ثم حكى - سبحانه - موقف هؤلاء المنافقين من المؤمنين الصادقين الذين كانوا يبذلون أموالهم في سبيل الله ، فقال - سبحانه : { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين . . . } .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : وهذا أيضا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم . إن جاء أحد منهم بمال جزيل ، قالوا : هذا مراء ، وإن جاء بشئ يسير قالوا : إن الله لغنى عن صدقة هذا ، كما روى البخارى عن أبى مسعود - رضى الله عنه - قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا - أى : نؤاجر أنفسنا في الحمل - فجاء رجل فتصدق بشئ كثير ، فقالوا هذا يقصد الرياء ، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا : إن الله لغنى عن صدقة هذا ، فنزلت هذه الآية .
وأخرج ابن جرير عن عمر بن أبى سلمة عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تصدقوا فإنى أريد أن أبعث بعثنا ، - أى إلى تبوك - قال : فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله . . إن عندى أربعة آلاف : ألفين أقرضهما الله ، وألفين لعيالى .
قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت " ؟ ! فقال رجل من الأنصار : وإن عندى صاعين من تمر ، صاعا لربى ، وصاعا لعيالى ، قال : فلمز المنافقون وقالوا : ما أعطى أبو عوف هذا إلا رياء ! !
وقالوا : أو لم يكن الله غنيا من صاع هذا ! ! فأنزل الله - تعالى - { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } " .
وقال ابن اسحاق : كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات : عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدى - أخابنى عجلان - وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغب في الصدقة وحض عليها . فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم بن عدى وتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما ، وقالوا : ما هذا إلا رياء . وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل - أخبانى أنيف - أتى بصاع من تمر ، فأفرغها في الصدقة ، فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغنى عن صاع أبى عقيل .
هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية ، وهناك روايات أخرى ، قريبة في معناها بما ذكرناها .
وقوله : " يلمزون " من اللمز ، يقال : لمز فلان فلانا إذا عابه وتنقصه .
والمراد بالمطوعين : أغنياء المؤمنين الذين قدموا أموالهم عن طواعية واختيار ، من أجل إعلاء كلمة الله .
والمراد بالصدقات : صدقات التطوع التي يقدمها المسلم زيادة على الفريضة .
والمراد بالذين لا يجدون إلا جهدهم : فقراء المسلمين . الذين كانوا يقدمون أقصى ما يستطيعونه من مال مع قلته ، إذ الجهد : الطاقة ، وهى أقصى ما يستطيعه الإِنسان .
والمعنى : إن من الصفات القحبية - أيضاً للمنافقين ، أنهم كانوا يعيبون على المؤمنين ، إذا ما بذلوا أمولهم لله ورسوله عن طواعية نفس ، ورضا قلب ، وسماحة ضمير .
وذلك لأن هؤلاء المنافقين - لخلو قلوبهم من الإِيمان - كانوا لا يدركون الدوافع السامية ، والمقاصد العالية من وراء هذا البذل . .
ومن أجل هذا كانوا يقولون عن المكثر : إنه يبذل رياء ، وكانوا يقولون عن المقل : إن الله غنى عن صدقته ، فهم - لسوء نواياهم وبخل نفوسهم ، وخبث قلوبهم - لا يرضيهم أن يروا المؤمنين يتنافسون في إرضاء الله روسوله .
وقوله : { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } معطوف على قوله : { المطوعين } .
أى : أن هؤلاء المنافقين يلزمون الأغنياء المطوعين بالمال الكثير ، ويلمزون الفقراء الباذلين للمال القليل ؛ لأنه هو مبلغ جهدهم ، وآخر طاقتهم .
وقوله : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } بيان لموقفهم الذميم من المؤمنين .
أى : إن هؤلاء المنافقين يستهزئون بالمؤمنين عندما يلبون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِنفاق في سبيل الله .
وجاء عطف { فَيَسْخَرُونَ } على { يَلْمِزُونَ } بالفاء ، للإِشعار بأنهم قوم يسارعون إلى الاستهزاء بالمؤمنين ، بمجرد أن يصدر عن المؤمنين أى عمل من الأعمال الصالحة التي ترضى الله ورسوله .
وقوله : { سَخِرَ الله مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بيان لجزائهم وسوء عاقبتهم .
أى : إن هؤلاء الساخرين من المؤمنين جازاهم الله على سخريتهم في الدنيا ، بأن فضحهم وأخزاهم ، وجعلهم حل الاحتقار والازدراء . . .
أما جزاؤهم فىا لآخرة فهو العذاب الأليم الذي لا يخف ولا ينقطع .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت جانبا من طبائع المنافقين وردت عليهم بما يفضحهم ويخزيهم ويبشرهم بالعذاب الأليم .
قوله { الذين يلمزون } رد على الضمائر في قول { يكذبون } [ التوبة : 77 ] و { ألم يعلموا } [ التوبة : 87 ] و { سرهم ونجواهم } [ التوبة : 78 ] و { يلمزون } معناه ينالون بألسنتهم ، وقرأ السبعة «يلمِزون » بكسر الميم ، وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وابن كثير فيما روي عنه «يلمُزون » بضم الميم ، و { المطوعين } لفظة عموم في كل متصدق ، والمراد به الخصوص فيمن تصدق بكثير دل على ذلك قوله ، عطفاً على { المطوعين } ، { والذين لا يجدون } ، ولو كان { الذين لا يجدون } قد دخلوا في { المطوعين } لما ساغ عطف الشيء على نفسه ، وهذا قول أبي علي الفارسي في قوله عز وجل : { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل }{[5797]} فإنه قال المراد بالملائكة من عدا هذين .
وكذلك قال في قوله : { فيهما فاكهة ونخل ورمان }{[5798]} وفي هذا كله نظر ، لأن التكرار لقصد التشريف يسوغ هذا مع تجوز العرب في كلامها ، وأصل { المطوعين } المتطوعين فأبدل التاء طاء وأدغم ، وأما المتصدق بكثير الذي كان سبباً للآية فأكثر الروايات «أنه عبد الرحمن بن عوف ، تصدق بأربعة آلاف وأمسك مثلها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ، بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أنفقت »{[5799]} .
وقيل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بنصف ماله ، وقيل عاصم بن عدي تصدق بمائة وسق ، وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل حبحاب الأراشي ، تصدق بصاع من تمر وقال : يا رسول الله جررت البارحة بالجرير وأخذت صاعين تركت أحدهما لعيالي وأتيت بالآخر صدقة .
فقال المنافقون : الله غني عن صدقة هذا ، وقال بعضهم : إن الله غني عن صاع أبي عقيل{[5800]} ، وقيل : إن الذي لمز في القليل أبو خيثمة ، قاله كعب بن مالك صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف ، وقيل بأربعمائة أوقية من فضة ، وقيل أقل من هذا .
فقال المنافقون : ما هذا إلا رياء ، فنزلت الآية في هذا كله ، وقوله : { فيسخرون } معناه يستهزئون ويستخفون ، وهو معطوف على { يلمزون } ، واعترض ذلك بأن المعطوف على الصلة فهو من الصلة وقد دخل بين هذا المعطوف والمعطوف عليه قوله { والذين لا يجدون } ، وهذا لا يلزم ، لأن قوله { والذين } معمول للذي عمل في { المطوعين } فهو بمنزلة قوله جاءني الذي ضرب زيداً وعمراً فقتلهما ، وقوله : { سخر الله منهم } تسمية العقوبة باسم الذنب وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم ، وقوله : { ولهم عذاب أليم } معناه مؤلم ، وهي آية وعيد محض ، وقرأ جمهور «جُهدهم » بضم الجيم ، وقرأ الأعرج وجماعة معه «جَهدهم » بالفتح ، وقيل هما بمعنى واحد ، وقاله أبو عبيدة ، وقيل هما لمعنيين الضم في المال والفتح في تعب الجسم ، ونحوه عن الشعبي{[5801]} ، وقوله : { الذين يلمزون } يصح أن يكون خبر ابتداء تقديره هم الذين ، ويصح أن يكون ابتداء وخبره { سخر } ، وفي { سخر } معنى الدعاء عليهم .
ويحتمل أن يكون خبراً مجرداً عن الدعاء ، ويحتمل أن يكون { الذين } صفة جارية على ما قبل كما ذكرت أول الترجمة .
استئناف ابتدائي ، نزلت بسبب حادث حدث في مدّة نزول السورة ، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ الناس على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم ، وجاء عَاصم بن عَدِي بأوسقٍ كثيرة من تمر ، وجاء أبو عَقيل بصاع من تمر ، فقال المنافقون : ما أعطَى عبدُ الرحمن وعاصم إلاّ رياءً وأحَبَّ أبو عَقيل أن يُذكِّر بنفسه ليُعطى من الصدقات فأنزل الله فيهم هذه الآية .
فالذين يلمزون مبتدأ وخبره جملة { سخر الله منهم .
واللمز : الطعن . وتقدّم في هذه السورة في قوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] . وقرأه يعقوب بضمّ الميم كما قرأ قوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] .
و { المُطّوّعين } أصله المُتَطَوّعين ، أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما .
و { في } للظرفية المجازية بجعل سبب اللمز كالظرف للمسبَّب .
وعُطف الذين لا يجدون إلاّ جهدهم على المطوعين وهم منهم ، اهتماماً بشأنهم والجُهد بضمّ الجيم الطاقة . وأطلقت الطاقة على مسبّبها الناشئ عنها .
وحُذف مفعول { يجدون } لظهوره من قوله : { الصدقات } أي لا يجدون ما يتصدّقون به إلاّ جهدهم .
والمراد لا يجدون سبيلاً إلى إيجاد ما يتصدّقون به إلاّ طاقتهم ، أي جُهد أبدانهم . أو يكونُ وجَدَ هنا هو الذي بمعنى كان ذا جدة ، أي غنىً فلا يقدر له مفعول ، أي الذين لا مال لهم إلاّ جُهدهم وهذا أحسن .
وفيه ثناء على قوة البدن والعمل وأنّها تقوم مقام المال .
وهذا أصل عظيم في اعتبار أصول الثروة العامة والتنويه بشأن العامل .
والسخرية : الاستهزاء . يقال : سخر منه ، أي حصلت السخرية له من كذا ، فمن اتّصالية .
واختير المضارع في يلمزون ويسخَرون للدلالة على التكرر .
وإسناد سخر إلى الله تعالى على سبيل المجاز الذي حسَّنتْه المشاكلة لفعلهم ، والمعنى أنّ الله عامَلَهم معاملةً تُشبه سخرية الساخر ، على طريقة التمثيل ، وذلك في أنْ أمر نبيه بإجراء أحكام المسلمين على ظاهرهم زمناً ثم أمْرِه بفضحهم .
ويجوز أن يكون إطلاق سَخر الله منهم على طريقة المجاز المرسل ، أي احتقرهم ولعنهم ولمّا كان كلّ ذلك حاصلاً من قبل عبّر عنه بالماضي في { سخر الله منهم
وجملة : { ولهم عذاب أليم } عطف على الخبر ، أي سخر منهم وقضى عليهم بالعذاب في الآخرة .