اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

قوله تعالى : { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } الآية .

في " الذين يَلْمِزُونَ " أوجه :

أحدها : أنه مرفوعٌ على إضمار مبتدأ ، أي : هم الذين .

الثاني : أّنَّه في محل رفع بالابتداء ، و " مِنَ الُمؤمنينَ " حالٌ من " المطَّوِّعين " .

و " في الصَّدقاتِ " متعلق ب " يَلْمِزُونَ " ، و " الَّذينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ " المُطَّوِّعينَ " أي : يَعيبُونَ المياسير ، والفقراء . وقال مكيٌّ : " والَّذينَ " خفضٌ ، عطفاً على " المُؤمنينَ " ولا يَحْسُن عطفهُ على " المُطَّوِّعين " ؛ لأنه لمْ يتمَّ اسماً يعد ؛ لأنَّ " فَيَسْخَرُونَ " عطف على " يَلْمِزُونَ " هكذا ذكره النَّحاسُ في الإعراب له ، وهو عندي وهمٌ منه .

قال شهابُ الدِّين{[17995]} : " والأمر فيه كما ذكر ، فإنَّ " المُطَّوِّعينَ " قد تمَّ من غير احتياجٍ لغيره " .

وقوله : " فَيَسْخرُونَ " نسقٌ على الصِّلةِ ، وخبر المبتدأ : الجملةُ من قوله " سَخِرَ اللهُ منهُمْ " هذا أظهرُ إعراب قيل هنا .

وقيل : " والَّذينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ على " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ " ، ذكره أبُو البقاءِ وهذا لا يجُوزُ ؛ لأنَّهُ يلزمُ الإخبارُ عنهم بقوله : { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } ، وهذا لا يكون ، إلاَّ بأنْ كان " الَّذِينَ لا يَجِدُون " مُنافقينَ ، وأمَّا إذَا كانُوا مؤمنين ، كيف يسخرُ الله منهم ؟ . وقيل : " والَّذِينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ على " المُؤمنينَ " ، قاله أبُو البقاءِ .

قال أبُو حيَّان{[17996]} : " وهُو بعيدٌ جدّاً " . ووجهُ بعده : أنَّه يفهمُ أنَّ " الَّذِينَ لا يجدُونَ " ليسوا مؤمنين ؛ لأن أصل العطف الدلالةُ على المُغايرةِ ، فكأنَّنهُ قيل : يَلْمِزُونَ المطَّوِّعينَ من هذين الصنفين : المؤمنين ، والذين لا يجدُونَ فيكون " الَّذِينَ لا يجدون " مطَّوِّعين غير مؤمنين .

وقال أبُو البقاءِ{[17997]} : " فِي الصَّدقاتِ " متعلقٌ ب " يَلمِزُونَ " ، ولا يتعلَّق ب " المُطَّوِّعينَ " لئلاَّ يفصل بينهما بأجنبي . وهذا فيه نظر ؛ إذ قوله " مِنَ المؤمنينَ " حال ، والحالُ ليست بأجنبيّ ، وإنَّما يظهر في ردِّ ذلك أن " يطَّوَّع " إنَّما يتعدى بالياءِ ، لا ب " في " وكون " في " بمعنى " الباء " خلاف الأصل . وقيل : " فَيَسْخَرُونَ " خبرُ المبتدأ ودخلتِ الفاءُ ، لمَا تضمَّنهُ المبتدأ من معنى الشرط ، وفي هذا الوجه بُعدٌ من حيثُ إنَّه يقرُب من كون الخبر في معنى المبتدأ فإنَّ من عاب إنساناً وغمزهُ علم أنَّهُ يسخرُ منه فيكون كقولهم : " سَيِّدُ الجاريةِ مالِكُهَا " .

الثالث : أن يكون محلُّه نصباً على الاشتغال ، بإضمار فعل يُفسِّره " سَخِرَ اللهُ منهُم " من طريق المعنى ، نحو : عاب الذين يلمزُون ، سخر الله منهم .

الرابع : أنْ ينصب على الشتم .

الخامس : أن يكون مجروراً بدلاً من الضمير في " سِرَّهُم ونجْواهُمْ " .

وقرئ{[17998]} " يلْمُزون " بضم الميم ، وقد تقدَّم أنَّها لغة ، وقرأ الجمهور " جُهْدَهم " بضمِّ الجيمِ .

وقرأ ابنُ{[17999]} هرمز وجماعة " جَهْدهم " بالفتح . فقيل : لغتان بمعنى واحد . وقيل المفتوحُ المشقَّةُ والمضمومُ : الطَّاقةُ ، قالهُ القتيبيُّ ، وقيل : المضمومُ شيءٌ قيلٌ يعاشُ به والمفتوحُ : العملُ .

وقوله : { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } يحتملُ أن يكون خبراً محضاً ، وأن يكون دعاءً .

فصل

اعلم أنَّ هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة ، وهو لمزهم من يأتي بالصَّدقاتِ .

قال المفسِّرون : حثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الصَّدقةِ ؛ فجاء عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ بأربعة آلافِ درهم ، فقال : يا رسول الله ، مالي ثمانية آلاف درهم ، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله ، وأمسكتُ أربعة آلاف لعيالي .

فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أعْطيْتَ ، وفيمَا أمْسَكْتَ " {[18000]} فبارك اللهُ في مال عبد الرحمن ، حتَّى إنَّهُ خلف امرأتين يوم أن مات ؛ فبلغ ثمنُ ماله لهما مائة وستون ألفاً وتصدق يومئذ عاصمُ بن عدي العجلاني بمائة وسْقٍ من تمر .

وجاء أبُو عقيلٍ الأنصاري واسمه الحبحاب ، بصاعٍ من تمرٍ ، وقال : يا رسُول الله بتُّ ليلتي أجر بالجرير حتى نلتُ صاعين من تمرٍ ؛ فأمسكتُ أحدهما لعيالي ، وجئتُ بالآخر ؛ فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصَّدقاتِ ؛ فلمزهم المنافقُون ، وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاَّ رياءً ، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنَّهُ أحب أن يزكي نفسه ليعطى من الصَّدقات ؛ فأنزل الله تعالى : " الَّذِينَ يلْمِزُون " أي : يعيبون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات ، يعني : عبد الرحمن بن عوف وعاصماً ، { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } أي : طاقتهم .

والجُهْدُ : شيء قليلٌ يعيش به المقلُّ ، والجهد بالفتح ، والجُهْد بالضمِّ بمعنى واحد يعني : أبا عقيل : " فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ " يستهزئون منهم ، { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } أي : جازاهم على السخرية ، وقال الأصمُّ : المرادُ أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروهُ من أعمال البرِّ مع أنَّهُ لا يثيبهم عليها ؛ فكان ذلك كالسخرية ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .


[17995]:ينظر: الدر المصون 3/486.
[17996]:ينظر: البحر المحيط 5/77.
[17997]:ينظر: الإملاء 2/19.
[17998]:ينظر: الكشاف 2/293، المحرر الوجيز 3/63، البحر المحيط 5/76، الدر المصون 3/486.
[17999]:ينظر: السابق.
[18000]:تقدم تخريجه وهو حديث تصدق عبد الرحمن بن عوف بأمواله لنصرة جيش المسلمين.