الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{۞وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ} (21)

أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما ؛ أن داود عليه السلام حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم ، فقيل له إنك ستبتلى وستعلم اليوم الذي تبتلى فيه ، فخذ حذرك فقيل له : هذا اليوم الذي تبتلى فيه ، فأخذ الزبور ، ودخل المحراب ، وأغلق باب المحراب ، وأدخل الزبور في حجره ، وأقعد منصفاً على الباب ، وقال لا تأذن لأحد عليّ اليوم .

فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون للطير ، فيه من كل لون ، فجعل يدرج بين يديه ، فدنا منه ، فأمكن أن يأخذه ، فتناوله بيده ليأخذه ، فطار فوقه على كوّة المحراب ، فدنا منه ليأخذه ، فطار فأشرف عليه لينظر أين وقع ، فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض ، فلما رأت ظله حركت رأسها ، فغطت جسدها أجمع بشعرها ، وكان زوجها غازياً في سبيل الله ، فكتب داود عليه السلام إلى رأس الغزاة . انظر فاجعله في حملة التابوت ، أما أن يفتح عليهم ، وإما أن يقتلوا . فقدمه في حملة التابوت فقتل .

فلما انقضت عدتها خطبها داود عليه السلام ، فاشترطت عليه أن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة من بعده ، وأشهدت عليه خمساً من بني إسرائيل ، وكتبت عليه بذلك كتاباً ، فأشعر بنفسه أنه كتب حتى ولدت سليمان عليه الصلاة والسلام وشب ، فتسوّر عليه الملكان المحراب ، فكان شأنهما ما قص الله تعالى في كتابه ، وخر داود عليه السلام ساجداً ، فغفر الله له ، وتاب عليه .

وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإِيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما أصابه القدر إلا من عجب عجب بنفسه . وذلك أنه قال يا رب ما من ساعة من ليل ونهار إلا وعابد من بني إسرائيل يعبدك ، يصلي لك ، أو يسبح ، أو يكبر ، وذكر أشياء ، فكره الله ذلك فقال « يا داود إن ذلك لم يكن إلا بي ، فلولا عوني ما قويت عليه ؛ وجلالي لآكِلُكَ إلى نفسك يوماً . قال : يا رب فاخبرني به ، فأصابته الفتنة ذلك اليوم .

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن داود عليه السلام حين نظر إلى المرأة قطع على بني إسرائيل ، وأوصى صاحب الجيش فقال : إذا حضر العدو تضرب فلاناً بين يدي التابوت ، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به ، من قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل ، أو ينهزم منه الجيش . فقتل وتزوّج المرأة ، ونزل الملكان على داود عليه السلام ، فسجد فمكث أربعين ليلة ساجداً حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه ، فأكلت الأرض جبينه وهو يقول في سجوده : رب زل داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب . رب إن لم ترحم ضعف داود ، وتغفر ذنوبه جعلت ذنبه حديثاً في المخلوق من بعده .

فجاء جبريل عليه السلام من بعد أربعين ليلة فقال : يا داود إن الله قد غفر لك ، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل ، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال : يا رب دمي الذي عند داود ؟ قال جبريل : ما سألت ربك عن ذلك ، فإن شئت لأفعلن فقال : نعم . ففرح جبريل ، وسجد داود عليه السلام ، فمكث ما شاء الله ، ثم نزل فقال : قد سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه . فقال : قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول « هب لي دمك الذي عند داود فيقول : هو لك يا رب فيقول : فإن لك في الجنة ما شئت ، وما اشتهيت عوضاً » .