ثم بين - سبحانه - موقف هؤلاء المشركين من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } .
أى : وإن يرى هؤلاء المشركون آية ومعجزة تدل على صدقك - أيها الرسول الكريم - يعرضوا عنها جحودا وعنادا . ويقولوا - على سبيل التكذيب لك - ما هذا الذى أتيتنا به يا محمد إلا سحر مستمر ، أى : سحر دائم نعرفه عنك ، وليس جديدا علينا منك .
قال صاحب الكشاف : { مُّسْتَمِرٌّ } أى دائم مطرد ، وكل شىء قد انقادت طريقته ، ودامت حاله ، قيل فيه قد استمر ، لأنهم لما رأوا تتابع المعجزات ، وترادف الآيات . قالوا : " هذا سحر مستمر " .
وقيل : مستمر ، أى : قوى محكم - من المرَّة بمعنى القوة - ، وقيلك هو من استمر الشىء إذا اشتدت مرارته ، أى : مستبشع عندنا مُرٌّ على لَهوَاتِنا ، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ الشىء المر . وقيل : مستمر ، أى : مار ذاهب زائل عما قريب - من قولهم : مَرَّ الشىء واستمر إذا ذهب .
وقوله : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً } أي : دليلا وحجة وبرهانا { يعرضوا } أي : لا ينقادون له ، بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم ، { وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } أي : ويقولون : هذا الذي شاهدناه من الحجج ، سحرٌ سحرنا به .
ومعنى { مُسْتَمِرٌّ } أي : ذاهب . قاله مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما ، أي : باطل مضمحل ، لا دوام له .
وقوله : وَإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا يقول تعالى ذكره . وإن ير المشركون علامة تدلهم على حقيقة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ودلالة تدلهم على صدقة فيما جاءهم به عن ربهم ، يعرضوا عنها ، فيولوا مكذّبين بها مُنكرين أن يكون حقا يقينا ، ويقولوا تكذيبا منهم بها ، وإنكارا لها أن تكون حقا : هذا سحر سَحَرنا به محمد حين خَيّلَ إلينا أنا نرى القمر منفلقا باثنين بسحره ، وهو سحر مستمرّ ، يعني يقول : سِحر مستمرّ ذاهب ، من قولهم : قد مرّ هذا السحر إذا ذهب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : سِحْرٌ مُسْتَمِرّ قال : ذاهب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ قال : إذا رأى أهل الضلالة آية من آيات الله قالوا : إنما هذا عمل السحر ، يوشك هذا أن يستمرّ ويذهب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَيَقُولوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ يقول : ذاهب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ كما يقول أهل الشرك إذا كُسِف القمر يقولون : هذا عمل السحرة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قوله : سِحْرٌ مُسْتَمِرّ قال : حين انشقّ القمر بفِلقتين : فِلْقة من وراء الجبل ، وذهبت فلقة أخرى ، فقال المشركون حين رأوا ذلك : سحر مستمرّ .
وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يوجه قوله : مُسْتَمِرّ إلى أنه مستفعل من الإمرار من قولهم : قد مرّ الجبل : إذا صلب وقوي واشتدّ وأمررته أنا : إذا فتلته فتلاً شديدا ، ويقول : معنى قوله : وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ : سحر شديد .
وقوله : { وإن يروا } جاء اللفظ مستقبلاً لينتظم ما مضى وما يأتي ، فهو إخبار بأن حالهم هكذا ، واختلفت الناس في معنى : { مستمر } فقال الزجاج قيل معناه : دائم متماد . وقال قتادة ومجاهد والكسائي والفراء معناه : مار ذاهب عن قريب يزول . وقال أبو العالية والضحاك معناه : مشدود من مرائير الحبل كأنه سحر قد أمر ، أي أحكم . ومنه قول الشاعر [ لقيط بن زرارة ] : [ البسيط ]
حتى استمرت على شزر مريرته . . . صدق العزيمة لا رتّاً ولا ضرعا{[10755]} .
يجوز أن يكون تذييلاً للإِخبار بانشقاق القمر فيكون المراد ب { آية } في قوله : { وإن يروا آية } القمرَ . فقد جاء في بعض الآثار : أن المشركين لما رأوا انشقاق القمر قالوا : « هذا سحر محمد بن أبي كبشة » وفي رواية قالوا : « قد سَحَر محمد القمر » ، ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً من ذكر أحوال تكذيبهم ومكابرتهم وعلى كلا الوجهين فإن وقوع { آية } ، وهو نكرة في سياق الشرط يفيد العموم .
وجيء بهذا الخبر في صورة الشرط للدلالة على أن هذا ديدنهم ودأبهم .
وضمير { يروا } عائد إلى غير مذكور في الكلام دال عليه المقام وهم المشركون ، كما جاء في مواضع كثيرة من القرآن ، مع أن قصة انشقاق القمر وطعنهم فيها مشهور يومئذٍ معروفة أصحابه ، فهم مستمرون عليه كلما رأوا آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم .
ووصف { مستمر } يجوز أن يكون مشتقاً من فعل مَرّ الذي هو مجاز في الزوال والسين والتاء للتقوية في الفعل ، أي لا يبقى القمر منشقاً . ويجوز أن يكون مشتقاً من المِرة بكسر الميم ، أي القوة ، والسين والتاء للطلب ، أي طلب لفعله مِرّة ، أي قوة ، أي تمكناً . والمعنى : هذا سحر معروف متكرر ، أي معهود منه مثله .