقرجي قال : حدثنا الحسين بن علوية قال : حدثنا إسماعيل قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن قال : قال داود لبني إسرائيل حين ملك : والله لأعدلن بينكم ، فلم يستثن فابتلي به .

وقال أبو بكر محمّد بن عمر الوراق : كان سبب ذلك أن داود ( عليه السلام ) كان كثير العبادة فأعجب بعلمه فقال : هل في الأرض أحد يعمل عملي ؟ فأتاه جبرئيل فقال : ان الله عزّ وجلّ يقول : أعجبت بعبادتك والعُجب يأكل العبادة ، فإن أُعجبت ثانياً وكلتك إلى نفسك . قال : يارب كلني إلى نفسي سنة . قال إنها لكثيرة . قال : فساعة . قال : شأنك بها . فوكل الأحراس ولبس الصوف ودخل المحراب ووضع الزبور بين يديه ، فبينا هو في نسكه وعبادته إذ وقع الطائر بين يديه وكان من أمر المرأة ما كان .

قالوا : فلمّا دخل داود بامرأة أوريا لم تلبث إلاّ يسيراً حتّى بعث الله سبحانه ملكين في صورة أنسيين فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه ، فتسورا المحراب عليه ، فما شعر وهو يصلي إلاّ وهو بهما بين يديه جالسين ، فذلك قوله : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَِ } وإنّما جعلوا جمع الفعل ، لأن الخصم اسم يصلح للواحد والجميع والإثنين والمذكر والمؤنث .

قال لبيد :

وخصم يعدون الدخول كأنهم *** قروم غيارى كل أزهر مصعب

وقال آخر :

وخصم عضاب ينفضون لحاهم *** كنفض البراذين العراب المخاليا

وإنّما جمع وهما إثنان ، لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء فالإثنان فما فوقهما جماعة ، كقوله عزّ وجلّ

{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] .