وقوله - سبحانه - : { وأخرى تُحِبُّونَهَا } بيان لنعمة أخرى يعطيهم - سبحانه - إياها ، سوى ما تقدم من نعم عظمى .
ولفظ " أخرى " مبتدأ خبره دل عليه ما تقدم ، وقوله : { تُحِبُّونَهَا } صفة للمبتدأ .
أى : ولكم - فضلا عن كل ما تقدم - نعمة أخرى تحبونها وتتطلعون إليها .
وهذه النعمة هى : { نَصْرٌ } عظيم كائن { مِّن الله } - تعالى - لكم { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أى : عاجل { وَبَشِّرِ المؤمنين } أى : وبشر - أيها الرسول الكريم - المؤمنين بذلك ، حتى يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، وحتى تزداد قلوبهم انشراحا وسرورا .
ويدخل فى هذا النصر والفتح القريب دخولا أوليا : فتح مكة ، ودخول الناس فى دين الله أفواجا .
وهذه الآية الكريمة من معجزات القرآن الكريم ، الراجعة إلى الإخبار بالغيب ، حيث أخبر - سبحانه - بالنصر والفتح ، فتم ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، فى أكمل صورة ، وأقرب زمن .
{ وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } .
عطف على جملة { يغفر لكم ويدخلكم } [ الصف : 12 ] عطفَ الاسمية على الفعلية . وجيء بالاسمية لإِفادة الثبوت والتحقق . ف { أُخرى } مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله : { لكم } من قوله : { يغفر لكم } . والتقدير : أخرى لكم ، ولك أن تجعل الخبر قوله : { نصر من الله } .
وجيء به وصفاً مؤنثاً بتأويل نعمة ، أو فضيلة ، أو خصلة مما يؤذن به قوله : { يغفر لكم ذنوبكم } [ الصف : 12 ] إلى آخره من معنى النعمة والخصلة كقوله تعالى : { وأخرى لم تقدروا عليها } في سورة [ الفتح : 21 ]
ووصف أخرى بجملة { تحبونها } إشارة إلى الامتنان عليهم بإعطائهم ما يحبون في الحياة الدنيا قبل إعطاء نعيم الآخرة . وهذا نظير قوله تعالى : { فلنولينك قبلة ترضاها } [ البقرة : 144 ] .
و{ نصر من الله } بدل من { أُخرى } ، ويجوز أن يكون خبراً عن { أخرى } . والمراد به النصر العظيم ، وهو نصر فتح مكة فإنه كان نصراً على أشد أعدائهم الذين فتنوهم وآذوهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وألَّبوا عليهم العرب والأحزاب . وراموا تشويه سمعتهم ، وقد انضم إليه نصر الدين بإسلام أولئك الذين كانوا من قبل أيمة الكفر ومساعير الفتنة ، فأصبحوا مؤمنين إخواناً وصدق الله وعده بقوله : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } [ الممتحنة : 7 ] وقوله : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } [ آل عمران : 103 ] .
وذكر اسم الجلالة يجوز أن يكون إظهاراً في مقام الإِضمار على احتمال أن يكون ضمير التكلم في قوله : { هل أدلكم } [ الصف : 10 ] كلاماً من الله تعالى ، ويجوز أن يكون جارياً على مقتضى الظاهر إن كان الخطاب أُمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقدير « قل » .
ووصف الفتح ب { بقريب } تعجيل بالمسرة .
وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الإِخبار بالغيب .
يجوز أن تكون عطفاً على مجموع الكلام الذي قبلها ابتداء من قوله : { يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة } [ الصف : 10 ] على احتمال أن ما قبلها كلام صادر من جانب الله تعالى ، عطفَ غرض على غرض فيكون الأمر من الله لنبيئه صلى الله عليه وسلم بأن يبشر المؤمنين . ولا يتأتى في هذه الجملة فرضُ عطف الإِنشاء على الإِخبار إذ ليس عطف جملة بل جملة على جملة على مجموع جُمل على نحو ما اختاره الزمخشري عند تفسير قوله تعالى : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات } الآية في أوائل سورة [ البقرة : 25 ] وما بيَّنه من كلام السيد الشريف في حاشية « الكشاف » .
وأما على احتمال أن يكون قوله : { يأيها الذين آمنوا هل أدلكم } إلى آخره مسوقاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : { هل أدلكم على تجارة } بتقدير قول محذوف ، أي قل يأيها الذين آمنوا هل أدلكم ، إلى آخره ، فيكون الأمر في { وبشر } التفاتاً من قبيل التجريد . والمعنى : وأُبشّرُ المؤمنين .
وقد تقدم القول في عطف الإِنشاء على الإِخبار عند قوله تعالى : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } في أوائل سورة [ البقرة : 25 ] .
والذي استقر عليه رأيي الآن أن الاختلاف بين الجملتين بالخبرية والإِنشائية اختلاف لفظي لا يؤثر بين الجملتين اتصالاً ولا انقطاعاً لأن الاتصال والانقطاع أمران معنويان وتابعان للأغراض فالعبرة بالمناسبة المعنوية دون الصيغة اللفظية وفي هذا مقنع حيث فاتني التعرض لهذا الوجه عند تفسير آية سورة البقرة{[420]} .