المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ} (65)

65- يأيها النبي حث المؤمنين على القتال لإعلاء كلمة اللَّه ورغبهم فيما وراءه من خير الدنيا والآخرة ، لتقوى بذلك نفوسهم ، وإنه إن يوجد منكم عشرون معتصمون بالإيمان والصبر والطاعة ، يغلبوا مائتين من الذين كفروا ، ذلك بأنهم قوم لا يدركون حقائق الأمور ، فليس لهم إيمان ولا صبر ولا مطمع في ثواب .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ} (65)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّئَةٌ يَغْلِبُوَاْ أَلْفاً مّنَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَفْقَهُونَ * الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوَاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّبِيّ حَرّضِ المُؤْمِنِينَ على القِتالِ حُثّ متبعيك ومصدقيك على ما جئتهم به من الحق على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين . إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عشْرُونَ رجلاً صَابِرُونَ عند لقاء العدوّ ، يحتسبون أنفسهم ويثبتون لعدوّهم يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ من عدوّهم ويقهروهم . وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ عند ذلك يَغْلِبُوا منهم ألفا . بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ يقول : من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب ولا لطلب أجر ولا احتساب لأنهم لم يفقهوا أن الله موجب لمن قاتل احتسابا وطلب موعودا لله في المعاد ما وعد المجاهدين في سبيله ، فهم لا يثبتون إذا صدقوا في اللقاء خشية أن يقتلوا فتذهب دنياهم . ثم خفف تعالى ذكره عن المؤمنين إذ علم ضعفهم فقال لهم : الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا يعني أن في الواحد منهم عن لقاء العشرة من عدوّهم ضعفا ، فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابرَةٌ عند لقائهم للثبات لهم ، يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ منهم ، إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ منهم بإذْنِ اللّهِ يعني بتخلية الله إياهم لغلبتهم ومعونته إياهم . وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ لعدوّهم وعدوّ الله ، احتسابا في صبره وطلبا لجزيل الثواب من ربه ، بالعون منه له والنصر عليه .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن محبب ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن عطاء في قوله : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ قال : كان الواحد لعشرة ، ثم جعل الواحد باثنين لا ينبغي له أن يفرّ منهما .

حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : جعل على المسلمين على الرجل عشرة من الكفار ، فقال : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ فخفف ذلك عنهم ، فجعل على الرجل رجلان . قال ابن عباس : فما أحبّ أن يعلم الناس تخفيف ذلك عنهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال محمد بن إسحاق ، ثني عبد الله بن أبي نجيح المكيّ ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عبد الله بن عباس ، قال : لما نزلت هذه الاَية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين ومئة ألفا ، فخفف الله عنهم ، فنسخها بالاَية الأخرى فقال : الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ قال : وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوّهم لم ينبغ لهم أن يفرّوا منهم ، وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم أن يقاتلوا ، وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ قال : كان لكل رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي له أن يفرّ منهم ، فكانوا كذلك حتى أنزل الله : الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفافإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين ، فنسخ الأمر الأوّل . وقال مرّة أخرى في قوله : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار ، فشقّ ذلك على المؤمنين ورحمهم الله ، فقال : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ بإذنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصابِرِينَ فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل رجلين من الكفار .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها النّبِيّ حَرّضِ المُؤْمِنِينَ على القِتالِ . . . إلى قوله : بأنهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ وذلك أنه كان جعل على كل رجل من المسلمين عشرة من العدوّ يؤشّبهم ، يعني يغريهم بذلك ليوطنوا أنفسهم على الغزو ، وإن الله ناصرهم على العدوّ ، ولم يكن أمرا عزمه الله عليهم ولا أوجبه ، ولكن كان تحريضا ووصية أمر الله بها نبيه . ثم خفف عنهم فقال : الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا فجعل على كل رجل رجلين بعد ذلك تخفيفا ، ليعلم المؤمنون أن الله بهم رحيم ، فتوكلوا على الله وصبروا وصدقوا ، ولو كان عليهم واجبا الغزو إذن بعد كل رجل من المسلمين عمن لقي من الكفار إذا كانوا أكثر منهم فلم يقاتلوهم . فلا يغرنك قول رجال ، فإني قد سمعت رجالاً يقولون : إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى يكون على كل رجل رجلان ، وحتى يكون على كل رجلين أربعة ، ثم بحساب ذلك ، وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة ذلك ، وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدة أن يكون على كل رجل رجلان ، وعلى كل رجلين أربعة ، وقد قال الله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهِ رَءُوفٌ بالعِبادِ وقال الله : فقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ وَحَرّضِ المُؤْمِنِينَ فهو التحريض الذي أنزل الله عليهم في الأنفال ، فلا يعجزك قائل : قد سقطت بين ظهري أناس كما شاء الله أن يكونوا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحصين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن قالا : قال في سورة الأنفال : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا ألْفا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ثم نسخ فقال : الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا . . . إلى قوله : وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عكرمة ، في قوله : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ قال : واحد من المسلمين وعشرة من المشركين ، ثم خفف عنهم فجعل عليهم أن لا يفرّ رجل من رجلين .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عظن مجاهد ، قوله : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ . . . إلى قوله : وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ قال : هذا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، جعل على الرجل منهم عشرة من الكفار ، فضجّوا من ذلك ، فجعل على الرجل رجلين تخفيفا من الله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار وأبي معبد عن ابن عباس ، قال : إنما أمر الرجل أن يصبر نفسه لعشرة ، والعشرة لمئة إذ المسلمون قليل فلما كثر المسلمون خفف الله عنهم ، فأمر الرجل أن يصبر لرجلين ، والعشرة للعشرين ، والمئة للمئتين .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ قال : كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفرّوا فإنهم إن لم يفرّوا غلبوا ، ثم خفف الله عنهم وقال : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ فيقول : لا ينبغي أن يفرّ ألف من ألفين ، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ جعل الله على كل رجل رجلين بعد ما كان على كل رجل عشرة . وهذا الحديث عن ابن عباس .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن جرير بن حازم ، عن الزبير بن الخريت ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : كان فرض على المؤمنين أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ، قوله : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا ألْفا فشقّ ذلك عليهم ، فأنزل الله التخفيف ، فجعل على الرجل أن يقاتل الرجلين ، قوله : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ فخفف الله عنهم ، ونُقِصوا من الصبر بقدر ذلك .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ يقول : يقاتلوا مئتين ، فكانوا أضعف من ذلك ، فنسخها الله عنهم ، فخفف فقال : فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ فجعل أوّل مرّة الرجلَ لعشرة ، ثم جعل الرجل لاثنين .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ قال : كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفرّوا ، فإنهم إن لم يفرّوا غلبوا ، ثم خفف الله عنهم فقال : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ بإذْنِ اللّهِ فيقول : لا ينبغي أن يفرّ ألف من ألفين ، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : كان هذا واجبا أن لا يفرّ واحد من عشرة .

وبه قال : أخبرنا الثوري ، عن ليث ، عن عطاء ، مثل ذلك .

وأما قوله : بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ فقد بيّنا تأويله .

وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ : أي لا يقاتلون على نية ، ولا حقّ فيه ، ولا معرفة لخير ولا شرّ .

وهذه الاَية ، أعني قوله : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وإن كان مخرجها مخرج الخبر ، فإن معناها الأمر ، يدلّ على ذلك قوله : الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ فلم يكن التخفيف إلا بعد التثقيل ، ولو كان ثبوت العشرة منهم للمئة من عدوّهم كان غير فرض عليهم قبل التخفيف وكان ندبا لم يكن للتخفيف وجه لأن التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من المسلمين الثبوت للعشرة من العدوّ ، وإذا لم يكن التشديد قد كان له متقدما لم يكن للترخيص وجه ، إذ كان المفهوم من الترخيص إنما هو بعد التشديد . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن حكم قوله : الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا ناسخ لحكم قوله : إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا ألْفا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا ، وقد بيّنا في كتابنا «لطيف البيان عن أصول الأحكام » أن كل خبر من الله وعد فيه عباده على عمل ثوابا وجزاءً ، وعلى تركه عقابا وعذابا ، وإن لم يكن خارجا ظاهره مخرج الأمر ، ففي معنى الأمر بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا فقرأه بعض المدنيين وبعض البصريين : «وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا » بضم الضاد في جميع القرآن وتنوين الضعف على المصدر من ضَعُفَ الرجل ضُعْفا . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا بفتح الضاد على المصدر أيضا من ضعف . وقرأه بعض المدنيين : «ضُعَفَاء » على تقدير فعلاء ، جمع ضعيف على ضعفاء كما يجمع الشريك شركاء والرحيم رحماء .

وأولى القراءة في ذلك بالصواب قراءة من قرأه : «وعلم أن فيكم ضَعفا » و«ضُعفا » ، بفتح الضاد أو ضمها ، لأنهما القراءتان المعروفتان ، وهما لغتان مشهورتان في كلام العرب فصيحتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب الصواب . فأما قراءة من قرأ ذلك : «ضُعَفَاء » فإنها عن قراءة القرّاء شاذة ، وإن كان لها في الصحة مخرج ، فلا أحبّ لقارىء القراءة بها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ} (65)

قوله { حرض } معناه حثهم وحضهم ، قال النقاش وقرئت «حرص » بالصاد غير منقوطة والمعنى متقارب والحارض الذي هو القريب من الهلاك لفظة مباينة لهذه ليست منها في شيء{[5465]} ، وقالت فرقة من المفسرين : المعنى حرض على القتال حتى يبين لك فيمن تركه أنه حرض .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول غير ملتئم ولا لازم من اللفظ ، ونحا إليه الزجّاج ، و { القتال } مفترض على المؤمنين بغير هذه الآية ، وإنما تضمنت هذه الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، بتحريضهم على أمر قد وجب عليهم من غير هذا الموضع ، وقوله { إن يكن } إلى آخر الآية في لفظ خبر ضمنه وعد بشرط لأن قوله { إن يكن منكم عشرون صابرون } بمنزلة أن يقال إن يصبر منكم عشرون يغلبوا ، وفي ضمنه الأمر بالصبر وكسرت العين من «عِشرون » لأن نسبة عشرين من عشرة نسبة اثنين من واحد فكما جاء أول اثنين مكسوراً كسرت العين من عِشرين ثم اطرد في جموع أجزاء العشرة ، فالمفتوح كأربعة وخمسة وسبعة فتح أول جمعه ، والمكسور كستة وتسعة كسر أول جمعه ، هذا قول سيبويه ، وذهب غيره إلى أن عشرين جمع عشر الإبل وهو وردها للتسع{[5466]} ، فلما كان في عشرة وعشرة ِعشر وِعشر ، ويومان من الثالث جمع ذلك على عشرين ، كما قال امرؤ القيس :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ثلاثون شهراً في ثلاثة أحوال{[5467]}

لما كان في الثلاثين حول وحول وبعض الثالث ، وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة بأن ثبوت الواحد للعشرة كان فرضاً من الله عز وجل على المؤمنين ثم لما شق ذلك عليهم حط الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين .

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو النسخ لأنه رفع حكم مستقر بحكم آخر شرعي ، وفي ضمنه التخفيف ، إذ هذا من نسخ الأثقل بالأخف ، وذهب بعض الناس إلى أن ثبوت الواحد للعشرة إنما كان على جهة ندب المؤمنين إليه ، ثم حط ذلك حين ثقل عليهم إلى ثبوت الواحد للاثنين ، وروي أيضاً هذا عن ابن عباس ، قال كثير من المفسرين : وهذا تخفيف لا نسخ إذ لم يستقر لفرض العشرة حكم شرعي ، قال مكي : وإنما هو كتخفيف الفطر في السفر وهو لو صام لم يأثم وأجزأه .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، ولا يمتنع كون المنسوخ مباحاً من أن يقال نسخ ، واعتبر ذلك في صدقة النجوى ، وهذه الآية التخفيف فيها نسخ للثبوت للعشرة ، وسواء كان الثبوت للعشرة فرضاً أو ندباً هو حكم شرعي على كل حال ، وقد ذكر القاضي ابن الطيب أن الحكم إذا نسخ بعضه أو بعض أوصافه أو غير عدده فجائز أن يقال له نسخ لأنه حينئذ ليس بالأول وهو غيره ، وذكر في ذلك خلافاً .

قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر في ذلك أن النسخ إنما يقال حينئذ على الحكم الأول مقيداً لا بإطلاق واعتبر ذلك في نسخ الصلاة إلى بيت المقدس{[5468]} ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «إن يكن منكم مائة » في الموضعين بياء على تذكير العلامة ، ورواها خارجة عن نافع .

قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب المعنى لأن الكائن في تلك المائة إنما هم رجال فذلك في الحمل على المعنى كقوله تعالى : { من جاء بالحسنة له عشر أمثالها }{[5469]} إذ أمثالها حسنات ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «إن تكن منكم مائة » في الموضعين على تأنيث العلامة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب اللفظ والمقصد كأنه أراد إن تكن عددها مائة وقرأ أبو عمرو بالياء في صدر الآية وبالتاء في آخرها ، ذهب في الأولى إلى مراعاة { يغلبوا } وفي الثانية إلى مراعاة { صابرة } قلا أبو حاتم : وقرأ «إن تكن » بالتاء من فوق منكم «عشرون صابرون » الأعرج وجعلها كلها على «ت » .

قال القاضي أبو محمد : إلا قوله { وإن يكن منكم ألف } فإنه لا خلاف في الياء من تحت ، قوله { لا يفقهون } معناه :لا يفهمون مراشدهم ولا مقصد قتالهم لا يريدون به إلا الغلبة الدنياوية ، فهم يخافون إذا صبر لهم ، ومن يقاتل ليغلب أو يستشهد فيصير إلى الجنة أثبت قدماً لا محالة .


[5465]:- يقال: حرض يحرض ويحرض حرضا وحروضا: هلك، ومنه قوله تعالى: {حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين}، وهذا معنى آخر غير معنى حرّض أي حثّ وحضّ. (اللسان).
[5466]:-إذا مُنعت الإبل من الماء تسعا ثم وردت في العاشر فهو "عشر الإبل".
[5467]:- هذا عجز بيت، والبيت بتمامه: وهل ينعمن من كان أقرب عهده ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال؟ وهو في الديوان، ورواية الأصمعي: يعمن، ورواية الطوسي والسكري وأبي سهل: أقرب عهده، والبيت في "معاني القرآن" لابن النحاس، ورقة 129 وروايته: آخر عهده، وفي الخصائص 2/ 313: أحدث عهده.
[5468]:- من أسرار الفصاحة في التعبير القرآني هنا ما ذكره المفسرون عن التقييد بالصبر، إذ جاء هذا التقييد في أول كل شرط {عشرون صابرون} و{مائة صابرة}، ثم حذف من الشرط الثاني {وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا} {وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين}، وسبب الحذف من الشرط الثاني دلالة الأول عليه، وفي المقابل قيّد الشرط الثاني بقوله: {من الذين كفروا} على حين حذف من الشرط الأول في قوله {يغلبوا مائتين}. فالقيد المذكور في الجملة الأولى يحذف من الثانية، والقيد المذكور في الثانية يحذف من الأولى ليحدث في الآيتين توازن.
[5469]:- من الآية (160) من سورة (الأنعام).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ} (65)

تفسير الشافعي 204 هـ :

عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنْ يَّكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِاْئَتَيْنِ} فكتب عليهم أن لا يفر العشرون من المائتين، فأنزل الله عز وجل: {اَلَـانَ خَفَّفَ اَللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفا فَإِن تَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِاْئَتَيْنِ} فخفف عنهم، وكتب عليهم أن لا يفر المائة من المائتين.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"يا أيّها النّبِيّ حَرّضِ المُؤْمِنِينَ على القِتالِ": حُثّ متبعيك ومصدقيك على ما جئتهم به من الحق على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين؛ "إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عشْرُونَ "رجلاً "صَابِرُونَ "عند لقاء العدوّ، يحتسبون أنفسهم ويثبتون لعدوّهم "يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ" من عدوّهم ويقهروهم، "وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ" عند ذلك "يَغْلِبُوا" منهم ألفا. "بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ" يقول: من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب ولا لطلب أجر ولا احتساب لأنهم لم يفقهوا أن الله موجب لمن قاتل احتسابا وطلب موعودا لله في المعاد ما وعد المجاهدين في سبيله، فهم لا يثبتون إذا صدقوا في اللقاء خشية أن يقتلوا فتذهب دنياهم. ثم خفف تعالى ذكره عن المؤمنين إذ علم ضعفهم فقال لهم: "الآنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا" يعني أن في الواحد منهم عن لقاء العشرة من عدوّهم ضعفا؛ "فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابرَةٌ" عند لقائهم للثبات لهم، "يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ" منهم، "وإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ" منهم "بإذْنِ اللّهِ" يعني بتخلية الله إياهم لغلبتهم ومعونته إياهم. "وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ" لعدوّهم وعدوّ الله، احتسابا في صبره وطلبا لجزيل الثواب من ربه، بالعون منه له والنصر عليه...

عن عطاء... قال: كان الواحد لعشرة، ثم جعل الواحد باثنين لا ينبغي له أن يفرّ منهما...

عن عبد الله بن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين ومئة ألفا، فخفف الله عنهم، فنسخها بالآية الأخرى فقال: "الآنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ" قال: وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوّهم لم ينبغ لهم أن يفرّوا منهم، وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم أن يقاتلوا، وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم...

وأما قوله: "بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ" فقد بيّنا تأويله.

وكان ابن إسحاق يقول...: أي لا يقاتلون على نية، ولا حقّ فيه، ولا معرفة لخير ولا شرّ.

وهذه الآية، أعني قوله: "إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ" وإن كان مخرجها مخرج الخبر، فإن معناها الأمر، يدلّ على ذلك قوله: "الآنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ" فلم يكن التخفيف إلا بعد التثقيل، ولو كان ثبوت العشرة منهم للمئة من عدوّهم كان غير فرض عليهم قبل التخفيف وكان ندبا لم يكن للتخفيف وجه لأن التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من المسلمين الثبوت للعشرة من العدوّ، وإذا لم يكن التشديد قد كان له متقدما لم يكن للترخيص وجه، إذ كان المفهوم من الترخيص إنما هو بعد التشديد. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن حكم قوله: "الآنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا" ناسخ لحكم قوله: "إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا ألْفا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا"...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) التحريض على القتال يكون بوجهين: أحدهما: أن يعد لهم من المنافع في الدنيا، ويطمع لهم ذلك من نحو ما جاء من التنفيل أن من فعل كذا فإنه كذا، أو يعد لهم المنافع في الآخرة كقوله: (إن الله اشترى من المؤمنين) الآية [التوبة: 111] وما ذكر من الثواب في الآخرة بالنفقة لهم في الدنيا والآخرة ووعد النصر لهم. والثاني: يكون التحريض بضرر يلحق أولئك ولكنه لا تصل إليهم كقوله: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) إلى قوله: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) (ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء) [التوبة: 13و14و15]. جمع الله عز وجل في هذه الآية جميع أنواع الخير الذي يكون في القتال مع العدو ومن وعد النصر للمؤمنين عليهم وإدخال السرور في صدورهم ونفي الخوف عنهم وتعذيب أولئك بأيديهم. وفيه إغراء على العدو بقوله: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا) فذلك كله يحرض على القتال، ويرغبهم في الحرب مع العدو، والله أعلم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والتحريض والحث نظائر، وهو: الدعاء الأكيد بتحريك النفس على أمر من الأمور، وضده التفتير. والمعنى: حثهم على القتال. والتحريض: الحث على الشيء الذي يعلم معه أنه حارض إن خالف وتأخر. والحارض هو الذي قارب الهلاك. والتحريض: ترغيب في الفعل بما يبعث على المبادرة إليه مع الصبر عليه. ومعنى "لا يفقهون "هاهنا: أنهم على جهالة، خلاف من يقاتل على بصيرة، وهو يرجو به ثواب الآخرة. وقال قوم: معناه لا يعلمون ما لهم من استحقاق الثواب بالقتال.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

..هذا لهم، فأمَّا النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو بتوحيده كان مُؤمِّلاً بأَنْ يَثْبُتَ لجميع الكفار لكمال قوَّته بالله تعالى، قال عليه السلام:"بِكَ أصول"، وفي تحريضه للمؤمنين على القتال كانت لهم قوة، وبأمر الله كانت لهم قوة؛ فقوة الصحابة كانت بالنبي -عليه الصلاة والسلام، وتحريضه إياهم وقوتهم بذلك كانت بالله وبأمره إياه... وشتَّان ما هما!

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

التحريض: المبالغة في الحث على الأمر من الحرض، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفي على الموت، أو أن تسميه حرضاً: وتقول له: ما أراك إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه، ليهيجه ويحرّك منه. ويقال: حركه وحرضه وحرصه وحرشه وحربه، بمعنى...

...

ثم قال: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أي بسبب أنَّ الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {حَرِّضْ} أَيْ أَكِّدْ الدُّعَاءَ، وَوَاظِبْ عَلَيْهِ...

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقِتَالُ: هُوَ الصَّدُّ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْقَتْلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ...} الآية.

قَالَ قَوْمٌ: كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ نُسِخَ، وَهَذَا خَطَأٌ من قَائِلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَنَيِّفًا، وَالْكُفَّارُ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَنَيِّفًا؛ فَكَانَ لِلْوَاحِدِ ثَلَاثَةٌ. وَأَمَّا هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ، وَهِيَ الْوَاحِدُ بِالْعَشَرَةِ فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ صَافُّوا الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا قَطُّ، وَلَكِنَّ الْبَارِيَ فَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّكُمْ تَفْقَهُونَ مَا تُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ. وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ. ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ هَذَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَإِنْ كَانَتْ إلَى جَنْبِهَا.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

المسألة الأولى: قوله: {إن يكن منكم عشرون صابرون} يدل على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابرا قاهرا على ذلك، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء، منها: أن يكون شديد الأعضاء قويا جلدا، ومنها: أن يكون قوي القلب شجاعا غير جبان، ومنها: أن يكون غير منحرف إلا لقتال أو متحيزا إلى فئة، فإن الله استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدمة فعند حصول هذه الشرائط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة.

واعلم أن هذا التكليف إنما حسن لأنه مسبوق بقوله تعالى: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلا لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه. قوله: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا} حاصله وجوب ثبات الواحد في مقابلة العشرة، فما الفائدة في العدول عن هذه اللفظة الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة؟ وجوابه أن هذا الكلام إنما ورد على وفق الواقعة، وكان رسول الله يبعث السرايا، والغالب أن تلك السرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين وما كانت تزيد على المائة، فلهذا المعنى ذكر الله هذين العددين.

الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :

وقوله: {لاَّ يَفْقَهُونَ} معناه: لا يفهمون مراشِدَهم، ولا مَقْصِدَ قتالهم، لا يريدون به إِلا الغلبةَ الدنيويَّة، فهم يخافُونَ المَوْت؛ إِذا صُبَر لهم، ومَنْ يقاتلْ؛ ليَغْلِبَ، أَو يُسْتشهد، فيصير إِلى الجنة، أثبَتُ قدماً لا محالة،

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ولما ضمن الله تعالى إحسابه لنبيه وللمؤمنين قال: {يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال} قال الراغب: التحريض الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض نحو مرّضته وقذيته أي أزلت عنه المرض والقذى اه. والحرض بالتحريك المشفى أي المشرف على الهلاك. ويطلق على ما لا خير فيه وما لا يعتد به وهو مجاز في الأساس. وقال الزجاج التحريض في اللغة أن يحث الإنسان على شيء حتى يعلم أنه مقارب للهلاك أي إن لم يفعله.

والمعنى يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، ورغبهم فيه. لدفع عدوان الكفار، وإعلاء كلمة الحق والعدل وأهلها، على كلمة الباطل والظلم وأنصارهما، لأنه من ضرورات الاجتماع البشري وسنة التنازع في الحياة والسيادة كما تقدم بيانه في تفسير هذا السياق، ويشير إليه هنا اختيار التحريض على ما هو في معناه العام كالتحضيض والحث كأنه يقول حثهم على ما يقيهم أن يكونوا حرضا أو يكونوا من الهالكين، بعدوان الكافرين عليهم وظلمهم لهم إذا رأوهم ضعفاء مستسلمين.

ثم قال: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا} هذا شرط بمعنى الأمر فهو خبر يراد به الإنشاء بدليل التخفيف في الآية التالية وكون المقام مقام التشريع لا الإخبار، وأما استدلالهم عليه بعدم مطابقة الخبر للواقع ففيه ما سيأتي من مطابقته للواقع عند استكمال شروطه في درجتي العزيمة والرخصة. ومعنى اللفظ الخبري إن يوجد منكم عشرون صابرون يغلبوا بتأثير إيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الذين كفروا المجردين من هذه الصفات الثلاث. وهل هم الذين تقدم وصفهم في الآيتين (55 و56) من هذا السياق على القاعدة في إعادة المعرفة؟ أم يعد هذا سياقا آخر فيعم نصه كل الكفار المتصفين بما بينه من سبب هذا الغلب في منطوق ذلك {بأنهم قوم لا يفقهون} وفي مفهوم وصف المؤمنين بالصابرين؟ وجهان أوجهما الثاني، والمعنى الإنشائي له أنه يجب في حال العزيمة والقوة أن يكون جماعة المؤمنين الصابرين أرجح من الكفار بهذه النسبة العشرية سواء قلوا أو كثروا. بحيث يؤمرون بقتالهم وعدم الفرار منهم إذا بدؤوهم بالقتال، ولذلك ذكر النسبة بين العشرات مع المئات وبين المائة مع الألف وهو نهاية أسماء العدد عند العرب. ونكتة إيراد هذا الحكم بلفظ الخبر الإشارة إلى جعله بشارة بأن المؤمنين الصابرين الفقهاء يكونون كذلك فعلا، وكذلك كانوا كما ترى بيانه في تفسير الآية التالية.

ومعنى هذا التعليل لأن هذه النسبة العشرية بين الصابرين منكم وبينهم بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب، وما يجب أن تكون وسيلة له من المقاصد العالية في الإيجاب والسلب، وما يقصد بها من سعاد الدنيا والآخرة، ومرضاة الله عز وجل في إقامة سننه العادلة، وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والآداب العالية، ومن وجوب مراعاة أحكامه وسننه ووعوده تعالى فيها بإعداد كل ما يستطاع من قوة مادية، ومرابطة دائمة، ومن قوة معنوية كالصبر والثبات، وعدم الفرار من الزحف إلا تحيزا إلى فئة أو تحرفا للقتال، وذكر الله تعالى واستمداد نصره في تلك الحال، ومن كون غاية القتال عند المؤمن إحدى الحسنيين: النصر والغنيمة الدنيوية، أو الشهادة والسعادة الأخروية، وغير ذلك مما مر أكثره في هذا السياق، وهو كاف في تفسير القرآن بالقرآن.

وذلك كله بخلاف حال الكافرين ولا سيما منكري البعث والجزاء كمشركي العرب في ذلك العهد، وكذلك اليهود الذين غلبت عليهم المطامع المادية وحب الشهوات، فأغراض الفريقين من القتال حقيرة خسيسة مؤقتة يصرفهم عن الصبر والثبات فيها اليأس من حصولها، وهم أحرص من المؤمنين على الحياة لعدم إيمان المشركين منهم بسعادة الآخرة ولغرور أهل الكتاب بحصولها لهم بنسبهم وشفاعة أنبيائهم وإن لم يسعوا لها سعيها، كما تقدم في بيان حالهم من سورة البقرة، ومنه قوله تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} [البقرة:96].

وقد حققنا معنى الفقه والفقاهة في مواضع أوسعها بيانا وتفصيلا تفسير قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179] الخ ففيه بيان لما في القرآن من استعمال هذه المادة في المواضع المختلفة ومنها القتال وذكرنا من شواهد هذا النوع هذه الآية التي نزلت في المشركين وقوله تعالى في اليهود الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ونصروا المشركين عليه {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} [الحشر:13] فراجعه يزدك علما بما هنا (وهو في ج 9 تفسير) فالفقه الذي هو العلم بالحقائق المتعلقة بالحرب من مادية وروحية ركن من أركان النجاح، وسبب للنصر جامع لسائر الأسباب.

والآية تدل على أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين و وأفقه بكل علم وفن يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم، وأن حرمان الكفار من هذا العلم هو السبب في كون المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين. وهكذا يكون المسلمون في قرونهم الأولى والوسطى بهداية دينهم على تفاوت علمائهم وحكامهم في ذلك، حتى إذا ما فسدوا بترك هذه الهداية التي سعدوا بها في دنياهم فكانوا أصحاب ملك واسع وسيادة عظيمة، ودانت لهم بها الشعوب الكثيرة زال ذلك المجد والسؤدد، ونزع منهم أكثر ذلك الملك، وما بقي منه فهو على شفا جرف هار، وإنما بقاؤه بما يسمى في عرف علماء العصر بحركة الاستمرار، إذ صاروا أبعد عن العلم والفقه الذي فضلوا به غيرهم من المشركين ومن أهل الكتاب جميعا، ثم انتهى المسخ والخسف بأكثر الذين يتولون أمورهم إلى اعتقاد منافاة تعاليم الإسلام للملك والسيادة والقوة والعلوم والفنون التي هي قوامها، فصاروا يتسللون من الإسلام أفرادا، ثم صرح جماعات من زعمائهم ورؤسائهم بالكفر به والصد عنه جهارا، ولكن بعد أن صار علماؤهم يعادون أكثر تلك العلوم والفنون التي أرشدهم إليها القرآن، وأوجب منها ما يتوقف عليه الجهاد في سبيل الله والعمران.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والفقه فهم الأمور الخفية، والمراد نفي الفقه عنهم من جانب معرفة الله تعالى بقرينة تعليق الحكم بهم بعد إجراء صلة الكفر عليهم. وإنّما جعَل الله الكفر سبباً في انتفاء الفقاهة عنهم: لأنّ الكفر من شأنه إنكار ما ليس بمحسوس فصاحبه ينشأ على إهمال النظر، وعلى تعطيل حركات فكره، فهم لا يؤمنون إلاّ بالأسباب الظاهرية، فيحسبون أنّ كثرتهم توجب لهم النصر على الأقلّين لقولهم: « إنما الغرة للكاثر»، ولأنّهم لا يؤمنون بما بَعد الموت من نعيم وعذاب، فهم يخشون الموت فإذا قاتلوا ما يقاتلون إلاّ في الحالة التي يكون نصرهم فيها أرجح، والمؤمنون يعوّلون على نصر الله، ويثبتون للعدوّ رجاء إعلاء كلمة الله، ولا يهابون الموت في سبيل الله، لأنّهم موقنون بالحياة الأبدية المسِرّة بعد الموت...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

هذا بيان تحذير الله تعالى لنبيه إذ جنحوا للسلم، فلا تغمد السيوف في أجفانها، ولا يسترخون، ويسكنون فإن المشركين إن جنوا للسلم مدة، وجنح المسلمون استجابة للسلام يكونون على حذر دائم، فعساهم يأخذون المسلمين على غرة فيجب أن يكون المسلمون على استعداد دائم يستجيبون لكل هيعة (1)، ويكونون مستعدين للنفير دائما، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71)} النساء) ولذا أمر الله نبيه بأن يبث فيهم روح القتال دفاعا عن الحق، كما يبث فيهم الإيمان، فإنه لا بد لهم من شوكة...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إنّ الجنود والمقاتلين مهما كانوا عليه من استعداد ينبغي قبل بدء الحرب أن ترفع معنوياتهم وتشحذ هممهم، وهذا الأمر معروف في جميع النظم العسكرية في العالم، إذ يقوم قادة الجيوش وأمراؤهم قبل التحرك نحو سوح القتال أو عند ساحة القتال، فيلقون خطباً تثيرهم وتقوّي من معنوياتهم وتحذرهم من الهزيمة والجبن. وتأثير الإِيمان بالله، والتذكير بمنزلة الشهداء عند ربّهم ومقامهم عنده، وما ينتظرهم من الثواب الجزيل البعيد المدى، وما سينالونه من العزة والفخر عند انتصارهم، فكل ذلك يحرك روح البطولة والثبات في نفوس الجنود، فتلاوة بعض آيات القرآن في الحروب الإِسلاميّة تشحذ الجندي عزماً وقوّة وإقداماً لا حدود له، ويتقد فيه الشوق والعشق للتضحية والفداء. وعلى كل حال، فإنّ الآية توضح أهمية الإِعلام والتبليغ وشحذ همم المقاتلين والجنود ومعنوياتهم باعتبار ذلك تعليماً إسلامياً مهماً.