البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

{ والذين يلمزون المطوِّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } : نزلت فيمن عاب المتصدقين .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة ، فتصدّق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف وأمسك مثلها ، فبارك له الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمسك وفيما أعطى .

وتصدق عمر بنصف ماله ، وعاصم بن عدي بمائة وسق ، وعثمان بصدقة عظيمة ، وأبو عقيل الأرلشي بصاع تمر ، وترك لعياله صاعاً ، وكان آجر نفسه لسقي نخيل بهما ، ورجل بناقة عظيمة قال : هي وذو بطنها صدقة يا رسول الله ، وألقى إلى الرسول خطامها فقال المنافقون : ما تصدق هؤلاء إلا رياء وسمعة ، وما تصدّق أبو عقيل إلا ليذكر مع الأكابر ، أو ليذكر بنفسه فيعطي من الصدقات ، والله غني عن صاعه .

وقال بعضهم : تصدق بالناقة وهي خير منه .

وكان الرجل أقصر الناس قامة وأشدهم سواداً ، فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : قل هو خير منك ، ومنها يقولها ثلاثاً .

وأصل المطوعين المتطوعين ، فأدغمت التاء في الطاء ، وهم المتبركون كعبد الرحمن وغيره .

والذين لا يجدون إلا جهدهم هم مندرجون في المطوعين ، ذكروا تشريفاً لهم ، حيث ما فاتتهم الصدقة بل تصدقوا بالشيء ، وإن كانوا أشد الناس حاجة إليه ، وأتعبهم في تحصيل ما تصدقوا به كأبي عقيل ، وأبي خيثمة ، وكان قد لمز في التصدق بالقليل ونظر أيهما .

وكان أبو علي الفارسي يذهب إلى أنّ المعطوف في هذا وشبهه لم يندرج فيما عطف عليه قال : لأنه لا يسوغ عطف الشيء على مثله .

وكذلك كان يقول في وملائكته ورسله وجبريل وميكال ، وفي قوله : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } وإلى هذا كان يذهب تلميذه ابن جني ، وأكثر الناس على خلافهما .

وتسمية بعضهم التجريد ، جردوا بالذكر على سبيل التشريف ، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وقرأ ابن هرمز وجماعة : جهدهم بالفتح .

فقيل : هما لغتان بمعنى واحد .

وقال القتبي بالضم الطاقة ، وبالفتح المشقة .

وقال الشعبي : بالضم القوت ، وبالفتح في العمل .

وقيل : بالضم شيء قليل يعاش به .

والأحسن في الإعراب أن يكون الذين يلمزون مبتدأ ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون ، والذين لا يجدون معطوف على المطوعين ، كأنه قيل : يلمزون الأغنياء وغيرهم .

وفيسخرون معطوف على يلمزون ، وسخر الله منهم وما بعده خبر عن الذين يلمزون .

وذكر أبو البقاء أن قوله : والذين لا يجدون ، معطوف على الذين يلمزون ، وهذا غير ممكن ، لأن المعطوف على المبتدأ مشارك له في الخبر ، ولا يمكن مشاركة الذين لا يجدون إلا جهدهم مع الذين يلمزون إلا إن كانوا مثلهم نافقين .

قال : وقيل : والذين لا يجدون معطوف على المؤمنين ، وهذا بعيد جداً .

قال : وخبر الأول على هذه الوجوه فيه وجهان : أحدهما فيسخرون .

ودخلت الفاء لما في الذين من التشبيه بالشرط انتهى هذا الوجه .

وهذا بعيد ، لأنه إذ ذاك يكون الخبر كأنه مفهوم من المبتدأ ، لأنّ من عاب وغمز أحداً هو ساخر منه ، فقرب أن يكون مثل سيد الجارية مالكها ، وهو لا يجوز .

قال : والثاني : أن الخبر سخر الله منهم ، قال : وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون الذين يلمزون في موضع نصب بفعل محذوف يفسره سخر ، تقديره عاب الذين يلمزون .

وقيل : الخبر محذوف تقديره : منهم الذين يلمزون .

وقال أبو البقاء أيضاً : من المؤمنين حال من الضمير في المطوعين ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون ، ولا يتعلق بالمطوعين لئلا يفصل بينهما بأجنبي انتهى .

وليس بأجنبي لأنه حال كما قرر ، وإذا كان حالاً جاز الفصل بها بين العامل فيها ، وبين المعمول أخر ، لذلك العامل نحو : جاءني الذي يمر راكباً بزيد .

والسخرية : الاستهزاء .

والظاهر أن قوله : سخر الله منهم خبر لفظاً ومعنى ، ويرجحه عطف الخبر عليه .

وقيل : صيغته خبر ، ومعناه الدعاء .

ولما قال : فيسخرون منهم قال : سخر الله منهم على سبيل المقابلة ، ومعناه : أمهلهم حتى ظنوا أنه أهملهم .

قال ابن عباس : وكان هذا في الخروج إلى غزوة تبوك .

وقيل : معنى سخر الله منهم جازاهم على سخريتهم ، وجزاء الشيء قد يسمى باسم الشيء كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } قال ابن عطية : تسمية للعقوبة باسم الذنب ، وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم انتهى .

وهو قريب من القول الذي قبله .

وقال الأصم : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقبل معاذيرهم الكاذبة في الظاهر ، ووبال فعلهم عليهم كما هو ، فكأنه سخر منهم ولهذا قال : ولهم عذاب أليم ، وهو عذاب الآخرة المقيم انتهى .

وفي هذه الآية دلالة على أن لمز المؤمن والسخرية منه من الكبائر ، لما يعقبهما من الوعيد .