لما بيَّن شهادته وشهادة رسوله على التوحيد ، وشهادةَ المشركين الذين لا علم لديهم على ضده ، ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى . { يَعْرِفُونَهُ } أي : يعرفون صحة التوحيد { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } أي : لا شك عندهم فيه بوجه ، كما أنهم لا يشتبهون بأولادهم ، خصوصا البنين الملازمين في الغالب لآبائهم .
ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن أهل الكتاب لا يشتبهون بصحة رسالته ولا يمترون بها ، لما عندهم من البشارات به ، ونعوته التي تنطبق عليه ولا تصلح لغيره ، والمعنيان متلازمان .
قوله { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : فوتوها ما خلقت له ، من الإيمان والتوحيد ، وحرموها الفضل من الملك المجيد { فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } فإذا لم يوجد الإيمان منهم ، فلا تسأل عن الخسار والشر ، الذي يحصل لهم .
ثم ساق القرآن شهادة ثالثة بصدق النبى صلى الله عليه وسلم وهى شهادة أهل الكتاب فقال { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } :
قال الجمل فى حاشيته على الجلالين : " روى أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر : إن الله أنزل على نبيه بمكة : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } فكيف هذه المعرفة ؟ فقال عبد الله بن سلام : يا عمر ، لقد عرفته حين كما أعرف ابنى ، ولأنا أشد معرفة بمحمد منى بابنى ! ! فقال عمر : كيف ذلك ؟ فقال : أشهد انه رسول الله حقاً ولا أدرى ما تصنع النساء " .
والمعنى : إن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، يعرفون صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معرفة تماثل معرفتهم لأبنائهم الذين هم من أصلابهم ، فهى معرفة بلغت حد اليقين وذلك بسبب ما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين ، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته .
والضمير فى { يَعْرِفُونَهُ } يرى أكثر المفسرين أنه يعود على النبى صلى الله عليه وسلم ويؤيد ذلك سبب نزول الآية ، ويرى بعضهم أنه يعود على القرآن لتقدمه فى قوله { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن } أو على التوحيد لدلالة قوله { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } .
والأولى عودة الضمير على جميع ما ذكر ، لأن معرفتهم بما فى كتابهم يتناول كل ذلك .
ثم بين - سبحانه - علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم فقال : { الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ } من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } به جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا : { لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } وقالوا { والله أَمَرَنَا بِهَا } وقالوا : " الملائكة بنات الله " ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحراً ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم .
وهذه الآية الكريمة من الآيات التى قيل أنها مدنية ، والصحيح أنها مكية ، ويشهد لذلك سبب النزول الذى سقناه عن عمر - رضى الله عنه - فقد قال لعبد الله بن سلام : " إن الله أنزل على نبيه بمكة " إلخ .
ويؤكد كونها مكية - أيضا - سياق الآيات قبلها ، فالآية التى قبلها وهى قوله - تعالى - : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } . إلخ . فيها شهادة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، والآية التى معنا فيها شهادة من أهل الكتاب بأنهم يعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، ومن المعروف أن أهل مكة كانوا يسألون أهل الكتاب عن النبى صلى الله عليه وسلم وفضلا عن ذلك لم يرد نص صحيح يثبت أن هذه الآية الكريمة قد نزلت بالمدينة .
قال بعض العلماء : ويظهر أنهم - أى القائلون بأن الآية مدنية - لما وجدوا الحديث فى هذه الآية عن أهل الكتاب ، ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به ، وهى قوله - تعالى - : فى سورة البقرة
{ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } الاية 146 ، ومن المعروف أن صلة الإسلام بأهل الكتاب إنما كانت بعد الهجرة وفى المدينة دون مكة ، لما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية ، فالمسألة ليست إلا اجتهاداً حسب رواية مسندة ، وهو اجتهاد غير صحيح .
ولما كان هذا الخسران أكبر ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم فقد قال - تعالى - فى شأنهم : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : الذين آتيناهم الكتاب التوراة والإنجيل ، يعرفون أنما هو إله واحد لا جماعة الاَلهة ، وأن محمدا نبيّ مبعوث ، كما يعرفون أبناءهم . وقوله : الّذِينَ خَسِروا أنْفُسَهُمْ من نعت «الذين » الأولى ، ويعني بقوله : خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ أهلكوها وألقوها في نار جهنم بإنكارهم محمدا أنه لله رسول مرسل ، وهم بحقيقة ذلك عارفون فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يقول : فهم بخسارتهم بذلك أنفسهم لا يؤمنون . وقد قيل : إن معنى خسارتهم أنفسهم : أن كل عبد له منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله لأهل الجنة منازل أهل النار في الجنة ، وجعل لأهل النار منازل أهل الجنة في النار ، فذلك خسران الخاسرين منهم لبيعهم منازلهم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار ، بما فرط منهم في الدنيا من معصيتهم الله وظلمهم أنفسهم ، وذلك معنى قول الله تعالى : الّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
وبنحو ما قلنا في معنى قوله : الّذِينَ آتيْناهُمُ الكِتابِ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهم قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابٍ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ يعرفون أنّ الإسلام دين الله ، وأن محمدا رسول الله ، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ النصارى واليهود ، يعرفون رسول الله في كتابهم ، كما يعرفون أبناءهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ : يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : زعم أهل المدينة عن أهل الكتاب ممن أسلم ، أنهم قالوا : والله لنحن أعرف به من أبنائنا من أجل الصفة والنعت الذي نجده في الكتاب وأما أبناؤنا فلا ندري ما أحدث النساء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.