محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

ثم بين تعالى من مساوئ المنافقين نوعا آخر ، وهو لمزهم المتصدقين بقوله سبحانه :

/ [ 79 ] { الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم 79 } .

{ الذين يلمزون } أي يعيبون { المطوعين } أي المتبرعين { من المؤمنين في الصدقات } فيزعمون أنهم تصدقوا رياء { والذين } أي ويلمزون الذين { لا يجدون إلا جهدهم } أي لا يجدون ما يتصدقون به إلا قليلا ، وهو مقدار طاقتهم { فيسخرون منهم } أي يهزؤون بهم ، ويقولون إن الله غني عن صدقتهم { سخر الله منهم } أي جازاهم على سخرهم { ولهم عذاب أليم } روى البخاري{[4586]} في ( صحيحه ) عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : " لما نزلت آية الصدقة ، كنا نحامل{[4587]} فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مرائي . وجاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغنيّ عن صدقة هذا ، فنزلت : { الذين يلمزون . . . } الآية " - رواه مسلم{[4588]} أيضا .

وروى الإمام أحمد{[4589]} عن أبي السليل عن رجل حدثه عن أبيه أو عمه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة ؟ فجاء رجل لم أر رجلا أشد منه سوادا ، ولا أصغر منه ولا أدمّ ، بناقة لم أر أحسن منها ، قال : يا رسول الله ، دونك هذه الناقة . قال : فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه فوالله لهي خير منه ! فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كذبت ! بل هو خير منك ومنها ( ثلاث مرات ) . ثم قال : ويل لأصحابك إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله " .

/ قال ابن إسحاق{[4590]} : " كان المطّوّعون من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمان بن عوف ، وعاصم بن عديّ أخا بني عجلان . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغّب في الصدقة ، وحضّ عليها ، فقام عبد الرحمان بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم بن عديّ وتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء . وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل ، أخا بني أنيف ، أتى بصاع من تمر ، فأفرغها في الصدقة فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغنيّ عن صاع أبي عقيل " .

وروى الحافظ البزار في ( مسنده ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا . فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله ! عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما لربي ، وألفين لعيالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أمسكت . وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر ، فقال : يا رسول الله ! أصبت صاعين من تمر ، صاع أقرضه لربي ، وصاع لعيالي . قال : فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء ، وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا ؟ فأنزل الله الآية " . وقوله عليه الصلاة والسلام : " أريد أن أبعث بعثا " أي لغزو الروم ، وذلك في غزوة تبوك .

تنبيهات

الأول- قال السيوطيّ في ( الإكليل ) : في هذه الآية تحريم اللمز والسخرية بالمؤمنين . انتهى .

الثاني- في { الذين يلمزون } وجوه من الإعراب : خبر مبتدأ بتقدير ( هم الذين ) أو مفعول أعني أو أذم الذين ، أو مجرور بدل ضمير { سرّهم } ، وجوّز أيضا أن يكونبتدأ خبره { سخر الله منهم } وقيل : { فيسخرون } ، ودخلت ( الفاء ) لما في { الذين } من الشبه بالشرط . وأما { الذين لا يجدون } . . . الخ فقيل : معطوف على { الذين يلمزون } وقيل : { على المؤمنين } ، والأحسن أنه معطوف على { المطوعين } .

قال في ( الفتح ) : ويكون من عطف الخاص على العام ، والنكتة فيه التنويه بالخاص ، لأن السخرية من المقلّ أشد من المكثر غالبا .

الثالث- قال في ( الفتح ) : قراءة الجمهور { المطوعين } بتشديد الطاء والواو . وأصله المتطوعين ، أدغمت التاء في الطاء . انتهى . أي لقرب المخرج . والتطوع التنفّل ، وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب . و ( الجهد ) قال الليث : هو شيء قليل يعيش به المقلّ ، وبضم الجيم قرأ الجمهور . وقرأ ابن هرمز وجماعة بالفتح ، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد . وقيل : المفتوح بمعنى المشقة ، والمضموم بمعنى الطاقة . وقيل : المضموم قليل يعاش به ، والمفتوح : العمل . والمختار أنهما بمعنى ، وهو الطاقة وما تبلغه القوة . قال الفراء : الضم لغة أهل الحجاز ، والفتح لغيرهم . والهزء والسخرية بمعنى .


[4586]:أخرجه البخاري في: 24- كتاب الزكاة، 10- باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، الحديث رقم 755.
[4587]:أي نحمل الحمل على ظهورنا بالأجرة.
[4588]:أخرجه مسلم في: 12- كتاب الزكاة، حديث 72 (طبعتنا).
[4589]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 34 من الجزء الخامس (طبعة الحلبي).
[4590]:انظر سيرة ابن هشام صفحة رقم 926 (طبعة جوتنجن) وصفحة 196 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي).