الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{۞وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ} (21)

وقوله تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ نبأ الخصم } : مخاطبةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ، واسْتُفْتِحَتْ بالاسْتِفْهَام ؛ تَعْجِيباً مِنَ القصَّةِ وتفخيماً لها ، والخصمُ يُوصَفُ بهِ الواحِدُ والاثْنَانِ والجَمْعِ ، و{ تَسَوَّرُواْ } معناه : عَلَوْا سُورَهُ ، وهو جَمْعُ سُورَةٍ وهي القطعةُ من البناء ، وَتَحْتَمِلُ هذه الآيةُ أن يكونَ المُتَسَوِّرُ اثْنَانِ فَقَطْ ، فَعَبَّرَ عَنْهُما بلَفْظِ الجَمْعِ ، ويحتملُ أن يكونَ معَ كلِّ واحدٍ منَ الخَصْمَيْنِ جَمَاعَةٌ ، و{ المحراب } المَوْضِعُ الأرْفَعُ مِنَ القَصْرِ أو المَسْجِدِ ، وهو موضع التعبُّد ، وإنما فَزِعَ منهم مِنْ حَيْثُ دَخَلُوا من غير الباب ، ودون استئذان ، ولا خلافَ بَيْن أهلِ التأويلِ أنَّ هذا الخَصْمَ إنما كانوا ملائكةً بَعَثَهُمْ اللَّهُ ضَرْبَ مَثَلٍ لداودَ ، فاختصموا إليه في نازلةٍ قَدْ وَقَعَ هُو في نَحْوِهَا ، فأَفْتَاهُمْ بِفُتْيَا هِي وَاقِعَةٌ عليه في نازلته ، ولَمَّا شَعَرَ وَفَهِمَ المُرَادَ ، خَرَّ رَاكِعاً وأَنَابَ ، واسْتَغْفَرَ ، وأمَّا نَازِلَتُهُ الَّتي وَقَع فِيها ، ففيها للقُصَّاصِ تَطْوِيلٌ ، فَلَمْ نَرَ سَوْقَ جَمِيعِ ذلكَ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ .

رُوِيَ فِي ذلكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ما معناه ؛ أن دَاوُدَ كَانَ في مِحْرَابِهِ يَتَعَبَّدُ ؛ إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ طَائِرٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ ، فَمَدَّ يَدَهُ إليْه ؛ ليأخُذَهُ ، فَزَالَ مُطْعِماً لَه مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ ، حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى امْرَأَةٍ لَهَا مَنْظَرٌ وَجَمَالٌ ، فَخَطَرَ فِي نَفْسِهِ أنْ لَوْ كَانَتْ مِنْ نِسَائِهِ ، وَسَأَلَ عَنْهَا ، فَأُخْبِرَ أَنَّهَا امْرَأَةُ أُورِيَّا ، وَكَانَ في الجِهَادِ فَبَلَغَهُ أنَّه اسْتُشْهِدَ فَخَطَبَ المَرْأَةَ ، وَتَزَوَّجَهَا ، فَكَانَتْ أُمَّ سُلَيْمَانَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ ، فَبَعَثَ اللَّهُ الخَصْمَ لِيُفْتِيَ ، قَالَتْ فرقةٌ من العلماء : وإنما وَقَعَتْ المعَاتَبَةُ على هَمِّهِ ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْه شَيْءٌ سِوَى الهَمِّ ، وكانَ لِدَاوُدَ فِيما رُوِيَ تِسْعٌ وتِسْعُونَ امْرَأَةً ، وَفي كُتُبِ بَنِي إسرائيل في هذه القصة صُوَرٌ لاَ تَلِيقُ .

وقد قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : مَنْ حَدَّثَ بِما قَالَ هؤلاءِ القُصَّاصُ في أَمْرِ دَاوُدَ ، جَلَدْتُهُ حَدَّيْنِ لما ارتكب مِنْ حُرْمَةِ مَنْ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ .

وقوله : { خَصْمَانِ } تقديرُه : نَحْنُ خصمانِ ، و{ بغى } معناه : اعتدى واسْتَطَالَ ، { وَلاَ تُشْطِطْ } معناه : وَلاَ تَتَعَدَّ في حُكْمِكَ ، و{ سَوَاءِ الصراط } معناه : وَسَطُهُ .