15- وحينما تجلت آيات القرآن من رسولنا - محمد - على المشركين ، قال له الكافرون الذين لا يخافون عذاب الله ولا يرجون ثوابه : آتنا كتاباً غير هذا القرآن ، أو بَدِّل ما فيه مما لا يعجبنا . قل لهم - أيها الرسول : لا يمكنني ولا يجوز أن أغير أو أبدل فيه من عندي . ما أنا إلا متبع ومبلغ ما يوحى إلىَّ من ربى ، إنى أخاف إن خالفت وحى ربى عذاب يوم عظيم خطره ، شديد هوله .
ثم حكى - سبحانه - بعض المقترحات الفاسدة التي اقترحها المشركون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد عليها بما يبطلها فقال - تعالى - :
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا . . . } .
قال الآلوسى ما ملخصه : " عن مقاتل قال : إن الآية { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا . . } نزلت في جماعة من قريش قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كنت تريد أن نؤمن لك ، فأت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى وليس فيه ما يعيبها ، وإن لم ينزل الله - تعالى - عليك ذلك فقل أنت هذا من نفسك ، أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، ومكان حرام حلال ، ومكان حلال حراما .
والمعنى : وإذا تتلى على أولئك المشركين آياتنا الواضحة المنزلة عليك - يا محمد - قالوا على سبل العناد والحسد : ائت بقرآن آخر سوى هذا القرآن الذي تتلوه علينا ، أو بدله بأن تجعل مكان الآية التي فيها سب لآلهتنا ، آية أخرى فيها مدح لها .
وفي الآية الكريمة التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إظهاراً للإِعراض عنهم ، حتى لكأنهم غير حاضرين ، وغير أهل لتوجيه الخطاب إليهم .
والمراد بالآيات : الآيات القرآنية الدالة على وحدانية الله - تعالى - وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وأضافها - سبحانه - إليه على سبيل التشريف والتعظيم ، وأسند التلاوة إلى الآيات بصيغة المبني للمفعول ، للإِشارة إلى أن هذه الآيات لوضوجها ، ولمعرفتهم التامة لتاليها ، صارت بغير حاجة إلى تعيين تاليها - صلى الله عليه وسلم - .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : فماذا كان غرضهم - وهم أدهى الناس وأمكرهم - في هذا الاقتراح ؟ "
قلت : الكبد والمكر . أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر ، وأما اقتراح التبديل فللطمع ولاختبار الحال ، وأنه إذا وجد منه تبديل ، فإما أن يهلكه الله فينجوا هم منه أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه ، وتصحيحا لافترائه على الله .
وقوله : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } هذا القول أمر من الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم بما يزهق باطلهم .
وكلمة { تلقاء } مصدر من اللقاء كتبيان من البيان ، وكسر التاء فيهما سماعي ، والقياس في هذا المصدر فتحها كالتكرار والتطواف والتجوال .
والمعنى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل التوبيخ : لا يصح لي بحال من الأحوال ، أن أبدل هذا القرآن من عند نفسي ومن جهتها ؛ وإنما أنا أبلغكم ما أنزل الله على منه ، بدون زيادة أو نقصان ، أو تغيير أو تبديل .
وقوله : { إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } تعليل لمضمون ما قبله من امتناع الإِتيان بغيره أو تبديله ، والاقتصار على اتباع الوحي .
أي : إني أخاف إن عصيت ربي أية معصية ، عذاب يوم عظيم الهول ، وإذا كان شأني أن أخشاه - سبحانه - من أية معصية ولو كانت صغيرة ، فكيف لا أخشاه إن عصيت بتبديل كلامه استجابة لأهوائكم ؟
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا } يعني المشركين . { ائت بقرآن غير هذا } بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والثواب والعقاب بعد الموت ، أو ما نكرهه من معايب آلهتنا . { أو بدّله } بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى ولعلهم سألوا ذلك كي يسعفهم إليه فيلزموه . { قل ما يكون لي } ما يصح لي . { أن أبدّله من تلقاء نفسي } من قبل نفسي وهو مصدر استعمل ظرفا ، وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه الإتيان بقرآن آخر . { إن اتّبع إلا ما يوحى اليّ } تعليل لما يكون فإن المتبع لغيره في أمر لا يستبد بالتصرف فيه بوجه ، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعه ولذلك قيل التدبيل في الجواب وسماه عصيانا فقال : { إني أخاف إن عصيت ربي } أي بالتبديل . { عذاب يوم عظيم } وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات} يعني القرآن،
{قال الذين لا يرجون لقاءنا} يعني لا يخشون لقاءنا، يعني البعث،
{ائت بقرءان غير هذا أو بدله} فأنزل الله عز وجل: {قل} يا محمد: {ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتاب الله الذي أنزلناه إليك يا محمد "بينات": واضحات على الحقّ دالات. "قالَ الّذِينَ لا يَرْجَوْنَ لِقاءَنَا "يقول: قال الذين لا يخافون عقابنا ولا يوقنون بالمعاد إلينا ولا يصدّقون بالبعث لك: "ائْتِ بقُرآنٍ غيرِ هَذَا أوْ بَدّلْهُ" بقول: أو غيِّره. "قُلْ" لهم يا محمد: "ما يَكُونُ لي أنْ أُبَدّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي" أي من عندي.
والتبديل الذي سألوه فيما ذُكر، أن يحوّل آية الوعيد آية وعد وآية الوعد وعيدا والحرام حلالاً والحلال حراما، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن ذلك ليس إليه، وأن ذلك إلى من لا يردّ حكمه ولا يتعقب قضاؤه، وإنما هو رسول مبلغ ومأمور متبع.
وقوله: "إنْ أتّبِعُ إلاّ ما يُوحَى إليّ" يقول: قل لهم: ما أتبع في كلّ ما آمركم به أيها القوم وأنهاكم عنه إلا ما ينزله إليّ ربي ويأمرني به.
"إنّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبي عَذَابَ يَوْمِ عَظِيم" يقول إني أخشى من الله إن خالفت أمره وغيرت أحكام كتابه وبدّلت وحيه فعصيته بذلك، "عذابَ يومٍ عظيمٍ" هَوْلُهُ، وذلك "يَوْمَ تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَة عَمّا أرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَملْ حَمْلَها وَتَرَى النّاسَ سُكَارَى ومَا هُمْ بِسُكارَى...".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... قوله: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ): سؤالهم سؤال تعنت واستهزاء؛ لأنه لا منفعة لهم لو أتى بغيره وبدله سوى ما في هذا، ولو جاز لهم هذا السؤال جاز ذلك في كل ما أتى به واحدًا بعد واحد، فذلك مما لا ينقطع أبدًا ولا غاية ولا نهاية فهو سؤال تعنت واستهزاء.
الفرق بين الإتيان بغيره وبين تبديله، أن الإتيان بغيره لا يقتضي رفعه، بل يجوز بقاؤه معه، وتبديلُهُ لا يكون إلا برفعه ووضع آخر مكانه أو شيء منه. وكان سؤالهم لذلك على وجه التعنت والتحكم، إذ لم يجدوا سبباً آخر يتعلقون به، ولم يَجُزْ أن يكون الأمر موقوفاً على اختيارهم وتحكمهم لأنهم غير عالمين بالمصالح، ولو جاز أن يأتي بغيره أو يبدّله بقولهم لقالوا في الثاني مثله في الأول وفي الثالث مثله في الثاني فكان يصير دلائل الله تعالى تابعة لمقاصد السفهاء، وقد قامت الحجة عليهم بهذا القرآن، فإن لم يكن يقنعهم ذلك مع عجزهم فالثاني والثالث مثله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا اقترحوا عليك بأَنْ تأتيهَم بما لم نأمركَ به، أو تُرَيهُم ما لم نُظْهِرْ عليك من الآياتِ.. فأَخْبِرْهم أنَّكَ غير مُسْتَقَلٍ بِك، ولا موكولٍ إليكَ؛ فنحن القائمُ عليكَ، المصَّرفُ لكَ، وأنتَ المتَّبعُ لما نُجريه عليك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
غاظهم ما في القرآن من ذمّ عبادة الأوثان والوعيد للمشركين، فقالوا: {ائت بِقُرْءانٍ} آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك {أَوْ بَدّلْهُ} بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذمّ عبادتها. فأمر بأن يجيب عن التبديل، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل، وأن يسقط ذكر الآلهة. وأما الإتيان بقرآن آخر، فغير مقدور عليه للإنسان {مَا يَكُونُ لِي} ما ينبغي لي وما يحلّ، كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ} [المائدة: 116]. {أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى} من قبل نفسي... من غير أن يأمرني بذلك ربي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} لا آتي ولا أذر شيئاً من نحو ذلك، إلاّ متبعاً لوحي الله وأوامره، إن نسخت آية تبعت النسخ، وإن بدِّلت آية مكان آية تبعت التبديل، وليس إليّ تبديل ولا نسخ. {إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} بالتبديل والنسخ من عند نفسي {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
فإن قلت: أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا: {ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا}؟ قلت: بلى، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز، وكانوا يقولون: لو نشاء لقلنا مثل هذا. ويقولون: افترى على الله كذباً، فينسبونه إلى الرسول ويزعمونه قادراً عليه وعلى مثله، مع علمهم بأنّ العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه، كان الواحد منهم أعجز.
فإن قلت: لعلهم أرادوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدّله، من جهة الوحي كما أتيت بالقرآن من جهته. وأراد بقوله: {مَا يَكُونُ لِي} ما يتسهل لي وما يمكنني أن أُبدّله. قلت: يردّه قوله: {إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي}.
فإن قلت: فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت: الكيد والمكر؛ أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن، ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير، فللطمع ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل، فإما أن يهلكه الله فينجوا منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله.
المسألة الأولى: اعلم أن هذا الكلام هو النوع الثالث من شبهاتهم وكلماتهم التي ذكروها في الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، حكاها الله تعالى في كتابه وأجاب عنها.
واعلم أن من وقف على هذا الترتيب الذي نذكره، علم أن القرآن مرتب على أحسن الوجوه.
المسألة الثانية: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن. الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن حنظلة، فقتل الله كل رجل منهم بطريق آخر، كما قال: {إنا كفيناك المستهزئين} فذكر الله تعالى أنهم كلما تلي عليهم آيات: {قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله} وفيه بحثان:
البحث الأول: أن وصفهم بأنهم لا يرجون لقاء الله أريد به كونهم مكذبين بالحشر والنشر، منكرين للبعث والقيامة، ثم في تقرير حسن هذه الاستعارة وجوه: الأول: قال الأصم: {لا يرجون لقاءنا} أي لا يرجون في لقائنا خيرا على طاعة، فهم من السيئات أبعد أن يخافوها. الثاني: قال القاضي: الرجاء لا يستعمل إلا في المنافع، لكنه قد يدل على المضار من بعض الوجوه، لأن من لا يرجو لقاء ما وعد ربه من الثواب، وهو القصد بالتكليف، لا يخاف أيضا ما يوعده به من العقاب، فصار ذلك كناية عن جحدهم للبعث والنشور.
واعلم أن كلام القاضي قريب من كلام الأصم، إلا أن البيان التام أن يقال: كل من كان مؤمنا بالبعث والنشور فإنه لا بد وأن يكون راجيا ثواب الله وخائفا من عقابه، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم، فلزم من نفي الرجاء نفي الإيمان بالبعث. فهذا هو الوجه في حسن هذه الاستعارة.
البحث الثاني: أنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أمرين على البدل: فالأول: أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن. والثاني: أن يبدل هذا القرآن، وفيه إشكال، لأنه إذا بدل هذا القرآن بغيره، فقد أتى بقرآن غير هذا القرآن، وإذا كان كذلك كان كل واحد منهما شيئا واحدا. وأيضا مما يدل على أن كل واحد منهما هو عين الآخر أنه عليه الصلاة والسلام اقتصر في الجواب على نفي أحدهما، وهو قوله: {ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} وإذا ثبت أن كل واحد من هذين الأمرين هو نفس الآخر، كان إلقاء اللفظ على الترديد والتخيير فيه باطلا.
والجواب: أن أحد الأمرين غير الآخر، فالإتيان بكتاب آخر، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه، يكون إتيانا بقرآن آخر، وأما إذا أتى بهذا القرآن إلا أنه وضع مكان ذم بعض الأشياء مدحها، ومكان آية رحمة آية عذاب، كان هذا تبديلا، أو نقول: الإتيان بقرآن غير هذا هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب. مع كون هذا الكتاب باقيا بحاله، والتبديل هو أن يغير هذا الكتاب. وأما قوله: إنه اكتفى في الجواب على نفي أحد القسمين.
قلنا: الجواب المذكور عن أحد القسمين هو عين الجواب عن القسم الثاني، وإذا كان كذلك وقع الاكتفاء بذكر أحدهما عن ذكر الثاني. وإنما قلنا: الجواب عن أحد القسمين عين الجواب عن الثاني لوجهين: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام لما بين أنه لا يجوز أن يبدله من تلقاء نفسه، لأنه وارد من الله تعالى ولا يقدر على مثله، كما لا يقدر سائر العرب على مثله، فكان ذلك متقررا في نفوسهم بسبب ما تقدم من تحديه لهم بمثل هذا القرآن، فقد دلهم بذلك على أنه لا يتمكن من قرآن غير هذا. والثاني: أن التبديل أقرب إلى الإمكان من المجيء بقرآن غير هذا القرآن، فجوابه عن الأسهل يكون جوابا عن الأصعب، ومن الناس من قال: لا فرق بين الإتيان بقرآن غير هذا القرآن وبين تبديل هذا القرآن، وجعل قوله: {ما يكون لي أن أبدله} جوابا عن الأمرين، إلا أنه ضعيف على ما بيناه.
المسألة الثالثة: اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء، مثل أن يقولوا: إنك لو جئتنا بقرآن آخر غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك، وغرضهم من هذا الكلام السخرية والتطير. والثاني: أن يكونوا قالوه على سبيل الجد، وذلك أيضا يحتمل وجوها: أحدها: أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان، حتى إنه إن فعل ذلك، علموا أنه كان كذابا في قوله: إن هذا القرآن نزل عليه من عند الله. وثانيها: أن يكون المقصود من هذا الالتماس أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم والطعن في طرائقهم، وهم كانوا يتأذون منها، فالتمسوا كتابا آخر ليس فيه ذلك. وثالثها: أن بتقدير أن يكونوا قد جوزوا كون هذا القرآن من عند الله، التمسوا منه أن يلتمس من الله نسخ هذا القرآن وتبديله بقرآن آخر. وهذا الوجه أبعد الوجوه.
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك أمره الله تعالى أن يقول: إن هذا التبديل غير جائز مني {إن أتبع إلا ما يوحى إلى} ثم بين تعالى أنه بمنزلة غيره في أنه متوعد بالعذاب العظيم إن عصى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم أن من قضى بشقاوته لا يتأتى إيمانه بآية من الآيات حتى تنزل به سطوته وتذيقه بأسه ونقمته. وكان القرآن أعظم آية أنزلت إلى الناس لما لا يخفى. أتبع ذلك عطفاً على قوله {قال الكافرون إن هذا لسحر مبين} بقوله بياناً لذلك: {وإذا تتلى} بناه للمفعول إيذاناً بتكذيبهم عند تلاوة أي تالٍ كان. وأبداه مضارعاً إشارة إلى أنهم يقولون ذلك ولو تكررت التلاوة {عليهم} أي على هؤلاء الناس {آياتنا} أي على ما لها من العظمة بإسنادها إلينا {بينات} فإنه مع ما اشتمل عليه مما لزمهم به الإقرار بحقيقته قالوا فيه ما لا معنى له إلا التلاعب والعناد، ويجوز عطفه على {ثم جعلناكم خلائف} -الآية- والالتفات إلى مقام الغيبة للإيذان بأنهم أهل للإعراض لإساءتهم الخلافة، والموصول بصلته في قوله: {قال الذين لا يرجون لقآءنا} في موضع الضمير تنبيهاً على أن هذا الوصف علة قولهم، ولعله عبر بالرجاء ترغيباً لهم لأن الرجاء محط أمرهم في طلب تعجيله للخير ودفعه للضمير. فكان من حقهم أن يرجوا لقاءه تعالى رغبة في مثل ما أعده لمن أجابه، ولوح إلى الخوف بنون العظمة ليكون ذلك أدعى لهم إلى الإقبال {ائت} أي من عندك {بقرآن} أي كلام مجموع جامع لما تريد {غير هذا} في نظمه ومعناه {أو بدله} أي بألفاظ أخرى والمعاني باقية وقد كانوا عالمين بأنه صلى الله عليه وسلم مثلهم في العجز عن ذلك ولكنهم قصدوا أنه يأخذ في التغيير حرصاً على إجابة مطلوبهم فيبطل مدعاه أو يهلك.
ولما كان كأنه قيل: فماذا أقول لهم؟ قال: {قل ما يكون} أي يصح ويتصور بوجه من الوجوه {لي} ولما كان التبديل يعم القسمين الماضيين قال: {أن أبدله} وقال: {من تلقاء} أي عند وقِبَل {نفسي} إشارة إلى الرد عليهم في إنكار تبديل الذي أنزله بالنسخ بحسب المصالح كما أنزل أصله لمصلحة العباد مع نسخ الشرائع الماضية به، فأنتج ذلك قطعاً قوله: {إن أتبع} أي بغاية جهدي {إلاّ ما} ولما كان قد علم أن الموحي إليه الله قال {يوحى إلي} أي سواء كان بدلاً أو أصلاً؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم مضمونه: {إني أخاف} أي على سبيل التجدد والاستمرار {إن عصيت ربي} أي المحسن إليّ والموجد لي والمربي والمدبر بفعل غير ما شرع لي {عذاب يوم عظيم} فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم من الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم، وإذا خفته -مع استحضار صفة الإحسان- هذا الخوف فكيف يكون خوفي مع استحضار صفة الجلال.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بدئت السورة بالكتاب الحكيم (القرآن)، وإنكار المشركين للوحي بشبهتهم المعروفة، وسيقت بعدها الآيات في إقامة الحجج عليهم من خلق العالم علويه وسفليه، ومن طبيعة الإنسان وتاريخه، متضمنة لإثبات أهم أركان الدين وهو الوحي والتوحيد والبعث، وجاءت هذه الآيات الثلاث بعد ذلك في شأن الكتاب نفسه، وتفنيد ما اقترحه المشركون على الرسول فيه، وحجته البالغة عليهم في كونه وحيا من الله تعالى.
{وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} في الآية التفات عن خطاب هؤلاء الموعوظين إلى الغيبة عنهم، وتوجيه له إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسلوب الالتفات في القرآن كثير جدا، وفائدته العامة تلوين الكلام بما يجدد الانتباه له والتأمل فيه، وفي كل التفات فائدة خاصة، لو أردنا بيان ما نفهمه منها لطال بنا بحث البلاغة الكلامية، بما يشغل القراء عن الهداية المقصودة بالذات من تفسيرنا، ويظهر في هذه الآية أن نكتة حكاية هذا الاقتراح السخيف بأسلوب الإخبار عن قوم غائبين إفادة أمرين:
أحدهما: إظهار الإعراض عنهم، كأنهم غير حاضرين؛ لأنهم لا يستحقون الخطاب به من الله تعالى.
ثانيهما: تلقينه صلى الله عليه وسلم الجواب عنه بما ترى من العبارة البليغة التأثير، والمعنى: وإذ تتلى على أولئك القوم آياتنا المنزلة حالة كونها بارزة في أعلى معارض البيان، وأظهر مقدمات الوحي والبرهان.
{قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} وهم من تقدم ذكرهم قريبا واضعا إياه موضع الضمير للإشعار بعلة القول أي قالوا لمن يتلوها عليهم- وهو الرسول صلى الله عليه وسلم- {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}، الأظهر في سبب قولهم هذا أنه صلى الله عليه وسلم بلّغهم أن هذا القرآن من عند الله أوحاه إليه لينذرهم به، وتحداهم بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله فعجزوا، وكانوا في ريب من كونه وحيا من الله لبشر مثلهم كما تقدم في أول السورة، وفي ريب من كونه من عند محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لم يكن يفوقهم في الفصاحة والبلاغة ولا في شيء من العلم، بل كانوا يرونه دون كبار فصحائهم من بلغاء الشعراء ومصاقع الخطباء، فأرادوا أن يمتحنوه بمطالبته بالإتيان بقرآن غيره، في جملة ما بلغهم من سوره في أسلوبها ونظمها ودعوتها، أو بالتصرف فيه بالتغيير والتبديل لما يكرهونه منه، كتحقير آلهتهم وتكفير آبائهم، حتى إذ فعل هذا أو ذاك كانت دعواه أنه كلام الله أوحاه إليه منقوضة من أساسها، وكان قصارى أمره أنه امتاز عليهم بهذا النوع من البيان بقوة نفسية فيه كانت خفية عنهم، كأسباب السحر، لا بوحي الله إليه، وهو ما يزعمه بعض الإفرنج ومقلدتهم في عصرنا، وقد فندناه في تفسير الآية الأولى من هذه السورة.
{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي} أي قل لهم أيها الرسول: إنه ليس من شأني ولا مما تبيحه لي رسالتي أن أبدله من تلقاء نفسي، أي بمحض رأيي ومقتضى اجتهادي، وكلمة تِلقاء -بكسر التاء -مصدر من اللقاء، كتبيان من البيان، وكسر التاء فيهما سماعي، والقياس في هذا المصدر فتحها كالتكرار والتطواف والتجوال.
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي ما اتبع فيه إلا تبليغ ما يوحى إلي والاهتداء به، فإن بدل الله تعالى منه شيئا بنسخه بلّغته عنه، وما عليّ إلا البلاغ المحض، وأقول: إذا كان الله لم يعط رسوله الحق في تبديل القرآن، فما حكمه تعالى فيمن يبدلونه بأعمالهم المنافية لصدق وعده لأهله -وهم يدعون أنهم أهله- كالذين قال فيهم {يريدون أن يبدلوا كلام الله} [الفتح: 15]، أو بترك أحكامه لمذاهبهم كالذين قال فيهم {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181]؟
{إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هذا تعليل لمضمون ما قبله، الذي هو بيان لنفي الشأن الذي قبله، أي إني أخاف إن عصيت ربي -أي عصيان كان- عذاب يوم عظيم الشأن- وهو يوم القيامة- فكيف إذا عصيته بتبديل كلامه اتباعا لأهوائكم؟ وقوله: (إن عصيت) من باب الفرض، إذ الشرطية المبدوءة بأن يعبر بها عما شأنه ألا يقع. وهذا جواب عن الشق الثاني من اقتراحهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يتحول السياق من خطابهم إلى عرض نماذج من أعمالهم بعد استخلافهم.
لقد استُخلِفوا بعد القوم المجرمين، فماذا فعلوا؟
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله. قل: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قل: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله. أفلا تعقلون؟ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته؟ إنه لا يفلح المجرمون)..
(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم؛ ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. قل: أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض؟ سبحانه وتعالى عما يشركون. وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون. ويقولون: لولا أنزل عليه آية من ربه، فقل: إنما الغيب لله، فانتظروا إني معكم من المنتظرين).
هكذا كان عملهم بعد الاستخلاف، وهكذا كان سلوكهم مع الرسول!!!
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله)..
وهو طلب عجيب لا يصدر عن جد، إنما يصدر عن عبث وهزل؛ وعن جهل كذلك بوظيفة هذا القرآن وجدية تنزيله. وهو طلب لا يطلبه إلا الذين لا يظنون أنهم سيلقون الله!
إن هذا القرآن دستور حياة شامل، منسق بحيث يفي بمطالب هذه البشرية في حياتها الفردية والجماعية،
ويهديها إلى طريق الكمال في حياة الأرض بقدر ما تطيق، ثم إلى الحياة الأخرى في نهاية المطاف. ومن يدرك القرآن على حقيقته لا يخطر له أن يطلب سواه، أو يطلب تبديل بعض أجزائه.
وأغلب الظن أن أولئك الذين لا يتوقعون لقاء الله؛ كانوا يحسبون المسألة مسألة مهارة، ويأخذونها مأخذ المباريات في أسواق العرب في الجاهلية. فما على محمد أن يقبل التحدي ويؤلف قرآنا آخر، أو يؤلف جزءا مكان جزء؟!
قال: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي. إن أتبع إلا ما يوحى إلي. إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم..
إنها ليست لعبة لاعب ولا مهارة شاعر. إنما هو الدستور الشامل الصادر من مدبر الكون كله، وخالق الإنسان وهو أعلم بما يصلحه. فما يكون للرسول أن يبدله من تلقاء نفسه. وإن هو إلا مبلغ متبع للوحي الذي يأتيه. وكل تبديل فيه معصية وراءها عذاب يوم عظيم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... حُكي في هذه الآية أسلوب آخر من أساليب تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون القرآن موحى إليه من الله تعالى فهم يتوهمون أن القرآن وضَعه النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، ولذلك جعلوا من تكذيبهم أن يقولوا له {ايت بقرآنٍ غير هذا أو بَدّله} إطماعاً له بأن يؤمنوا به مغايراً أو مبدَّلاً إذا وافق هواهم.
ومعنى {غير هذا} مخالفهُ. والمراد المخالفة للقرآن كله بالإعراض عنه وابتداء كتاب آخر بأساليب أخرى، كمثل كتب قصص الفرس وملاحمهم إذ لا يحتمل كلامهم غير ذلك، إذ ليس مرادهم أن يأتي بسُورَ أخرى غير التي نزلتْ من قبل لأن ذلك حاصل، ولا غَرض لهم فيه إذا كان معناها من نوع ما سبقها.
ووصف الآيات ب {بينات} لزيادة التعجيب من طلبهم تبديلها لا بطلب تبديله إذ لا طمع في خير منه.
والتبديل: التغيير. وقد يكون في الذوات، كما تقول: بدلت الدنانير دراهم. ويكون في الأوصاف، كما تقول: بدلت الحلقة خاتماً. فلما ذكر الإتيان بغيره من قبل تعيَّن أن المراد بالتبديل المعنى الآخر وهو تبديل الوصف، فكان المراد بالغير في قولهم: {غير هذا} كلاماً غير الذي جاء به من قبل لا يكون فيه ما يكرهونه ويغيظهم. والمراد بالتبديل أن يعمد إلى القرآن الموجود فيغير الآيات المشتملة على عبارات ذم الشرك بمدحه، وعبارات ذم أصنامهم بالثناء عليها، وعبارات البعث والنشر بضدها، وعبارات الوعيد لهم بعبارات بشارة.
وسموا ما طلبوا الإتيان به قُرآناً لأنهُ عوض عن المسمى بالقرآن، فإن القرآن علَم على الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أي ائت بغير هذا مما تُسميه قرآناً.
والضمير في {بدله} عائد إلى اسم الإشارة، أي أو بدل هذا. وأجمل المراد بالتبديل في الآية لأنه معلوم عند السامعين.
ثم إن قولهم يحتمل أن يكون جداً، ويحتمل أن يريدوا به الاستهزاء، وعلى الاحتمالين فقد أمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بما يقلع شبهتهم من نفوسهم إن كانوا جادين، أو من نفوس من يسمعونهم من دهمائهم فيحسبوا كلامهم جِداً فيترقبوا تبديل القرآن.
وضمير الغيبة في قوله: {وإذا تتلى عليهم} راجع إلى الناس المراد منهم المشركون أو راجع إلى {الذين لا يرجون لقاءنا} في قوله: {إن الذين لا يرجون لقاءنا} [يونس: 7].
وتقديم الظرف في قوله: {إذا تتلى} على عامله وهو {قَال الذين لا يرجون لقاءنا} للاهتمام بذكر ذلك الوقت الذي تتلى فيه الآيات عليهم فيقولون فيه هذا القول تعجيباً من كلامهم ووهن أحلامهم.
ولكون العامل في الظرف فعلاً ماضياً عُلم أن قولهم هذا واقع في الزمن الماضي، فكانت إضافة الظرف المتعلق به إلى جملة فعلها مضارع وهو {تتلى} دالة على أن ذلك المضارع لم يرد به الحال أو الاستقبال إذ لا يتصور أن يكون الماضي واقعاً في الحال أو الاستقبال فتعين أن اجْتلاب الفعل المضارع لمجرد الدلالة على التكرر والتجدد، أي ذلك قولهم كُلما تتلى عليهم الآيات.
وماصْدق {الذين لا يرجون لقاءنا} هو ما صدق الضمير في قوله: (عليهم)، فكان المقام للإضمار، فما كان الإظهار بالموصولية إلا لأن الذين لا يرجون لقاء الله اشتهر به المشركون فصارت هذه الصلة كالعلَم عليهم. كما أشرنا إليه عند قوله آنفاً {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضُوا بالحياة الدنيا} [يونس: 7]، وليس بين الصلة وبين الخبر هنا علاقةُ تعليل فلا يكون الموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر.
ولما كان لاقتراحهم معنى صريح، وهو الإتيان بقرآن آخر أو تبديل آيات القرآن الموجودِ، ومعنى التزامي كنائي، وهو أنه غير منزل من عند الله وأن الذي جاء به غير مرسل من الله، كان الجواب عن قولهم جوابين، أحدهما: ما لقنه الله بقوله: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} وهو جواب عن صريح اقتراحهم، وثانيهما: ما لَقنه بقوله: {قُل لو شاء الله ما تلوته عليكم} [يونس: 16] وهو جواب عن لازم كلامهم.
وعن مجاهد تسمية أناس ممن قال هذه المقالة وهم خمسة: عبد الله بن أمية، والوليدُ بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس، والعاص بن عامر، قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام واللاتِ والعزى ومناةَ وهُبل، وليس فيه عَيبها.
وقد جاء الجواب عن اقتراحهم كلاماً جامعاً قضاء لحق الإيجاز البديع، وتعويلاً على أن السؤال يبين المراد من الجواب، فأحسوا بامتناع تبديل القرآن من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا جواب كاف، لأن التبديل يشمل الإتيان بغيره وتبديل بعض تراكيبه. على أنه إذا كان التبديل الذي هو تغيير كلمات منه وأغراض ممتنعاً كان إبطال جميعه والإتيان بغيره أجدر بالامتناع.
وقد جاء الجواب بأبلغ صيغ النفي وهو {ما يكون لي أن أبدله} أي ما يكون التبديل مِلكاً بيدي.
و {تِلقاء} صيغة مصدر على وزن التفعال. وقياس وزن التفعال الشائع هو فتح التاء وقد شذ عن ذلك تلقاء، وتبيان، وتمثال، بمعنى اللقاء والبيان والمُثول فجاءت بكسر التاء لا رابع لها، ثم أطلق التلقاء على جهة التلاقي ثم أطلق على الجهة والمكان مطلقاً كقوله تعالى: {ولما توجه تلقاء مدين} [القصص: 22]. فمعنى {من تلقاء نفسي} من جهة نفسي.
وهذا المجرور في موضع الحال المؤكدة لجملة: {ما يكون لي أن أبدله} وهي المسماة مؤكدة لغيرها إذ التبديل لا يكون إلا من فعل المبدل فليست تلك الحال للتقييد إذ لا يجوز فرض أن يبدَّل من تلقاء الله تعالى التبديلَ الذي يرومونه، فالمعنى أنه مبلغ لا متصرف.
وجملة: {إن أتبع إلا ما يوحى إلي} تعليل لجملة: {ما يكون لي أن أبدله} أي ما أتبع إلا الوحي وليس لي تصرف بتغيير. و {ما} مصدرية. واتباع الوحي: تبليغ الحاصل به، وهو الموصى به. والاتباع مجاز في عدم التصرف، بجامع مشابهة ذلك للاتباع الذي هو عدم تجاوز الاقتفاء في المشي.
واقتضت (إنْ) النافية وأداةُ الاستثناء قصرَ تعلق الاتباع على ما أوحى الله وهو قصر إضافي، أي لا أبلغ إلا ما أوحي إلي دون أن يكون المتَّبَع شيئاً مخترعاً حتى أتصرف فيه بالتغيير والتبديل، وقرينة كونه إضافياً وقوعه جواباً لرد اقتراحهم.
فمن رام أن يحتج بهذا القصر على عدم جواز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم فقد خرج بالكلام عن مهيعه.
وجملة: {إني أخاف إن عصيت ربي} الخ في موضع التعليل لجملة: {إن أتبع إلا ما يوحى إلي} ولذلك فصلت عنها. واقترنت بحرف (إن) للاهتمام، و (إنَّ) تؤذن بالتعليل.
وقوله: {إن عصيت ربي}، أي عصيته بالإتيان بقرآن آخر وتبديله من تلقاء نفسي.
ودل سياق الكلام على أن الإتيان بقرآن آخر غير هذا بمعنى إبطال هذا القرآن وتعويضه بغيره، وأن تبديله بمعنى تغيير معاني وحقائق ما اشتمل عليه ممتنع.
ولذلك لم يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول هنا: إلا ما شاء الله، أو نحو ذلك.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويبقى الحديث حديث الذين لا يرجون لقاء الله، ولكن من خلال المنطق اللاّمسؤول الذي يحكم طريقتهم في التفكير، أو من خلال أسلوبهم في الطروحات التعجيزيّة التي يطرحونها على النبيّ في مواجهتهم للقرآن، فليس هناك فكرٌ يبحث عن نقطة ضعفٍ في فكر آخر ليناقشه أو ليرفضه على أساس ذلك، وليس هناك موقف يبحث عن الخط الفاصل بينه وبين الآخرين، ليحدّد موقعه فيه وليعرف أين يلتقي معهم وفي أي مكان يفترق عنهم، بل كل ما هناك هو الهروب من المشكلة إلى الأمام ومحاولة اللعب على الموقف بأسلوب التعجيز أو السخرية والاستهزاء. ويبقى منطق النبيّ، منطق العقل والحوار، الذي يحاول أن يثير أمامهم الأفكار التي توحي لهم بالتأمّل ليقودهم إلى الحوار، وبالتالي إلى الإيمان الموقف، بعيداً عن كل انفعالٍ أو عن أي شعور بالسقوط أمام منطقهم، لأنه يشعر أنه لا يواجههم من مواقعه الذاتية، بل من مواقعه الرسالية، وإذا كانت مشاعر الذات لا تتحمل كل هذه الأساليب الساخرة اللاهية العابثة، فإن مشاعر الرسالة تبقى مع حركة العمق في الداخل لتبحث عن خلفيات الكلمة، قبل أن ترفضها أو تقبلها، ولتدرس نتائج الموقف، قبل أن تحاربه أو تواليه، لأن الرسالة تتعامل مع مستقبل الإنسان، إذا كانت الذات تتعامل مع حاضره، ونحن نعرف أن حركة الحاضر مطوّقةٌ بالانفعالات والتشنّجات الطارئة، بينما يتحرك المستقبل من خلال الحسابات الدقيقة، فلننتظر كيف نتابع هذين المنطقين في هاتين الآيتين.
...النبيّ في ما علَّمه الله أراد أن يقودهم إلى المنهج في مواجهته لهذا الطلب، فناقشه من موقعٍ فكري {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي} لأني لم أدّع أنه من كلامي ليكون هذا الطلب معقولاً، بل كانت دعواي أنه من وحي الله، وإذا كان كذلك، فكيف أستطيع أن أغيّر وحي الله، أو أستنزله في أيّ وقتٍ وأمام أي اقتراح، لأنني رسول مأمور يتقبل الوحي وينفّذ التعاليم. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} باعتبار أنه يمثل كلمته الفصل التي لا بدّ لي من الالتزام بها، في ما تمثله من خط الطاعة التي بها نجاة المطيعين في يوم القيامة، بينما يمثل خطّ المعصية الهلاك والعذاب، {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فلا أستطيع أن أغيّر أو أبدّل، لأن ذلك لونٌ من ألوان التمرد على الله، والعصيان لأمره ونهيه.
...وربما أثار بعض المفسرين الوجه في طلبهم من موقعٍ آخر، فهم أي هؤلاء المحتجوّن لا يوافقون على ما يشتمل عليه هذا القرآن من رفض الشركاء واتّقاء الفحشاء والمنكر، وربما أرادوا تبديله إلى ما يوافق آراءهم ليقع منهم موقع القبول، وذلك كالشاعر ينشد من شعره أو القاصّ يقص، فلا تستحسنه طباع السامعين، فيقولون: ائت بغيره أو بدّله. ونحن لا نمانع في احتمال هذا الوجه من الآية، إلا أننا لا نلاحظ وجود اعتراض على المضمون لديهم من ناحية القرآن، بمعنى أن المسألة لم تكن مثارةً عندهم من هذه الجهة، ولو كان الأمر كذلك، لناقشهم ولردّ عليهم بالحجة التي تثبت فكرتهم، كما في الآيات الأخرى التي كانت تناقش مسألة الشرك من موقعٍ عقليٍّ أو واقعي، أو غيرها من المسائل الأخرى، بينما نرى أنه قد ردّ عليهم بأن المسألة ليست باختياره وإرادته، بل هو عبد مأمور من قبل الله، ما يوحي بأن القضية متصلة بالكلام نفسه، لا بالمضمون الفكري له. وقد نلاحظ في هذا المجال، أنه لو واجه المسألة من هذا الوجه، لكان من المفروض أن يدافع عن الفكرة، لأنه من أوّل المؤمنين بها، فكيف ينسحب من ذلك ليجعل المشكلة هي عدم قدرته على التبديل، لا مسألة اقتناعه بها، والله العالم.