القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىَ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَتِلْكَ حُجّتُنا قوله إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين : أيّ الفريقين أحقّ بالأمن ، أمن يعبد ربا واحدا مخلصا له الدين والعبادة أم من يعبد أربابا كثيرة ؟ وإجابتهم إياه بقولهم : بل من يعبد ربا واحدا مخلصا له الدين والعبادة أم من يعبد أربابا كثيرة ؟ وإجابتهم إياه بقولهم : بل من يعبد ربا واحدا أحقّ بالأمن وقضاؤهم له على أنفسهم ، فكان في ذلك قطع عذرهم وانقطاع حجتهم واستعلاء حجة إبراهيم عليهم ، فهي الحجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه كالذي :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان الثوريّ ، عن رجل ، عن مجاهد : وَتِلْكَ حُجّتُنا آتَيْناها إبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ قال : هي الّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : قال إبراهيم حين سأل : أي الفريقين أحقّ بالأمن ؟ قال : هي حجة إبراهيم . وقوله : وآتَيْنَاها إبْرَاهِيمَ على قَوْمِه يقول : لقناها إبراهيم وبصرناه إياها وعرفناه على قومه . نَرْفَعُ درجاتٍ مِنَ نَشَاءُ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة : نَرْفَعُ درجاتٍ مِنَ نَشَاءُ بإضافة الدرجات إلى من ، بمعنى : نرفع الدرجات لمن نشاء . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة نَرْفَعُ درجاتٍ مِنَ نَشَاءُ بتنوين «الدرجات » ، بمعنى نرفع من نشاء درجات . والدرجات : جمع درجة وهي المرتبة ، وأصل ذلك مراقي السلم ودرجه ، ثم تستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : هما قراءتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء متقارب معناهما وذلك أن من رُفِعت درجته فقد رُفع في الدّرجَ . ومن رُفع في الدرج فقد رُفِعت درجته ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب في ذلك فمعنى الكلام إذن : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه فرفعنا بها درجته عليهم وشرّفناه بها عليهم في الدنيا والاَخرة فأما في الدنيا فآتيناه فيها أجره ، وأما في الاَخرة فهو من الصالحين ، نَرْفَعُ درجاتٍ مِنَ نَشَاءُ أي بما فعل من ذلك وغيره .
وأما قوله : إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فإنه يعني : إن ربك يا محمد حكيم في سياسته خلقه وتلقينه أنبياءه الحجج على أممهم المكذّبة لهم الجاحدة توحيد ربهم ، وفي غير ذلك من تدبيره ، عليم بما يئول إليه أمر رسله ، والمرسل إليهم من ثَبات الأمم على تكذيبهم إياهم وهلاكهم على ذلك وإنابتهم وتوبتهم منه بتوحيد الله تعالى وتصديق رسله والرجوع إلى طاعته ، يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : تأسّ يا محمد في نفسك وقومك المكذبيك والمشركين بأبيك خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، واصبر على ما ينوبك منهم صبره ، فإني بالذي يئول إليه أمرك وأمرهم عالم التدبير فيك وفيهم حكيم .
وهو خبر من الله تعالى { وتلك } إشارة إلى هذه الحجة المتقدمة وهي رفع بالابتداء و { حجتنا } خبره و { آتيناها } في موضع الحال ، ويجوز أن تكون { حجتنا } بدلاً من تلك وآتيناها خبر «تلك » «وإبراهيم » مفعول ب «آتيناها » والضمير مفعول أيضاً ب { آتيناها } مقدم و { على } متعلقة بقوله { حجتنا } وفي ذلك فصل كثير ، ويجوز أن تتعلق على ب «آتيناها » على المعنى إذ أظهرناها لإبراهيم على قومه ونحو هذا ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «نرفع درجاتِ من نشاء » بإضافة الدرجات إلى { من } ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «نرفع درجاتٍ من نشاء »{[4997]} .
قال القاضي أبو محمد : وهما مأخذان من الكلام ، والمعنى المقصود بهما واحد ، و { درجات } على قراءة من نون نصب على الظرف ، و { عليم حكيم } صفتان تليق{[4998]} بهذا الموضع إذ هو موضع مشيئة واختيار فيحتاج ذلك إلى العلم والإحكام ، والدرجات أصلها في الأجسام ثم تستعمل في المراتب والمنازل المعنوية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.