قوله تعالى : { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } الآية .
في " الذين يَلْمِزُونَ " أوجه :
أحدها : أنه مرفوعٌ على إضمار مبتدأ ، أي : هم الذين .
الثاني : أّنَّه في محل رفع بالابتداء ، و " مِنَ الُمؤمنينَ " حالٌ من " المطَّوِّعين " .
و " في الصَّدقاتِ " متعلق ب " يَلْمِزُونَ " ، و " الَّذينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ " المُطَّوِّعينَ " أي : يَعيبُونَ المياسير ، والفقراء . وقال مكيٌّ : " والَّذينَ " خفضٌ ، عطفاً على " المُؤمنينَ " ولا يَحْسُن عطفهُ على " المُطَّوِّعين " ؛ لأنه لمْ يتمَّ اسماً يعد ؛ لأنَّ " فَيَسْخَرُونَ " عطف على " يَلْمِزُونَ " هكذا ذكره النَّحاسُ في الإعراب له ، وهو عندي وهمٌ منه .
قال شهابُ الدِّين{[17995]} : " والأمر فيه كما ذكر ، فإنَّ " المُطَّوِّعينَ " قد تمَّ من غير احتياجٍ لغيره " .
وقوله : " فَيَسْخرُونَ " نسقٌ على الصِّلةِ ، وخبر المبتدأ : الجملةُ من قوله " سَخِرَ اللهُ منهُمْ " هذا أظهرُ إعراب قيل هنا .
وقيل : " والَّذينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ على " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ " ، ذكره أبُو البقاءِ وهذا لا يجُوزُ ؛ لأنَّهُ يلزمُ الإخبارُ عنهم بقوله : { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } ، وهذا لا يكون ، إلاَّ بأنْ كان " الَّذِينَ لا يَجِدُون " مُنافقينَ ، وأمَّا إذَا كانُوا مؤمنين ، كيف يسخرُ الله منهم ؟ . وقيل : " والَّذِينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ على " المُؤمنينَ " ، قاله أبُو البقاءِ .
قال أبُو حيَّان{[17996]} : " وهُو بعيدٌ جدّاً " . ووجهُ بعده : أنَّه يفهمُ أنَّ " الَّذِينَ لا يجدُونَ " ليسوا مؤمنين ؛ لأن أصل العطف الدلالةُ على المُغايرةِ ، فكأنَّنهُ قيل : يَلْمِزُونَ المطَّوِّعينَ من هذين الصنفين : المؤمنين ، والذين لا يجدُونَ فيكون " الَّذِينَ لا يجدون " مطَّوِّعين غير مؤمنين .
وقال أبُو البقاءِ{[17997]} : " فِي الصَّدقاتِ " متعلقٌ ب " يَلمِزُونَ " ، ولا يتعلَّق ب " المُطَّوِّعينَ " لئلاَّ يفصل بينهما بأجنبي . وهذا فيه نظر ؛ إذ قوله " مِنَ المؤمنينَ " حال ، والحالُ ليست بأجنبيّ ، وإنَّما يظهر في ردِّ ذلك أن " يطَّوَّع " إنَّما يتعدى بالياءِ ، لا ب " في " وكون " في " بمعنى " الباء " خلاف الأصل . وقيل : " فَيَسْخَرُونَ " خبرُ المبتدأ ودخلتِ الفاءُ ، لمَا تضمَّنهُ المبتدأ من معنى الشرط ، وفي هذا الوجه بُعدٌ من حيثُ إنَّه يقرُب من كون الخبر في معنى المبتدأ فإنَّ من عاب إنساناً وغمزهُ علم أنَّهُ يسخرُ منه فيكون كقولهم : " سَيِّدُ الجاريةِ مالِكُهَا " .
الثالث : أن يكون محلُّه نصباً على الاشتغال ، بإضمار فعل يُفسِّره " سَخِرَ اللهُ منهُم " من طريق المعنى ، نحو : عاب الذين يلمزُون ، سخر الله منهم .
الخامس : أن يكون مجروراً بدلاً من الضمير في " سِرَّهُم ونجْواهُمْ " .
وقرئ{[17998]} " يلْمُزون " بضم الميم ، وقد تقدَّم أنَّها لغة ، وقرأ الجمهور " جُهْدَهم " بضمِّ الجيمِ .
وقرأ ابنُ{[17999]} هرمز وجماعة " جَهْدهم " بالفتح . فقيل : لغتان بمعنى واحد . وقيل المفتوحُ المشقَّةُ والمضمومُ : الطَّاقةُ ، قالهُ القتيبيُّ ، وقيل : المضمومُ شيءٌ قيلٌ يعاشُ به والمفتوحُ : العملُ .
وقوله : { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } يحتملُ أن يكون خبراً محضاً ، وأن يكون دعاءً .
اعلم أنَّ هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة ، وهو لمزهم من يأتي بالصَّدقاتِ .
قال المفسِّرون : حثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الصَّدقةِ ؛ فجاء عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ بأربعة آلافِ درهم ، فقال : يا رسول الله ، مالي ثمانية آلاف درهم ، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله ، وأمسكتُ أربعة آلاف لعيالي .
فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أعْطيْتَ ، وفيمَا أمْسَكْتَ " {[18000]} فبارك اللهُ في مال عبد الرحمن ، حتَّى إنَّهُ خلف امرأتين يوم أن مات ؛ فبلغ ثمنُ ماله لهما مائة وستون ألفاً وتصدق يومئذ عاصمُ بن عدي العجلاني بمائة وسْقٍ من تمر .
وجاء أبُو عقيلٍ الأنصاري واسمه الحبحاب ، بصاعٍ من تمرٍ ، وقال : يا رسُول الله بتُّ ليلتي أجر بالجرير حتى نلتُ صاعين من تمرٍ ؛ فأمسكتُ أحدهما لعيالي ، وجئتُ بالآخر ؛ فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصَّدقاتِ ؛ فلمزهم المنافقُون ، وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاَّ رياءً ، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنَّهُ أحب أن يزكي نفسه ليعطى من الصَّدقات ؛ فأنزل الله تعالى : " الَّذِينَ يلْمِزُون " أي : يعيبون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات ، يعني : عبد الرحمن بن عوف وعاصماً ، { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } أي : طاقتهم .
والجُهْدُ : شيء قليلٌ يعيش به المقلُّ ، والجهد بالفتح ، والجُهْد بالضمِّ بمعنى واحد يعني : أبا عقيل : " فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ " يستهزئون منهم ، { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } أي : جازاهم على السخرية ، وقال الأصمُّ : المرادُ أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروهُ من أعمال البرِّ مع أنَّهُ لا يثيبهم عليها ؛ فكان ذلك كالسخرية ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.