15- ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحساناً عظيماً ، حملته أمه حملاً ذا مشقة ، ووضعته وضعاً ذا مشقة ، ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهراً قاست فيها صنوف الآلام ، حتى إذا بلغ كمال قوته وعقله ، وبلغ أربعين سنة ، قال : رب ألهمني شكر نعمتك التي أنعمت علىَّ وعلى والدي ، وألهمني أن أعمل عملاً صالحاً ترضاه ، واجعل الصلاح سارياً في ذريتي ، إني تبت إليك من كل ذنب ، وإني من الذين أسلموا أنفسهم إليك .
وبعد هذا الحديث عن حقيقة هذا الدين ، وعن حسن عاقبة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، جاء الحديث عن وجوب الإِحسان إلى الوالدين وعما يترتب عليه هذا الإِحسان من ثواب عظيم ، قال - تعالى - : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ . . . كَانُواْ يُوعَدُونَ } .
قال الإِمام ابن كثير : لما ذكر - تعالى - فى الآية الأولى التوحيد له ، وإخلاص العبادة والاستقامة إليه ، عطف ، بالوصية بالوالدين ، كما هو مقرون فى غير ما آية من القرآن ، كقوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } وقال : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير } إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة .
وقوله - سبحانه - : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } من الإِيصاء بالشئ بمعنى الأمر به . قال - تعالى - : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً } أى : أمرنى بالمحافظة على أدائهما .
وقوله : { إِحْسَاناً } قراءة عاصم وحمزة والكسائى . وقرأ غيرهم من بقية السبعة { حسنا } وعلى القراءتين فانتصابهما على المصدرية . أى : ووصينا الإِنسان وأمرناه بأن يحسن إلى والديه إحسانا أو حسنا ، بأن يقدم إليهما كل ما يؤدى إلى برهما وإكرامهما .
ويصح أن يكون وصينا بمعنى ألزمنا ، فيتعدى لاثنين ، فيكون المفعول الثانى منها ، قوله : { حْسَاناً } أو { حسنا } .
وقوله - سبحانه - : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } تعليل للإِيصاء المذكور ولفظ { كُرْهاً } قرئ بضم الكاف وفتحها ، وهما قراءتان سبعيتان ، قالوا : ومعناهما واحد كالضُّعف - بتشديد الضاد وفتحها أو ضمها - فهما لغتان بمعنى واحد .
وهذا اللفظ منصوب على الحال من الفاعل . أى : حملته أمة ذات كره . ووضعته ذات كره ، أو هو صفة لمصدر مقدر ، أى : حملته حملا ذا كره ، ووضعته كذلك .
ولا شك فى أن الأم تعانى فى أثناء حملها ووضعها لوليدها ، الكثير من المشاق والآلام والمتاعب . . فكان من الوفاء أن يقابل ذلك منها بالإِحسان والإِكرام .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى آية أخرى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ } أى : حملته أمة ضعفا على ضعف ، لأن الحمل كلما تزايد وعظم فى بطنها ، ازداد ضعفها . .
وقوله - تعالى - : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } بيان لمدة الحمل والفطام ، والكلام على حذف مضاف . والفصال : مصدر فاصل ، وهو بمعنى الفطام ، وسمى الفطام فصالا ، لأن الطفل ينفصل عن ثدى أمه فى نهاية الرضاع .
أى : ومدة حمل الطفل مع مدة فصاله عن ثدى أمه ، ثلاثون شهرا .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : المراد بيان مدة الرضاع لا الفطام ، فكيف عبر عنه بالفصال . . . لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه ، لأنه ينتهى به ويتم ، سمى فصالا . . . وفيه فائدة ، وهى الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته . .
وقال الشوكانى : وقد استدل بهذه الآية على أن أقل المل ستة أشهر ، لأن مدة الرضاع سنتان ، أى : مدة الرضاع الكامل ، كما فى قوله - تعالى - : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } فذكر - سبحانه - فى هذه الآية أقل مدة الحمل ، وأكثر مدة الرضاع .
وفى هذه الآية إشارة الى أن حق الأم ، آكد من حق الأب ، لأنها هى التى حملت وليدها بمشقة ووضعته بمشقة ، وأرضعته هذه المدة بتعب ونصب .
وقوله - تعالى - : { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ . . } غاية لمحذوف يفهم من سياق الكلام .
والأشد : قوة الإِنسان واشتعال حرارته ، من الشدة بمعنى القوة والارتفاع . يقال : شد النهار ، إذا ارتفع ، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع ، ولا واحد له من لفظه .
والمراد ببلوغ أشده : أن يصل سنه على الراجح - إلى ثلاث وثلاثين سنة .
وقوله : { أوزعني } أى : رغبنى ووفقنى ، من قولك : أوزعت فلانا بكذا ، إذا أغريته وحببته فى فعله . أى : هذا الإِنسان بعد أن بقى فى بطن أمه ما بقى ، وبعد أن وضعته وأرضعته وفطمته وتولته برعايتها ، واستمرت حياته " حتى إذا بلغ اشده " أى : حتى إذا بلغ زمن استكمال قوته ، وبلغ أربعين سنة وهى تمام اكتمال العقل والقوة والفتوة .
{ قَالَ } على سبيل الشكر لخالقه { رَبِّ أوزعني . . . } أى : يا رب وقفنى وألهمنى { أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ } بأن وفقتنى ووفقتهما إلى صراطك المستقيم ، وبأن رزقتها العطف علىَّ ، ورزقنى الشكر لها ، ووفقنى - أيضا - { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } منى ، وتقبله عندك { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } أى : واجعل - يا إلهى - الصلاح راسخا فى ذريتى ، وساريها فيها ، لأن صلاح الذرية فيه السعادة الغامرة للآباء .
{ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } توبة صادقة نصوحا وإنى من المسلمين الذين أخلصوا نفسوهم لطاعتك ، وقلوبهم لمرضاتك .
فأنت ترى ان الآية الكريمة قد اشتملت على أسمى ألوان الدعوات ، التى عن طريق إجابتها تتحق السعادة الدنيوية والأخروية .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى " فى " فى قوله : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } ؟ قلت : معناه أن يجعل ذريته موقعا للصلاح ومظنته ، كأنه قال هب : لى الصلاح فى ذريتى ، وأوقعه فيهم .
وفى الآية الكريمة تنبيه للعقلاء ، إلى أن شأنهم - خصوصا عند بلوغ سن الأربعين . أن يكثروا من التضرع إلى الله بالدعاء ، وأن يتزودوا بالعمل الصالح ، فإنها السن التى بعث الله - تعالى - فيها معظم الأنبياء ، والتى فيها يكتمل العقل ، وتستجمع القوة ، ويرسخ فيها خلق الإِنسان الذى تعوده وألفه ورحم الله القائل :
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن . . . له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذى مضى . . . وإن جر أسباب الحاية له العمر
{ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } وقرأ الكوفيون " إحسانا " وقرئ { حسنا } أي إيصاء { حسنا } . { حملته أمه كرها ووضعته كرها } ذات كره أو حملا ذا كره وهو المشقة ، وقرأ الحجازيان وأبو عمرو وهشام بالفتح وهما لغتان كالفقر والفقر . وقيل المضموم اسم والمفتوح مصدر . { وحمله وفصاله } ومدة { حمله وفصاله } ، والفصال الفطام ويدل عليه قراءة يعقوب " وفصله " أو وقته والمراد به الرضاع التام المنتهى به ولذلك عبر به كما يعبر بالأمد عن المدة ، قال :
كل حي مستكمل عدة العم *** ر ومود إذا انتهى أمده
{ ثلاثون شهرا } كل ذلك بيان لما تكابده الأم في تربية الولد مبالغة في التوصية بها ، وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل سنة أشهر لأنه إذا حط منه الفصال حولان لقوله تعالى : { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } بقي ذلك وبه قال الأطباء ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط حكم النسب والرضاع بهما . { حتى إذا بلغ أشده } إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله . { وبلغ أربعين سنة } قيل لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين . { قال رب أوزعني } ألهمني وأصله أولعني من أوزعته بكذا . { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } يعني نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها ، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه . { وأن أعمل صالحا ترضاه } نكره للتعظيم أو لأنه أراد نوعا من الجنس يستجلب رضا الله عز وجل . { وأصلح لي في ذريتي } واجعل لي الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم ونحوه قوله :
وإن تعتذر بالمحل عن ذي ضروعها *** إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي { إني تبت إليك } عما لا ترضاه أو يشغل عنك . { وإني من المسلمين } المخلصين لك .