والإِشارة فى قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل } تعود إلى ما مر من ذم الكافرين ، ومدح المؤمنين .
أى : ذلك الذين حكمنا به من ضلال أعمال الكافرين ، ومن إصلاح بال المؤمنين ، سببه أن الذين كفروا ابتعوا فى دنياهم الطريق الباطل الذى لا خير فيه ولا فلاح . وأن الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحاة فى دنياهم ، اتبعوا طريق الحق الكائن من ربهم .
فالمراد بالباطل هنا . الكفر وما يتبعه من أعمال قبيحة ، والمراد بالحق : الإِيمان والعمل الصالح .
وقوله { ذَلِكَ } مبتدأ ، وخبره ما بعده .
وقوله : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أى : مثل ذلك البيان الرائع الحكيم ، يبين الله - تعالى - : للناس أحوال الفريقين ، وأوصافهما الجارية فى الغرابة مجرى الأمثال ، وهى اتباعُ المؤمنين الحقَّ وفوزُهم ، واتباعُ الكافرين الباطَل وخسرانهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أين ضرب الأمثال ؟ قلت : فى جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلا لعلم المؤمنين ، أو فى أن جعل الإِضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين .
ثم قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ } أي : إنما أبطلنا أعمال الكفار ، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار ، وأصلحنا شؤونهم ؛ لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ، أي : اختاروا الباطل على الحق ، { وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أي : يبين لهم مآل أعمالهم ، وما يصيرون إليه في معادهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ اتّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنّ الّذِينَ آمَنُواْ اتّبَعُواْ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنّاسِ أَمْثَالَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : هذا الذي فعلنا بهذين الفريقين من إضلالنا أعمال الكافرين ، وتكفيرنا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، جزاء منا لكلّ فريق منهم على فعله . أما الكافرون فأضللنا أعمالهم ، وجعلناها على غير استقامة وهدى ، بأنهم اتبعوا الشيطان فأطاعوه ، وهو الباطل . كما :
24250حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، وعباس بن محمد ، قالا : حدثنا حجاج بن محمد ، قال : قال ابن جُرَيج : أخبرني خالد أنه سمع مجاهدا يقول ذلكَ بأنّ الّذِينَ كَفَرُوا اتّبَعُوا الباطِلَ قال : الباطل : الشيطان . وأما المؤمنون فكفّرنا عنهم سيئاتهم ، وأصلحنا لهم حالهم بأنهم اتبعوا الحقّ الذي جاءهم من ربهم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند ربه من النور والبرهان كَذَلكَ يَضْرِبُ اللّهُ للنّاسِ أمْثالَهُمْ يقول عزّ وجلّ : كما بينت لكم أيها الناس فعلي بفريق الكفر والإيمان ، كذلك نمثل للناس الأمثال ، ونشبه لهم الأشباه ، فنلحق بكلّ قوم من الأمثال أشكالاً .
وقوله تعالى : { ذلك بأن الذين كفروا } الإشارة إلى هذه الأفعال التي ذكر الله أنه فعلها بالكفار وبالمؤمنين . و : { الباطل } الشيطان وكل ما يأمر به ، قاله مجاهد . و : { الحق } هنا هو الشرع ومحمد عليه السلام .
وقوله : { كذلك } يبين أمر كل فرقة ويجعل لها ضربها من القول وصنفها . وضرب المثل مأخوذ من الضريب والضرب الذي هو بمعنى النوع .
{ ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءَامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ } .
هذا تبيين للسبب الأصيل في إضلال أعمال الكافرين وإصلاح بال المؤمنين . والإتيان باسم الإشارة لتمييز المشار إليه أكملَ تمييز تنويهاً به . وقد ذُكرت هذه الإشارة أربع مرات في هذه الآيات المتتابعة للغرض الذي ذكرناه .
والإشارة إلى ما تقدم من الخبرين المتقدمين ، وهما { أضل أعمالهم } [ محمد : 1 ] و { كفَّر عنهم سيئاتهمْ وأصلح بالهم } [ محمد : 2 ] ، مع اعتبار علتي الخبرين المستفادتين من اسمي الموصول والصلتين وما عطف على كلتيهما .
واسم الإشارة مبتدأ ، وقوله : { بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } الخ خبره ، والباء للسببيّة ومجرورها في موضع الخبر عن اسم الإشارة ، أي ذلك كائن بسبب اتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق ، ولما كان ذلك جامعاً للخبرين المتقدمين كان الخبر عنه متعلقاً بالخبرين وسبباً لهما . وفي هذا محسن الجمع بعد التفريق ويسمونه كعكسه التفسيرَ لأن في الجمع تفسيرا للمعنى الذي تشترك فيه الأشياء المتفرقة تقدمَ أو تأخَّرَ . وشاهده قول حسان من أسلوب هذه الآية :
قوم إذا حاربوا ضَرّوا عدوَّهم *** أو حاولوا النفعَ في أشياعهم نفَعوا
سَجية تلكَ فيهم غير مُحدثـة *** إنَّ الخَــلائق فاعَلمْ شرُّها البِدَع
قال في « الكشاف » : وهذا الكلام يسميه علماء البيان التفسير ، يريد أنه من المحسنات البديعية . ونقل عن الزمخشري أنه أنشد لنفسه لمّا فسر لطلبته هذه الآية فقُيد عنه في الحواشي قوله :
به فُجع الفرسان فوق خيولهم *** كما فُجعت تحت الستور العواتق
تساقط من أيديهم البِيضُ حيرة *** وزُعزع عن أجيادهن المخانق
وفي هذه الآية محسِّن الطباق مرتين بين { الذين كفروا } و { الذين آمنوا } وبين { الحق } و { الباطل } . وفي بيتي الزمخشري محسّن الطباق مرة واحدة بين فوق وتحت . واتباع الباطل واتباع الحق تمثيليتان لهيئتي العمل بما يأمر به أيمة الشرك أولياءهم وما يدعو إليه القرآن ، أي عملوا بالباطل وعمل الآخرون بالحق .
ووصف { الحق } بأنه { من ربهم } تنويه به وتشريف لهم .
{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم } .
تذييل لما قبله ، أي مثل ذلك التبيين للحالين يبين الله الأحوال للناس بياناً واضحاً .
والمعنى : قد بيّنا لكل فريق من الكافرين والمؤمنين حاله تفصيلاً وإجمالاً ، وما تفضي إليه من استحقاق المعاملة بحيث لم يبق خفاء في كنه الحالين ، ومثل ذلك البيان يمثل الله للناس أحوالهم كيلا تلتبس عليهم الأسباب والمسببات .
ومعنى { يضرب } : يلقي وهذا إلقاء تبيين بقرينة السياق ، وتقدم عند قوله تعالى : { أن يضرب مثلاً } ما في سورة البقرة ( 26 ) .
والأمثال : جمع مثَل بالتحريك وهو الحال التي تمثل صاحبها ، أي تشهره للناس وتعرفهم به فلا يلتبس بنظائره . واللام للأجل ، والمراد بالناس جميع الناس . وضمير { أمثالهم } للناس .
والمعنى : كهذا التبيين يبّين الله للناس أحوالهم فلا يبقوا في غفلة عن شؤون أنفسهم محجوبين عن تحقق كنههم بحِجَاب التعود لئلا يختلط الخبيث بالطيب ، ولكي يكونوا على بصيرة في شؤونهم ، وفي هذا إيماء إلى وجوب التوسم لتمييز المنافقين عن المسلمين حقاً ، فإن من مقاصد السورة التحذير من المنافقين .