137- وكما زيَّنَتْ لهم أوهامهم تلك القسمة الظالمة لما خلق الله من حرث وإبل وبقر وغنم ، قد زيَّنَتْ لهم أوهامهم في الأوثان التي زعموها شركاء لله قتْل أولادهم عند الولادة ، وأن يُنذروا لآلهتهم ذبح أولادهم ، وإن تلك الأوهام تُرديهم وتخلط عليهم أمر الدين ، فلا يدركونه على وجهه ، وإذا كانت الأوهام لها ذلك السلطان على عقولهم ، فاتركهم وما يفترونه على الله تعالى وعليك وسينالون عقاب ما يفترون ، وتلك مشيئة الله ، فلو شاء ما فعلوا .
أما الرزيلة الثانية فهى أن كثيراً منهم كانوا يقتلون أولادهم ، ويئدون بناتهم لأسباب لا تمت إلى العقل السليم بصلة وقد حكى القرآن ذلك فى قوله .
{ وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } .
أى : ومثل ذلك التزيين فى قسمة الزروع والأنعام بين الله والأوثان ، زين للمشركين شركاؤهم من الشياطين أو السدنة قتل بناتهم خشية العار أو الفقر فأطاعوهم فيما أمروهم به من المعاصى والآثام .
والتزيين : التحسين ، فمعنى تزيينهم لهم أنهم حسنوا لهم هذه الأفعال القبيحة ، وحضوهم على فعلها .
سموا شركاء لأنهم اطاعوهم فيما أمروهم به من قتل الأولاد ، فأشركوهم مع الله فى وجوب طاعتهم ، أو سموا شركاء لأنهم كانوا يشاركون الكفار فى أموالهم التى منها الحرث والأنعام .
و { شُرَكَآؤُهُمْ } فاعل { زَيَّنَ } وأخر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدم واهتماما به ، لأنه موضع التعجب .
وقوله : { لِيُرْدُوهُمْ } أى ليهلكوهم ؛ من الردى وهو الهلاك . يقال ردى - كرضى - أى : هلك .
وقوله : { وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } معطوف على ليردوهم ، أى : ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين اسماعيل - عليه السلام - حتى زالوا عنه إلى الشرك .
ويلبسوا مأخوذ من اللبس بمعنى الخلط بين الأشياء التى يشبه بعضها بعضاً وأصله التسر بالثوب ، ومنه اللباس ، ويستعمل فى المعانى فيقال : لبس الحق بالباطل يلبسه ستره به . ولبست عليه الأمر . خلطته عليه وجعلته مشتبها حتى لا يعرف جهته ، فأنت ترى أن شركاءهم قد حسنوا لهم القبيح من أجل أمرين : إهلاكهم وإدخال الشبهة عليهم فى دينهم عن طريق التخليط والتلبيس . ثم سلى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهدد أعداءه فقال : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } .
أى : ولو شاء الله ألا يفعل الشركاء ذلك التزيين أو المشركون ذلك القتل لما فعلوه ، لأنه - سبحانه - لا يعجزه شىء ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات بسبب ما يفعلونه ، بل دعهم وما يفترونه من الكذب ، فإنهم لسوء استعدادهم آثروا الضلالة على الهداية .
والفاء فى قوله { فَذَرْهُمْ } فصيحة . أى : إذا كان ما قصصناه عليك بمشيئة الله ، فدعهم وافتراءهم ولا تبال بهم ، فإن فيما يشاؤه الله حكما بالغة .
«الكثير » في هذه الآية يراد به من كان يئد من مشركي العرب ، و «الشركاء » ها هنا الشياطين الآمرون بذلك المزينون له والحاملون عليه أيضاً من بني آدم الناقلين له عصراً بعد عصر إذ كلهم مشتركون في قبح هذا الفعل وتباعته في الآخرة ، ومقصد هذه الآية الذم للوأد والإنحاء على فعَلته ، واختلفت القراءة فقرأت الجماعة سوى ابن عامر «وكذلك زَين » بفتح الزاي «قتلَ » بالنصب «أولادِهم » بكسر الدال «شركاؤهم » ، وهذا أبين قراءة ، وحكى سيبويه أنه قرأت فرقة «وكذلك زُين » بضم الزاي «قتل أولادِهم » بكسر الدال «شركاؤهم » بالرفع .
قال القاضي أبو محمد : وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن وأبي عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر ، كأنه قال : زينه شركاؤهم قال سيبويه : وهذا كما قال الشاعر : [ الطويل ]
ليبك يزيد ضارعٌ لخصومة . . . ومختبط مما يطيح الطوائح{[5108]}
كأنه قال يبكيه ضارع لخصومة ، وأجاز قطرب أن يكون الشركاء في هذه القراءة ارتفعوا بالقتل كأن المصدر أضيف إلى المفعول ، ثم ذكر بعده الفاعل كأنه قال إن قتل أولادهم شركاؤهم كما تقول حبب إليَّ ركوب الفرس زيد أي ركب زيد الفرس .
قال القاضي أبو محمد : والفصيح إذا أضيف مصدر إلى مفعول أن لا يذكر الفاعل ، وأيضاً فالجمهور في هذه الآية على أن الشركاء مزينون لا قاتلون ، والتوجيه الذي ذكر سيبويه هو الصحيح ، ومنه قوله عز وجل على قراءة من قرأ { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال }{[5109]} بفتح الباء المشددة أي «يسبَّح رجال » وقرأ ابن عامر «وكذلك زُين » بضم الزاي «قتلُ » بالرفع «أولادَهم » بنصب الدال «شركائِهم » بخفض الشركاء ، وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب ، وذلك أنه أضاف القتل إلى الفاعل وهو الشركاء ، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله [ أبو حية النميري ] : [ الوافر ]
كما خُطَّ بكفِّ يوماً . . . يهوديَّ يقارِبُ أو يزيلُ{[5110]}
فكيف بالمفعول في أفصح الكلام ؟ ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش وهو : [ مجزوء الكامل ]
فَزَجَجْتُهُ بِمِزَجَّةٍ . . . زَجَّ القُلُوصَ أبي مزادة{[5111]}
وفي بيت الطرماح وهو قوله : [ الطويل ]
يطفن بحوزيّ المرابعِ لَمْ يُرَعْ . . . بواديهِ من قَرْعِ القِسِيُّ الكنائِن{[5112]}
والشركاء على هذه القراءة هم الذين يتأولون وأد بنات الغير فهم القاتلون ، والصحيح من المعنى أنهم المزينون لا القاتلون ، وذلك مضمن قراءة الجماعة .
وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر «زِيْن » بكسر الزاي وسكون الياء على الرتبة المتقدمة من الفصل بالمفعول ، وحكى الزهراوي أنه قرأت فرقة من أهل الشام «وكذلك زُين » بضم الزاي «قتلُ » بالرفع «أولادِهم » بكسر الدال «وشركائِهم » بالخفض والشركاء على هذه القراءة هم الأولاد الموءودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث ، وكأن وصفهم بأنهم شركاء يتضمن حرمة لهم وفيها بيان لفساد الفعل إذ هو قتل من له حرمة .
و { ليردوهم } معناه ليهلكوهم من الردى ، { وليلبسوا } معناه ليخلطوا ، والجماعة على كسر الباء ، وقرأ إبراهيم النخعي «وليَلبسوا » بفتح الباء ، قال أبو الفتح : هي استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة ، وهذان الفعلان يؤيدان أول قراءة في ترتيبنا في قوله { وكذلك زين } . وقوله تعالى : { ولو شاء الله ما فعلوه } يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة الله عز وجل ، وفيها رد على من قال بأن المرء يخلق أفعاله ، وقوله تعالى : { فذرهم } وعيد محض ، و { يفترون } معناه يختلقون من الكذب في تشرعهم بذلك واعتقادهم أنها مباحات لهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكذلك}، يعني وهكذا، {زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم}، كما زينوا لهم تحريم الحرث والأنعام، يعني دفن البنات وهن أحياء، {ليردوهم}، يعني ليهلكوهم، {وليلبسوا عليهم}، يعني وليخلطوا عليهم، {دينهم ولو شاء الله ما فعلوه}، يقول: لو شاء الله لمنعهم من ذلك، {فذرهم}، يعني فخل عنهم، {وما يفترون} من الكذب، لقولهم في الأعراف: {والله أمرنا بها} (الأعراف: 28)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكما زيّن شركاء هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام لهم ما زينّوا لهم، من تصييرهم لربهم من أموالهم قسما بزعمهم، وتركهم ما وصل من القسم الذي جعلوه لله إلى قسم شركائهم قسمهم، وردّهم ما وصل من القسم الذي جعلوه لشركائهم إلى قسم نصيب الله إلى قسم شركائهم، "كَذَلِكَ زَيّنَ لكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ "من الشياطين، فحسنوا لهم وأد البنات، "لِيُرْدُوهُمْ" يقول: ليهلكوهم، "وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ" فعلوا ذلك بهم ليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس، فيضلوا ويهلكوا بفعلهم ما حرّم عليهم الله. ولو شاء الله أن لا يفعلوا ما كانوا يفعلون من قتلهم لم يفعلوه، بأن كان يهديهم للحقّ ويوفّقهم للسداد، فكانوا لا يقتلونهم، ولكن الله خذلهم عن الرشاد فقتلوا أولادهم وأطاعوا الشياطين التي أغوتهم. يقول الله لنبيه متوعدا لهم على عظيم فريتهم على ربهم فيما كانوا يقولون في الأنصباء التي يقسمونها هذا لله وهذا لشركائنا وفي قتلهم أولادهم: ذرهم يا محمد وما يفترون وما يتقوّلون عليّ من الكذب والزور، فإني لهم بالمرصاد، ومن وراء العذاب والعقاب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وأصله: أن الشفقة التي جعل اللَّه في الخلق لأولادهم والرحمة التي جبلت طبائعهم عليها تمنعهم عن قتلهم، وخاصة أولادهم الضعفاء والصغار، وكذلك الشهوة التي خلق فيهم تمنعهم عن تحريم ما أحل اللَّه لهم، لكن زين لهم ذلك شركاؤهم، وحسنوا عليهم تحريم ما أحل لهم وقتل أولادهم، فما حسن عليهم الشركاء وزين لهم من تحريم ما أحل لهم وقتل أولادهم غلب على الشفقة التي جبلت فيهم، والشهوة التي خلق ومكن فيهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...والمعنى: أن شركاءهم من الشياطين، أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم بالوأد، أو بنحرهم للآلهة وكان الرجل في الجاهلية يحلف: لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنّ أحدهم، كما حلف عبد المطلب... ودينهم: ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك. وقيل: دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل معناه وليوقعوهم في دين ملتبس.
فإن قلت: ما معنى اللام؟ قلت: إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة. {وَلَوْ شَاء الله} مشيئة قسر {مَّا فَعَلُوهُ} لما فعل المشركون ما زين لهم من القتل. أو لما فعل الشياطين أو السدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا متضمناً لأنهم نقصوا أموالهم بأنفسهم في غير طائل فجعلوها لمن لا يستحقها، نبه تعالى على أن ذلك تزيين من أضلهم من الشياطين من سدنة الأصنام وغيرهم من الإنس ومن الجن... فقال منبهاً على أنهم زينوا لهم ما هو أبين منه {وكذلك} أي ومثل ما زين لجميع المشركين تضييع أموالهم والكفر بربهم شركاؤهم {زين لكثير من المشركين}. ولما كان المزين لخسته أهل لأن لا يقبل تزيينه ولا يلتفت إليه، فكان امتثال قوله غريباً، وكان الإقدام على فعل الأمر المزين أشد غرابة، قدمه تنبيهاً على ذلك فقال: {قتل أولادهم} أي بالوأد خشية الإملاق والنحر لآلهتهم، وشتان بين من يوجد لهم الولد ويرزقه والرزق ويخلقه وبين من لا يكون إلا سبباً في إعدامه؛ ولما كان في هذا غاية الغرابة تشوفت النفس إلى فاعل التزيين فقال: {شركاؤهم} أي وهم أقل منهم بما يخاطبون به من أجواف الأصنام وبما يحسن لهم السدنة والأهوية بسبب الأصنام... وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول -وهو الأولاد- لأن وقوع القتل فيهم كما تقدم أعجب. ولما كان ذلك ربما كان لفائدة استهين لها هذا الفعل العظيم، ذكر أنه ليس له فائدة إلا الهلاك في الدنيا والدين الذي هو هلاك في الآخرة ليكون ذلك أعجب فقال: {ليردوهم} أي ليهلكوهم هلاكاً لا فائدة فيه بوجه {وليلبسوا} أي يخلطوا ويشبهوا {عليهم دينهم} أي وهو دين إبراهيم الذي أمره الله بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام فما أقدم عليه إلاّ بأمر الله ثم إنه فداه ولم يمض ذبحه، فخالف هؤلاء عن أمر الشركاء الأمرين معاً فجمعوا لهم بذلك بين إهلاكين: في النفس والدين، فإن القتل في نفسه عظيم جداً، ووقوعه تديناً بغير أصل ولا شبهة أعظم، فلا أضل ممن تبع من كان سبباً لإهلاك نفسه ودينه. ولما كان العرب يدّعون الأذهان الثاقبة والأفكار الصافية والآراء الصائبة والعقول الوافرة النافذة، ذكر لهم ذلك على سبيل التعليل استهزاء بهم، يعني أنهم فعلوا ذلك لهذه العلة فلم يفطنوا بهم ولم يدركوا ما أرادوا بكم مع أنهم حجارة، فأنتم أسفل منهم؛ ولما أثبت للشركاء فعلاً هو التزيين، وكان قد نفي سابقاً عنهم وعن سائر أعداء الأنبياء الاستقلال به، وأناط الأمر هناك -لأن السياق للأعداء- بصفة الربوبية المقتضية للحياطة والعناية، وكان الكلام هنا في خصوص الشركاء، علق الأمر باسم الذات الدال على الكمال المقتضي للعظمة والجبروت والكبر وسائر الأسماء الحسنى على وجه الإحاطة والجلال فقال: {ولو شاء الله} أي بما له من العظمة والإحاطة بجميع أوصاف الكمال المقتضية للعلو عن الأنداد والتنزه عن الشركاء والأولاد أن لا يفعله المشركون {ما فعلوه} أي ذلك الذي زين لهم، بل ذلك إنما هو بإرادته ومشيئته احتراساً من ظن أنهم يقدرون على شيء استقلالاً، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً، وأكد التسلية بقوله: {فذرهم وما يفترون} أي يتقولون من الكذب ويتعمدونه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} هذا حكم آخر مما كانوا عليه من أعمال الشرك التي لا يستحسنها عقل سليم، ولم تستند إلى شرع إلهي قويم، أي ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله تعالى وبين آلهتهم زين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم. فأما الشركاء هنا فقيل هم سدنة الآلهة وخدمها وقيل بل هم الشياطين الذين يوسوسون لهم ما يزين ذلك في أنفسهم وإنما سمي كل منهما شريكا لأنه يطاع ويدان له فيما لا يطاع به إلا الله تعالى ولهذا التزيين وجوه:
أحدهما: اتقاء الفقر الواقع أو المتوقع فالأول هو ما بينه الله تعالى بقوله: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} (الأنعام 151) والثاني: ما بينه بقوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} (الإسراء 31) وقدم في الأول رزق الوالدين على رزق الأولاد لأن الولد الصغير تابع لوالده في الرزق الحال، وقدم في الثاني رزق الأولاد على رزق الوالدين لتعلقه بالمستقبل وكثيرا ما يعجز فيه الآباء عن كسب الرزق ويحتاجون إلى إنفاق أولادهم عليهم.
والوجه الثاني: اتقاء العار وهو خاص بوأد البنات أي دفنهن حيات خشية أن يكن سببا للعار إذا كبرن، فهم يصورون البنت لوالدها الجبار العاتي ترتكب الفاحشة، أو تقترن بزوج دونه في الشرف والكرامة فتلحقه الخسة، أو تُسبَى في القتال.
والوجه الثالث: التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر، وكان الرجل ينذر في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب وخبره معروف يذكر في قصص المولد النبوي. ولولا الشرك الذي يفسد العقول لما راجت هذه الوسوسة عندهم ولذلك عبر عنهم هنا بوصف (المشركين) في مقام الإضمار لأن الكلام السابق فيهم. وسمى المزينين لهم ذلك من شياطين الإنس كالسدنة أو الجن شركاء وإن لم يسموهم هم آلهة أو شركاء لأنهم أطاعوهم طاعة إذعان ديني في التحليل والتحريم، وهو خاص بالرب المعبود، كما ورد مرفوعا في تفسير {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} (التوبة 31) فإن مقتضى الفعل الإذعاني أقوى دلالة من مدلول القول اللساني لكثرة الكذب في هذا دون ذاك...
ثم علل هذا التزيين بقوله تعالى: {لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} أي زينوا لهم هذه المنكرات ليردوهم أي يهلكوهم بالإغواء وهو إفساد الفطرة، الذي يذهب بما أودع في قلوب الوالدين من عواطف الرأفة والرحمة. بل يقلبها على منتهى الوحشية والقسوة، حتى ينحر الوالد ريحانه قلبه بمديته، ويدفن بنته الضعيفة وهي حية بيده، فهذا إرداء نفسي معنوي فوق الإرداء الحسي وهو القتل، وتقليل النسل: وأما لبس دينهم عليهم فالمراد بالدين فيه ما كانوا يدعونه من دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام، وقد اشتبه واختلط عليهم بما ابتدعوه من هذه التقاليد الشركية حتى لم يعد يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات الشركية التي لا تزال تبتدع، فاللبس الخلط بين الشيئين أو الأشياء الذي يشتبه فيه بعضها ببعض، وقيل إن المراد دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه، وقيل ليوقعوهم في دين ملتبس مشتبه لا تتجلى فيه حقيقة، ولا تخلص فيه هداية. وهذا التعليل ظاهر على القول بأن الشركاء شياطين الجن وتزيينهم وسوستهم. وأما على القول بأن الشركاء هم سدنة الآلهة فاللام للعاقبة والصيرورة لأن السدنة لا تقصد الإرداء لهم ولبس الدين عليهم، كذا قيل وهو ظاهر في الإرداء، ولا يصح على إطلاقه في لبس الدين فإن كثيرا من السدنة والكهنة يقصدون العبث بدين من يتبعهم ويدين لهم التذاذا بطاعتهم واستعلاء بالرياسة فيهم.
قال تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي ولو شاء الله تعالى ألا يفعل الشركاء ذلك التزيين أو المشركون ذلك القتل لما فعلوه وذلك بأن يغير خلقهم وسننه الحكمية فيهم ولكنه أخبرنا بأنه لا تبديل لخلقه ولا لسننه، أو بأن يخلق الناس من أول الأمر مطبوعين على عبادة الله تعالى طبعا لا يستطيعون غيره كالملائكة فلا يؤثر فيهم إغواء بل لا تتوجه إليهم وسوسة لعدم استعدادهم لقبولها، ولكنه شاء أن يخلق الناس مستعدين للتأثر بكل ما يريد على أنفسهم من المعلومات الحسية والفكرية ولا اختيار ما يترجح في أنفسهم أنه خير لهم على ما يقابله، ولأجل هذا يغلب على كل إنسان ما رسخ في نفسه بالتعليم والاستنباط وتأثير المعاشرة والاختلاط، فيكون عليه اعتماده في ترجيح بعض الأعمال على بعض، والناس متفاوتون في هذا استعدادا واستفادة فلا يمكن أن يكونوا على دين واحد أو رأي واحد، فدع أيها الرسول هؤلاء المفترين على الله بانتحال ما لم يشرعه له وما يفترونه من العقائد والأعمال المستندة إليها وعليك بما أمرت به من التبليغ، ولله تعالى سنن في الاهتداء لا تتغير ولا تتبدل، فلا يحزنك أمرهم، فإن من سنته أن يغلب حقك باطلهم.
هذا معنى الآية الموافق لكتاب الله ومقتضى صفاته وسننه في خلقه التي أخبر بأنها لا تبديل لها ولا تحويل، وليس معناها أن مشيئة الله تعالى قد تعلقت بأن يقتل هؤلاء أولادهم تعلقا ابتدائيا بأن يكون أمرا خلقيا كدوران الدم في البدن لا اختيار لهم فيه ولا يستطيعون سبيلا إلى تركه، كيف وقد وصفهم في الآية الآتية بأنهم يفعلونه سفها بغير علم وقد تركوا هذا السفه والجهل بهداية الإسلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... فهذه حكاية نوع من أنواع تشريعاتهم الباطلة، وهي راجعة إلى تصرّفهم في ذُرّيَّاتهم بعد أن ذكر تصرّفاتهم في نتائج أموالهم. ولقد أعظم الله هذا التّزيين العجيب في الفساد الّذي حَسَّن أقبح الأشياء وهو قتْلهم أحبّ النّاس إليهم وهم أبناؤهم، فشبه بنفس التزيين للدّلالة على أنّه لو شاء أحد أن يمثّله بشيء في الفظاعة والشّناعة لم يَسَعْه إلاّ أن يشبهه بنفسه لأنَّه لا يبلغ شيء مبلغ أن يكون أظهرَ منه في بابه، فيلجأ إلى تشبيهه بنفسه، على حدّ قولهم « والسّفاهة كاسمها». والتّقدير: وزيّن شركاء المشركين لكثير فيهم تزييناً مثل ذلك التّزيين الّذي زيّنوه لهم، وهُو هُو نفسه، وقد تقدّم تفصيل ذلك عند قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} في سورة [البقرة: 143].
ومعنى التّزيين: التّحسين، وتقدّم عند قوله تعالى: {كذلك زيَّنَّا لكلّ أمّة عملهم} في هذه السورة [108]. ومعنى تزيين ذلك هنا أنَّهم خيَّلوا لهم فوائد وقُرَباً في هذا القتل، بأن يُلقوا إليهم مَضرّة الاستجداء والعار في النّساء، وأنّ النّساء لا يرجى منهنّ نفع للقبيلة، وأنَّهنّ يُجَبِّنّ الآباء عند لقاء العدوّ، ويؤثرن أزواجهن على آبائهن، فقتلهنّ أصلَحُ وأنفع من استبقائهن، ونحوَ هذا من الشّبه والتّمويهات، فيأتونهم من المعاني الّتي تروج عندهم، فإنّ العرب كانوا مُفرطين في الغيرة، والجموح من الغلب والعار... وإنَّما قال: {لكثير من المشركين} لأنّ قتل الأولاد لم يكن يأتيه جميع القبائل، وكان في ربيعة ومضر، وهما جمهرة العرب، وليس كلّ الآباء من هاتين القبيلتين يفعله.
وأسند التّزيين إلى الشّركاء: إمّا لإرادة الشّياطين الشّركاءِ، فالتّزيين تزيين الشّياطين بالوسوسة، فيكون الإسناد حقيقة عقليّة، وإمّا لأنّ التّزيين نشأ لهم عن إشاعة كبرائهم فيهم، أو بشرع وضعه لهم مَن وضَع عبادة الأصنام وفرض لها حقوقاً في أموالهم مثل عَمْرو بن لُحَي، فيكون إسناد التّزيين إلى الشّركاء مجازاً عقلياً لأنّ الأصنام سبب ذلك بواسطةٍ أو بواسطتين، وهذا كقوله تعالى: {فما أغنت عنهم آلِهَتُهم التي يَدْعُون من دون الله من شيء لمّا جاء أمر ربّك وما زادوهم غير تتبيب} [هود: 101].
والمعنيّ بقتل الأولاد في هذه الآية ونحوها هو الوأْد، وهو دفن البنات الصغيرات أحياء فيمتن بغمّة التّراب، كانوا يفعلون ذلك خشية الفقر، كما قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خَشيةَ إملاق} [الإسراء: 31]، وخشيةَ أن تفتضح الأنثى بالحاجة إذا هلك أبوها، أو مخافة السّباء،...وهذا من خَوَر أوْهَامهم وأنّ ذلك قوله تعالى: {وإذا الموءودة سُئِلت بأي ذنب قتلت} [التكوير: 8، 9]، وقيل: كانوا يفعلون ذلك من شدّة الغيرة خشية أن يأتين ما يَتعيَّر منه أهلهنّ...
ولا شكّ أنّ الوأد طريقة سنّها أيمّة الشّرك لقومهم، إذ لم يكونوا يصدرون إلاّ عن رأيهم، فهي ضلالة ابتدعوها لقومهم بعلّة التخلّص من عوائق غزوهم أعداءَهم، ومن معرّة الفاقة والسباء، وربّما كان سدنة الأصنام يحرّضونهم على إنجاز أمر الموءودة إذا رأوا من بعضهم تثاقلا...
والإرْدَاء: الإيقاع في الرّدى، والردَى: الموت، ويستعمل في الضرّ الشّديد مجازاً أو استعارة وذلك المراد هنا.
ولَبَس عليه: أوقعه في اللّبس، وهو الخلط والاشتباه، وقد تقدّم في قوله تعالى: {ولا تَلبسوا الحقّ بالباطل} في سورة [البقرة: 42]، وفي قوله: {وللبَسْنا عليهم ما يلبسون} في هذه السّورة [9]. أي أن يخلطوا عليهم دينهم فيوهموهم الضّلال رشداً وأنّه مراد الله منهم، فهم يتقرّبون إلى الله وإلى الأصنام لتقرّبهم إلى الله، ولا يفرّقون بين ما يرضاه الله وما لا يرضاه، ويخيّلون إليهم أنّ وأد البنات مصلحة... فمعنى: {وليلبسوا عليهم دينهم} أنَّهم يحدثون لهم ديناً مختلطاً من أصناف الباطل، كما يقال: وسِّعْ الجبّة، أي اجعلها واسعة، وقيل: المراد ليدخلوا عليهم اللّبس في الدّين الّذي كانوا عليه وهو دين إسماعيل عليه السّلام، أي الحنيفيّة، فيجعلوا فيه أشياء من الباطل تختلط مع الحقّ.
والقول في معنى: {ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفسرون} كالقول في قوله آنفاً {ولو شاء ربك ما فعلوه} [الأنعام: 112] وضمير الرّفع في: {فعلوه} يعود إلى المشركين، أي: لو شاء الله لعصمهم من تزيين شركائهم، أو يعود إلى الشّركاء، أي: لو شاء الله لصدّهم عن إغواء أتباعهم، وضمير النّصب يعود إلى القتل أو إلى التّزيين على التوزيع، على الوجهين في ضمير الرّفع.
والمراد: ب {ما يَفترون} ما يفترونه على الله بنسبة أنّه أمرهم بما اقترفوه، وكان افتراؤهم اتِّباعاً لافتراء شركائهم، فسمّاه افتراء لأنَّهم تقلّدوه عن غير نظر ولا استدلال، فكأنَّهم شاركوا الّذين افتروه من الشّياطين، أو سدنة الأصنام، وقادة دين الشّرك، وقد كانوا يموّهون على النّاس أنّ هذا ممّا أمر الله به كما دلّ عليه قوله في الآية بعد هذه: {افتراء عليه} [الأنعام: 138] وقوله في آخر السّورة: {قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا} [الأنعام: 150].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولكن الله يبيّن لهم العواقب السيئة لذلك، وهو الهلاك، وإثارة الشبهات، وتشويه المفاهيم الصحيحة، فإنّ الرزق على الله، فهو الذي يرزق الذكر والأنثى، كما أن للمرأة دوراً في تنمية الثروة في الموارد التي تتناسب مع دورها الطبيعي في الحياة، كما هو الحال في ما يقوم به الرجل من دور. أمَّا قضية العار، فهي قضية تتحرك في نطاق التقاليد الجاهلية، ولا عار في الإسلام على أحدٍ في ما يقوم به إنسانٌ آخر، ولا مجال للتمييز بين المرأة والرجل في قضية العار والشرف، فهما سواءٌ في ما يعملانه وفي ما يقومان به من حيث النتائج الأخلاقية والاجتماعية والقانونيّة...