ثم بين - سبحانه - رذائل أهل الكتاب وأباطيلهم وسوء مصيرهم بعد حديثه القريب عن المنافقين . فقال - تعالى - { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ } بأن يجحدوا وحدانية الله ، وينكروا صدق رسله - عليهم الصلاة والسلام - { وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ } أى يريدون أن يفرقوا بين الإِيمان بالله - تعالى - وبين الإِيمان برسله ، بأن يعلنوا إِيمانهم بوجود الله - تعالى - وأنه خالق هذا الكون ، إلا أنهم يكفرون برسله أو ببعضهم .
قال القرطبى : نص - سبحانه - على أن التفريق بين الإِيمان بالله والإِيمان برسله كفر ، وإنما كان كفراً لأن الله سبحانه - فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل ، فإذا جحدوا رسالة الرسل فقد ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم ، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التى أمروا باتلزامها ، فكان كجحد الصانع - سبحانه - وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية . وكذلك التفريق بين رسله فى الإِيمان بهم كفر .
وقوله - تعالى - { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } حكاية لما نطقوا به من كفر وجحود . أى . ويقولون على سبيل التبجح والعناد : نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعضهم كما قال اليهود نؤمن بموسى والتوراة ونكفر بما وراء ذلك . وكما قال النصارى . نؤمن بعيسى والإِنجيل ونكفر بما سوى ذلك .
وقوله { وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } أى ويريدون بقولهم هذا أن يتخذوا بين الإِيمان بالبعض والكفر وبالبعض طريقا يسلكونه ، ودينا يتبعونه مع أنه لا واسطة ببينهما قطعا ، لأن الرسل جميعا قد بعثهم الله - تعالى - لدعوة الناس إلى توحيده ، وإخلاص العبادة لهو نشر مكارم الأخلاق فى الأرض . فمن كفر بواحد منهم كفر بهم جميعا .
يتوعد [ تبارك و ]{[8537]} تعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى ، حيث فَرّقوا بين الله ورسله في الإيمان ، فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض ، بمجرد التشهي والعادة ، وما ألفوا عليه آباءهم ، لا عن دليل قادهم إلى ذلك ، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية . فاليهود - عليهم لعائن الله - آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم ، والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران ، والمجوس يقال : إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له{[8538]} زرادشت ، ثم كفروا بشرعه ، فرفع من بين أظهرهم ، والله{[8539]} أعلم .
والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء ، فقد كفر بسائر الأنبياء ، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًّا ، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله { وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي : في الإيمان { وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } أي : طريقًا ومسلكًا .
{ إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلََئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ من اليهود والنصارى ، وَيُرِيدُون أنْ يُفَرّقُوا بينَ اللّهِ وَرُسُلِهِ بأن يكذّبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه ، ويزعمون أنهم افتروا على ربهم ، وذلك هو معنى إرادتهم التفريقَ بين الله ورسله ، بنحلتهم إياهم الكذب والفرية على الله ، وادّعائهم عليهم الأباطيل . وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ يعني أنهم يقولون : نصدّق بهذا ونكذّب بهذا ، كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قَبله بزعمهم ، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قَبله بزعمهم . وَيُرِيدُونَ أنَ يَتّخِذُوا بينَ ذَلِكَ سَبِيلاً يقول : ويريد المفرقون بين الله ورسله ، الزاعمون أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، أن يتخذوا بين أضعاف قولهم : نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض ، سبيلاً : يعني طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها والبدعة التي ابتدعوها ، يدعون أهل الجهر من الناس إليه . فقال جلّ ثناؤه لعباده ، منبها لهم على ضلالتهم وكفرهم : أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا يقول : أيها الناس هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم هم أهل الكفربي ، المستحقون عذابي والخلودَ في ناري حقّا ، فاستيقنوا ذلك ، ولا يشككنكم في أمرهم انتحالهم الكذب ودعواهم أنهم يقرّون بما زعموا أنهم به مقرون من الكتب والرسل ، فإنهم في دعواهم ما ادّعوا من ذلك كَذَبةٌ . وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل ، هو المصدّق ببعض ذلك وكذّب ببعض ، فهو لنبوّة من كذّب ببعض ما جاء به جاحد ، ومن جحد نبوّة نبيّ فهو به مكذّب . وهؤلاء الذين جحدوا نبوّة بعض الأنبياء وزعموا أنهم مصدّقون ببعض ، مكذّبون من زعموا أنهم به مؤمنون ، لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم ، فهم بالله وبرسله الذين يزعمون أنهم بهم مصدّقون ، والذين يزعمون أنهم بهم مكذّبون كافرون ، فهم الجاحدون وحدانية الله ونبوّة أنبيائه ، حقّ الجحود المكذّبون بذلك حقّ التكذيب ، فاحذروا أن تغترّوا بهم وببدعتهم ، فإنا قد أعتدنا لهم عذابا مهينا .
وأما قوله : وَأعْتَدْنا للكافِرِينَ عَذَابا مُهِينا فإنه يعني : وأعتدنا لمن جحد بالله ورسوله جحود هؤلاء الذين وصفت لكم أيها الناس أمرهم من أهل الكتاب ولغيرهم من سائر أجناس الكفار عذابا في الاَخرة مهينا ، يعني : يهين من عذّب به بخلوده فيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرّقُوا بينَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أنْ يَتّخِذُوا بينَ ذَلكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا وأعْتَدْنا للْكافِرِينَ عَذَابا مُهِينا أولئك أعداء الله اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، فاتخذوا اليهودية والنصرانية ، وهما بدعتان ليستا من الله ، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرّقُوا بينَ اللّهِ وَرُسُلِهِ يقولون : محمد ليس برسولٍ لله وتقول اليهود : عيسى ليس برسولٍ لله ، فقد فرّقوا بين الله وبين رسله . وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ . . . إلى قوله : بينَ ذَلِكَ سَبِيلاً قال : اليهود والنصارى : آمنت اليهود بعزير وكفرت بعيسى ، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعُزَير ، وكانوا يؤمنون بالنبيّ ويكفرون بالاَخر . وَيُرِيدُونَ أنْ يَتّخِذُوا بينَ ذَلِكَ سَبِيلاً قال : دِينا يدينون به الله .
وقوله تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله } إلى آخر الآية .
نزل في اليهود والنصارى ، لأنهم في كفرهم بمحمد عليه السلام كأنهم قد كفروا بجميع الرسل . وكفرهم بالرسل كفر بالله ، وفرقوا بين الله ورسله في أنهم قالوا : نحن نؤمن بالله ولا نؤمن بفلان وفلان من الأنبياء ، وقولهم { نؤمن ببعض ونكفر ببعض } قيل : معناه من الأنبياء ، وقيل : هو تصديق بعضهم لمحمد في أنه نبي ، لكن ليس إلى بني إسرائيل ، ونحو هذا من تفريقاتهم التي كانت تعنتاً وروغاناً ، وقوله { بين ذلك } أي بين الإيمان والإسلام والكفر الصريح المجلح{[4354]} .
عادة القرآن عند التعرّض إلى أحوال مَن أظهروا النِّواء للمسلمين أن ينتقل من صفات المنافقين ، أو أهل الكتاب ، أو المشركين إلى صفات الآخرين ، فالمراد من الذين يكفرون بالله ورسله هنا هم اليهود وَالنصارى ، قاله أهل التفسير . والأظهر أنّ المراد به اليهود خاصّة لأنّهم المختلطون بالمسلمين والمنافقين ، وكان كثير من المنافقين يهوداً وعبّر عنهم بطريق الموصول دون الاسم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه الخير ، ومن شناعة صنيعهم ليناسب الإخبار عنهم باسم الإشارة بعد ذلك .
وجُمع الرسل لأنّ اليهود كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام ، والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فجمع الرسل باعتبار مجموع الكفّار ، أو أراد بالجمع الاثنين ، أو أراد بالإضافة معنى الجنس فاستوى فيه صيغة الإفراد والجمع ، لأنّ المقصود ذمّ مَن هذه صفتهم بدون تعيين فريق ، وطريق العرب في مثل هذا أن يعبّروا بصيغة الجموع وإن كان المعرّض به واحداً كقوله تعالى : { أم يحسدون الناس } [ النساء : 54 ] وقوله : { الذين يبْخلون ويأمرون الناس بالبخل } [ النساء : 37 ] { يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا } [ المائدة : 44 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " مَا بال أقوام يشترطون شروطاً " . وجيء بالمضارع هنا للدلالة على أنّ هذا أمر متجدّد فيهم مستمرّ ، لأنَّهم لو كفروا في الماضي ثم رجعوا لما كانوا أحرياء بالذمّ .
ومعنى كفرهم بالله : أنَّهم لمّا آمنوا به ووصفوه بصفات غير صفاته من التجسيم واتّخاذ الصاحبة والولد والحلول ونحو ذلك ، فقد آمنوا بالاسم لا بالمسمّى ، وهم في الحقيقة كفروا بالمسمّى ، كما إذا كان أحد يظنّ أنَّه يعرف فلاناً فقلت له : صفه لي ، فوصفه بغير صفاته ، تقول له : « أنت لا تعرفه » ؛ على أنّهم لمَّا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفروا بما جاء به من توحيد الله وتنزيهه عن مماثلة الحوادث ، فقد كفروا بإلهيته الحقّة ، إذ منهم من جسّم ومنهم من ثلّث .
ومعنى قوله : { ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } أنّهم يحاولون ذلك فأطلقت الإرادة على المحاولة ، وفيه إيذان بأنَّه أمر صعب المنال ، وأنَّهم لم يبلغوا ما أرادوا من ذلك ، لأنّهم لم يزالوا يحاولونه ، كما دلّ عليه التعبير بالمضارع في قوله : { ويريدون } ولو بلغوا إليه لقال : وفرّقوا بين الله ورسله .
ومعنى التفريق بين الله ورسله أنّهم ينكرون صدق بعض الرسل الذين أرسلهم الله ، ويعترفون بصدق بعض الرسل دون بعض ، ويزعمون أنَّهم يؤمنون بالله ، فقد فرّقوا بين الله ورسله إذ نفوا رسالتهم فأبعدوهم منه ، وهذا استعارة تمثيليّة ، شبّه الأمر المتخيّل في نفوسهم بما يضمره مريد التفريق بين الأولياء والأحباب ، فهي تشبيه هيئة معقولة بهيئة معقولة ، والغرض من التشبيه تشويه المشبّه ، إذ قد علم الناس أنّ التفرقة بين المتّصلين ذميمة .
وهذه الآية في معنى الآيات التي تقدّمت في سورة البقرة : { لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } [ البقرة : 136 ] ، { لا نفرّق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] ، وفي سورة آل عمران { لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } [ آل عمران : 84 ] إلاّ أنّ تلك الآيات في التحذير من التفريق بين الرسل ، والآية هذه في التحذير من التفريق بين الله وبعض رسله ، ومآل الجميع واحد : لأنّ التفريق بين الرسل يستلزم التفريق بين الله وبعض رسله . وإضافة الجمع إلى الضمير هنا للعهد لا للعموم بالقرينة ، وهي قوله : { ويقولون نؤمن ببعض } .
وجملة { ويقولون نؤمن ببعض } واقعة في معنى الاستئناف البياني للتفريق بين الله ورسله ، ولكنَّها عطفت ؛ لأنّها شأن خاصّ من شؤونهم ، إذ مدلولها قول من أقوالهم الشنيعة ، ومدلول { يريدون } هيئة حاصلة من كفرهم ، فلذلك حسن العطف باعتبار المغايرة ولو في الجملة ، ولو فصلت لكان صحيحاً .
ومعنى { يقولون نؤمن } الخ أنّ اليهود يقولون : نؤمن بالله وبموسى ونكفر بعيسى ومحمد ، والنصارى يقولون : نؤمن بالله وبموسى وعيسى ونكفر بمحمد ، فآمنوا بالله وبعض رسله ظاهراً وفرّقوا بينه وبين بعض رسله .
والإرادة في قوله { ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلاً } إرادة حقيقية . والسبيل يحتمل أن يراد به سبيل النجاة من المؤخذة في الآخرة توهّماً أنّ تلك حيلة تحقّق لهم السلامة على تقدير سلامة المؤمنين ، أو سبيل التنصّل من الكفر ببعض الرسل ، أو سبيلاً بين دينَين ، وهذان الوجهان الأخيران يناسبان انتقالهم من الكفر الظاهر إلى النفاق ، فكأنّهما تهيئة للنفاق .
وهذا التفسير جار على ظاهر نظم الكلام ، وهو أن يكون حرف العطف مشرِّكاً بين المتعاطفات في حكم المعطوف عليه ، وإذ قد كان المعطوف عليه الأول صلة ل { لذين } ، كان ما عطف عليه صِلات لذلك الموصول وكان ذلك الموصول صاحب تلك الصِّلات كلّها .
ونُسِب إلى بعض المفسّرين أنّه جعل الواوات فيها بمعنى ( أو ) وجعل الموصول شاملاً لِفرق من الكفّار تعدّدت أحوال كفرهم على توزيع الصِّلات المتعاطفة ، فجعلَ المراد بالذين يكفرون بالله ورسله المشركين ، والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله قوماً أثبتوا الخالق وأنكروا النبوءات كلّها ، والذين يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض اليهودَ والنصارى . وسكت عن المراد من قوله : { ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً } ، ولو شاء لجعل أولئك فريقاً آخر : وهم المنافقون المتردّدون الذين لم يثبتوا على إيمان ولا على كفر ، بل كانوا بين الحالين ، كما قال تعالى : { مذبذبين بين ذلك } [ النساء : 143 ] . والذي دعاه إلى هذا التأويل أنَّه لم يجد فريقاً جمع هذه الأحوال كلّها على ظاهرها لأنّ اليهود لم يكفروا بالله ورسله ، وقد علمت أنّ تأويل الكفر بالله الكفر بالصفات التي يَستلزم الكفر بها نفي الإلهية .
وهذا الأسلوب نادر الاستعمال في فصيح الكلام ، إذ لو أريد ذلك لكان الشأن أن يقال : والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله والذين يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كما قال :
{ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] .