اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ} (65)

قوله تعالى : { يا أيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال } الآية .

لمَّا بيَّن أنه تعالى كافيه بنصره ، وبالمؤمنين ، بيَّن ههنا أنه ليس من الواجب أن يتكل على ذلك إلا بشرط أن يحرض المؤمنين على القتال ؛ فإنه تعالى كفيل بالكفاية بشرط أن يحصل منهم التعاون على القتال ، والتحريض كالتحضيض والحث .

يقال : حَرَّضَ وَحَرَّشَ وحرَّكَ وحثَّ بمعنىً واحد .

وقال الهرويُّ " يقال : حَارَضَ على الأمر ، وأكَبَّ ، وواكبَ ، وواظبَ ، وواصبَ بمعنىً " .

قيل : وأصله من الحَرَض ، وهو الهلاك ، قال تعالى : { حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } [ يوسف : 85 ] .

إنِّي امْرؤٌ نَابَنِي همٌّ فأحْرَضَنِي *** حتَّى بَليتُ وحتَّى شَفَّنِي سَقَمُ{[17487]}

قال الزجاج{[17488]} : " تأويل التحريض في اللُّغةِ أن يُحَثَّ الإنسان على شيءٍ حتى يُعلمَ منه أنَّه حارضٌ والحارض : المقاربُ للهلاك " واستبعد النَّاسُ هذا منه ، وقد نَحَا الزمخشريُّ نحوه ، فقال : " التَّحريضُ : المبالغةُ في الحثِّ على الأمر ، من الحرَض ، وهو أن ينهكه المرض ، ويتبالغ فيه حتى يُشْفِيَ على الموت أو تُسَمِّيه حَرضاً ، وتقولُ له : ما أراك إلاَّ حَرضاً " .

وقرأ الأعمش{[17489]} " حَرِّصْ " بالصاد المهملة ، وهو من " الحِرْصِ " ، ومعناه مقارب لقراءة العامة .

قوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } الآيات .

أثبت في الشرط الأول قيداً ، وهو الصبرُ ، وحذف من الثاني : وأثبت في الثاني قيداً ، وهو كونهم من الكفر ، وحذف من الأوَّلِ ، والتقديرُ : مائتين من الذين كفروا ، ومائة صابرة فحذف من كلٍّ منهما ما أثبت في الآخر ، وهو في غاية الفصاحة .

وقرأ{[17490]} الكوفيون : { وإن يكُنْ منْكُم مائةٌ يَغلِبُوا } ، { فإنْ يكنْ منكُم مائةٌ صابرةٌ } بتذكير " يكن " فيهما ، ونافع وابن{[17491]} كثير وابن عامر بتأنيثه فيهما ، وأبو عمرو في الأولى كالكوفيين{[17492]} وفي الثانية كالباقين .

فَمَنْ ذكَّر فللفصل بين الفعل وفاعله بقوله : " مِنكُمْ " ؛ لأنَّ التأنيث مجازي ، إذ المراد ب " المائة " الذُّكور ، ومنْ أنَّثَ فلأجل اللفظِ ، ولم يلتفت للمعنى ، ولا للفصل .

وأمَّا أبو عمرو فإنَّما فرٌَّ بين الموضعين فذكَّر في الأول ، لما ذكر ؛ ولأنَّهُ لحظ قوله : " يغلبوا " وأنَّثَ في الثاني ، لقوة التأنيث بوصفه بالمؤنث في قوله : " صَابِرَةٌ " ، وأمَّا : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ } و { وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ } فبالتذكير عند جميع القرَّاء ، إلاَّ الأعرج ، فإنه أنَّثَ المسند إلى " عشرون " .

فصل

هذا خبرٌ والمراد به الأمر ، كقوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] .

والمعنى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } فليصبروا وليجتهدوا في القتالِ حتَّى " يَغلبُوا مائتيْنِ " ويدلُّ على أن المراد الأمر وجوه .

أولها : لو كان المرادُ الخبر ، لزم أن يقال لم يغلب قط مائتان من الكُفَّارِ عشرين من المؤمنين ، وذلك باطل .

وثانيها : قوله تعالى : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } نسخ والنسخُ لا يليق إلاَّ بالأمر .

وثالثها : قوله تعالى { والله مَعَ الصابرين } وذلك ترغيب في الثبات على الجهادِ .

فصل

قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } يدُلُّ على أنَّهُ تعالى ما أوجبَ هذا الحكم إلاَّ بشرط كونه صابراً قادراً على ذلك ، وإنَّما حصل هذا الشَّرط عند حصول أشياء .

منها : أن يكون شديد الأعضاء ، قوياً جلداً ، وأن يكون قوي القلب شجاعاً غير جبان ، وأن يكون غير متحرّفٍ إلاَّ لقتال أو متحيزاً إلى فئة ؛ فعند حصول هذه الشرائط كان يجبُ على الواحد أن يثبتَ للعشرةِ .

وإنَّما حسن هذا التكليف ؛ لأنه مسبوق بقوله : { حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] فلمَّا وعد المؤمنين بالكفاية والنُّصرةِ كان هذا التكليف سهلاً ؛ لأنَّ من تكفَّل بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه .

فإن قيل : هذه الآية تدلُّ على جوب ثبات الواحد للعشرة ، فما الفائدة في العدولِ عن هذه اللَّفظةِ الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة ؟ .

والجوابُ : أن هذا الكلام إنَّما ورد على وفْق الواقعة ؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السَّرايا ، والغالبُ أن تلك السَّرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين ، وما كانت تزيدُ على المائة فلهذا ذكر الله هذين العددين .

قوله : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } وهذا كالعلّة لتلك الغلبة ؛ لأنَّ من لا يؤمنُ باللَّهِ ولا يؤمنُ بالمعاد ، فالسعادةُ ليست عنده إلاَّ هذه الحياة الدنيويَّة ، ومن كان هذه معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال .

وأمَّا من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة وأنَّ السعادة لا تحصل إلاَّ في الدَّار الآخرة ، فإنَّه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ، ولا يقيم لها وزناً ، فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح ، وإذا كان الأمر كذلك ، كان الواحد في الثبات يقاوم العدد الكثير .

وأيضاً : فإن الكُفَّار إنَّما يعولُون على قوتهم وشوكتهم ، والمسلمون يستغيثون بربهم بالدعاء ، والتضرع ، ومنْ كان كذلك كان النصر الظفر به أليق وأولى .

كان هذا يوم بدر فرض الله على الرَّجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين ،


[17487]:تقدم.
[17488]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/469.
[17489]:حكاها الأخفش. ينظر: الكشاف 2/235، المحرر الوجيز 2/549، البحر المحيط 4/512، الدر المصون 3/435.
[17490]:ينظر: السبعة ص (308)، الحجة 4/159-160، حجة القراءات ص (312-313)، إعراب القراءات 1/232-233، إتحاف 2/83، النشر 2/177.
[17491]:انظر السابق.
[17492]:وقرأ بها كذلك يعقوب ووافقهما اليزيدي والحسن. ينظر: السبعة ص (308)، الحجة 4/160، حجة القراءات ص (313) إعراب القراءات 1/232، إتحاف 2/83.