الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

قوله : { الذين يلمزون المطوعين من المومنين في الصدقات } ، إلى قوله : { الفاسقين }[ 79-80 ] .

والمعنى : الذين يعيبون الذين تطوعوا بصدقاتهم على أهل المسكنة والحاجة فيقولون لهم : إنما تصدقون رياء وسمعة ، ولم تريدوا وجه الله عز وجل{[29353]} .

{ والذين لا يجدون إلا جهدهم }[ 79 ] .

أي : من المؤمنين ، ومن{ والذين لا يجدون } ، عطفه على { المطوعين } ، لأن الاسم لم يتم ، إذ{[29354]} قوله : { فيسخرون }{[29355]} في الصلة عطف على { يلمزون }{[29356]} .

و " الجهد و " الجَهد " عند البصريين [ بمعنى ]{[29357]} ، لغتان{[29358]} .

وقال بعض الكوفيين : الجُهد ، بالضم{[29359]} : الطاقة ، وبالفتح : المشقة{[29360]} .

والسخري{[29361]} من الله : الجزاء على فعلهم{[29362]} .

قال ابن عباس : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : و[ الله ]{[29363]} ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء ، وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع . فأنزل الله عز وجل : { الذين يلمزون المطوعين من المومنين في الصدقات } ، يعني : عبد الرحمن بن عوف ، { والذين لا يجدون إلا جهدهم } ، يعني : الأنصاري الذي أتى بصاع من شعير{[29364]} .

وقال ابن عباس : جاء عبد الرحمن بمائة أوقية من ذهب ، وترك لنفسه مائة ، وقال : مالي ثمانية آلاف ، أما أربعة آلاف فأُقرضها الله ، وأما الأربعة آلاف فلي ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " بارك الله [ لك ]{[29365]} فيما أمسكت{[29366]} وما أعطيت " فلمزه المنافقون ، وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن بن عوف عطيته إلا رياء ، وهم كاذبون ، فأنزل الله عز وجل ، عذره{[29367]} .

وقال قتادة : جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف صدقته ، وجاء رجل من الأنصار ، يكنى بأبي عقيل{[29368]} ، بصاع من تمر لم يكن له غيره ، فقال : يا رسول الله ، آجرت{[29369]} نفسي بصاعين ، فانطلقت بصاع إلى أهلي/وجئت بصاع من تمر ، فلمزه المنافقون ، وقالوا : إن الله غني عن صياع هذا ، فنزل فيه : { والذين لا يجدون إلا جهدهم }{[29370]} .

قال ابن زيد{[29371]} : أمر النبي صلى الله عليه وسلم [ المسلمين ]{[29372]} أن يتصدقوا ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فألفى مالي{[29373]} ذلك كثير ، فأخذت نصفه ، فجئت أحمل مالا كثيرا ، فقال له رجل من المنافقين ، تُرائي{[29374]} يا عمر ، فقال : نعم أرائي الله ورسوله ، وأما غيرهما فلا ، وأتى رجل من الأنصار لم يكن عنده شيء ، فآجر نفسه بصاعين ، فترك صاعا لعياله ، وجاء بصاع يحمله ، فقال له بعض المنافقين : [ إن ]{[29375]} الله ورسوله عن صاعك لغنيان ، فأنزل الله عز وجل ، عذرهما في قوله : { الذين يلمزون }{[29376]} .

ثم قال لنبيه عليه السلام{[29377]} ، استغفر لهؤلاء المنافقين ، أي : ادع الله لهم بالمغفرة أو لا تدع لهم بذلك ، فلفظه لفظ الأمر ومعناه الجزاء ، والجزاء خبر{[29378]} .


[29353]:جامع البيان 14/381، 382.
[29354]:في الأصل: أي، وهو تحريف.
[29355]:في "ر": فسخروا، وهو تحريف.
[29356]:انظر: مشكل إعراب القرآن 1/334، وإعراب القرآن للنحاس 2/229، والبيان 1/403، والتبيان 2/652، وتفسير القرطبي 8/137، والبحر المحيط 5/76، 77.
[29357]:زيادة من "ر".
[29358]:في مجاز القرآن 1/264، "...مضموم ومفتوح سواء،...ويقال: جهد المقل وجهده". وفي معاني الزجاج 2/462، "..بالفتح والضم". وذكر الطبري في جامع البيان 14/393 أن المضموم لغة أهل الحجاز والمفتوح لغة نجد وختم كلامه بالقول: "وأما أهل العلم بكلام العرب من رواة الشعر وأهل العربية، فإنهم يزعمون أنها مفتوحة ومضمومة بمعنى واحد، وإنما اختلاف ذلك لاختلاف اللغة فيه، كما اختلفت لغاتهم في "الوَجد" و"الوُجد" بالضم والفتح، من"وجدت" انظر: معاني القرآن للفراء 1/447.
[29359]:في الأصل: بضم.
[29360]:انظر: غريب ابن قتيبة 190، واللسان/جهد. وفي المخطوطتين: الشقة وصوابه في تفسير المشكل من غريب القرآن 188.
[29361]:بضم السين وكسرها. المختار/سخر.
[29362]:معاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/463.
[29363]:زيادة من "ر".
[29364]:جامع البيان 14/382، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1850، وتفسير ابن كثير 2/375، والدر المنثور 4/250، كلها دون قوله: "فأنزل الله من شعير".
[29365]:زيادة من "ر".
[29366]:في الأصل: مسكت.
[29367]:جامع البيان 14/383، بأطول من هذا.
[29368]:انظر: زاد المسير 3/476، وتفسير ابن كثير 2/375.
[29369]:في "ر": آجر.
[29370]:تفسير عبد الرزاق الصنعاني 2/283، 284، وجامع البيان 14/383-386، بإسنادين، وأسباب النزول للواحدي 260، مع زيادة ونقصان في بعض ألفاظه، وينظر: تفسير ابن كثير 2/375، 376، ولباب النقول 210.
[29371]:في الأصل: يزيد، وهو تحريف.
[29372]:زيادة يقتضيها السياق من جامع البيان.
[29373]:في "ر": مال، وهو سهو ناسخ.
[29374]:في المخطوطتين: تراني، وهو تحريف.
[29375]:زيادة من "ر".
[29376]:جامع البيان 14/392، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1852، والدر المنثور 4/251، 252، باختلاف وزيادة في بعض ألفاظه.
[29377]:في "ر": صلى الله عليه وسلم.
[29378]:وهو اختيار الطبري في جامع البيان 14/394، والماوردي في النكت 2/285، 286 والبغوي في المعالم 4/79، وابن الجوزي في الزاد 3/477، انظر أحكام ابن العربي 2/990، 991، والمحرر الوجيز 3/64، وتفسير القرطبي 8/139، 140، والبحر المحيط 5/77، 78.