ثم أضافوا إلى ذلك قولهم { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ . . . } .
والرتع والرتوع هو الاتساع في الملاذ والتنعم في العيش ، يقال : رتع الإِنسان في النعمة إذا أكل ما يطيب له ورتعت الدابة إذا أكلت حتى شبعت ، وفعله كمنع والمراد باللعب هنا الاستجمام ورفع السآمة ، كالتسابق عن طريق العدو ، وما يشبه ذلك من ألوان الرياضة المباحة .
أى : أرسله معنا غدا ليتسع في أكل الفواكه ونحوها وليدفع السآمة عن نفسه عن طريق القفز والجرى والتسابق معنا .
{ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } كل الحفظ من أن يصيبه مكروه ، أو يمسه سوء .
وقد أكدو هذه الجملة والتى قبلها وهى قوله { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } بألوان من المؤكدات ، لكى يستطيعوا الحصول على مقصودهم في اصطحاب يوسف معهم .
وهو أسلوب يبدوا فيه التحايل الشديد على أبيهم ، لإِقناعة بما يريدون تنفيذه وتحقيقه من مآرب سيئة .
و { غداً } ظرف أصله : غدو{[6582]} ، فلزم اليوم كله ، وبقي الغدو اسمين لأول النهار ، وقال النضر ابن شميل : ما بين الفجر إلى الإسفار يقال فيه غدوة . وبكرة .
وقرأ أبو عمرو وأبو عامر : «نرتعْ ونلعبْ » بالنون فيهما وإسكان العين والباء ، و «نرتعْ » - على هذا - من الرتوع وهي الإقامة في الخصب والمرعى في أكل وشرب ، ومنه قول الغضبان بن القبعثري : القيد والرتعة وقلة التعتعة{[6583]} . ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
. . . . . . . . . وبعد عطائك المائة الرتاعا{[6584]}*** و «لعبهم » هذا دخل في اللعب المباح كاللعب بالخيل والرمي ونحوه ، فلا وصم عليهم في ذلك ، وليس باللعب الذي هو ضد الحق وقرين اللهو ، وقيل لأبي عمرو بن العلاء : كيف يقولون : نلعب وهم أنبياء ؟ قال : لم يكونوا حينئذ أنبياء .
وقرأ ابن كثير : «نرتعِ ونلعبْ » بالنون فيهما ، وبكسر وجزم الباء ، وقد روي عنه «ويلعب » بالياء ، وهي قراءة جعفر بن محمد . و «نرتعِ » - على هذا - من رعاية الإبل : وقال مجاهد هي من المراعاة : أي يراعي بعضنا بعضاً ويحرسه ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «يرتع ويلعب » بإسناد ذلك كله إلى يوسف ، وقرأ نافع «يرتعِ » بالياء فيهما وكسر العين وجزم الباء ، ف «يرتعِ » - على هذا - من رعي الإبل ؛ قال ابن زيد : المعنى : يتدرب في الرعي وحفظ المال ؛ ومن الارتعاء قول الأعشى :
ترتعي السفح فالكثيب فذاقا*** ن فروض القطا فذات الرئال{[6585]}
قال أبو علي : وقراءة ابن كثير - «نرتع » بالنون و «يلعب » بالياء - فنزعها حسن ، لإسناد النظر في المال والرعاية إليهم ، واللعب إلى يوسف لصباه .
وقرأ العلاء بن سيابة ، «يرتع ويلعبُ » برفع الباء على القطع{[6586]} . وقرأ مجاهد وقتادة : «نُرتِع » بضم النون وكسر التاء و «نلعبْ » بالنون والجزم . وقرأ ابن كثير - في بعض الروايات عنه - «نرتعي » بإثبات الياء - وهي ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كما قال الشاعر : [ الوافر ]
ألم يأتيك والأنباء تنمي*** بما لاقت لبون بني زياد{[6587]}
وقرأ أبو رجاء «يُرتعْ » بضم الياء وجزم العين و «يلعبْ » بالياء والجزم{[6588]} .
وعللوا طلبه والخروج به بما يمكن أن يستهوي يوسف لصباه من الرتوع واللعب والنشاط .
جملة { أرسله } مستأنفة استئنافاً بيانيّاً لأن الإنكار المتقدّم يثير ترقب يعقوب عليه السّلام لمعرفة ما يريدون منه ليوسف عليه السّلام .
و { يرتَع } قرأه نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب بياء الغائب وكسر العَين . وقرأه ابن كثير بنون المتكلّم المشارك وكسر العين وهو على قراءتي هؤلاء الأربعة مضارع ارتعَى وهو افتعال من الرّعي للمبالغة فيه .
فهو حقيقة في أكل المواشي والبهائم واستعير في كلامهم للأكل الكثير لأنّ الناس إذا خرجوا إلى الرّياض والأرياف للّعب والسّبق تقوى شهوة الأكل فيهم فيأكلون أكلاً ذريعاً فلذلك شبّه أكلهم بأكل الأنعام .
وإنّما ذكروا ذلك لأنّه يسرّ أباهم أن يكونوا فرحين .
وقرأه أبو عمرو ، وابن عامر بنون وسكون العين . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بياء الغائب وسكون العين وهو على قراءتي هؤلاء الستة مضارع رتَع إذا أقام في خصب وسعة من الطعام . والتحقيق أنّ هذا مستعار من رتعت الدّابة إذا أكلت في المرعى حتّى شبعت . فمفاد المعنى على التأويلين واحد .
واللّعب : فعل أو كلام لا يراد منه ما شأنه أن يراد بمثله نحو الجري والقفز والسّبق والمراماة ، نحو قول امرىء القيس :
يقصد منه الاستجمام ودفع السآمة . وهو مباح في الشرائع كلّها إذا لم يصر دأباً . فلا وجه لتساؤل صاحب « الكشاف » على استجازة يعقوب عليه السّلام لهم اللعب .
والذين قرأوا { نرتع } بنون المشاركة قرأوا { ونلعب } بالنون أيضاً .
وجملة { وإنّا له لحافظون } في موضع الحال مثل { وإنّا له لناصحون } [ سورة يوسف : 10 ] . والتّأكيد فيهما للتّحقيق تنزيلاً لأبيهم منزلة الشّاك في أنّهم يحفظونه وينصحونه كما نزّلوه منزلة من لا يأمنهم عليه من حيث إنّه كان لا يأذن له بالخروج معهم للرعي ونحوه .
وتقديم { له } في { له لناصحون } و { له لحافظون } يجوز أن يكون لأجل الرعاية للفاصلة والاهتمام بشأن يوسف عليه السّلام في ظاهر الأمر ، ويجوز أن يكون للقصر الادّعائي ؛ جعلوا أنفسهم لفرط عنايتهم به بمنزلة من لا يحفظ غيره ولا ينصح غيره .
وفي هذا القول الذي تواطأوا عليه عند أبيهم عبرة من تواطىء أهل الغرض الواحد على التحيّل لنصب الأحابيل لتحصيل غرض دنيء ، وكيف ابتدأوا بالاستفهام عن عدم أمنه إيّاهم على أخيهم وإظهار أنّهم نصحاء له ، وحققوا ذلك بالجملة الاسمية وبحرف التوكيد ، ثمّ أظهروا أنّهم ما حرصوا إلاّ على فائدة أخيهم وأنّهم حافظون له وأكّدوا ذلك أيضاً .