ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الأسباب التى تحمل الإِنسان على الطغيان فقال : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى . أَن رَّآهُ استغنى } .
و " كلا " حرف ردع وزجر لمن تكبر وتمرد . . فهو زجر عما تضمنه ما بعدها ، لأن ما قبلها ليس فيه ما يوجب الزجر والردع ، ويصح أن تكون " كلا " هنا بمعنى حقا . وقوله : { يطغى } من الطغيان ، وهو تجاوز الحق فى التكبر والتمرد . والضمير فى قوله { رآه } يعود على الإِنسان الطاغى ، والجملة متعلقة بقوله { يطغى } بحذف لام التعليل ، والرؤية بمعنى العلم .
والمعنى : حقا إن الإِنسان ليتعاظم ويتكبر ويتمرد على الحق ، لأنه رأى نفسه ذا غنى فى المال والجاه والعشيرة ، ورآها - لغروره وبطره - ليست فى حاجة إلى غيره .
والمراد بالإِنسان هنا جنسه ؛ لأن من طبع الإِنسان أن يطغى ، إذا ما كثرت النعم بين يديه ، إلا من عصمه الله - تعالى - من هذا الخُلُقِ الذميم ، بأن شكره - سبحانه - على نعمه ، واستعملها فى طاعته .
وقيل : المراد بالإِنسان هنا أبو جهل ، وأن هذه الآيات وما بعدها حتى آخر السورة قد نزلت فى أبي جهل ، فقد أخرج البخارى عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة ، لأطأن على عنقه ، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال : " لئن فعل لأخذته الملائكة " . ونزول هذه الآيات فى شأن أبي جهل لا يمنع عموم حكمها ، ويدخل فى هذا الحكم دخولا أوليا أبو جهل ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
والاستغناء : شدة الغنى ، فالسين والتاء فيه للمبالغة في حصول الفعل مثل استجاب واستقر .
و { وَأنْ رآه } متعلق ب« يطغى » بحذف لام التعليل لأن حذف الجار مع ( أنْ ) كثير شائع ، والتقدير : إنّ الإِنسان ليطغى لرؤيته نفسه مستغنياً .
وعلة هذا الخُلق أن الاستغناء تحدث صاحبَه نفسُه بأنه غير محتاج إلى غيره وأن غيره محتاج فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصير خلقاً حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم لأن له ما يدفع به الاعتداء من لأمةِ سلاحٍ وخدممٍ وأعوان وعُفاة ومنتفعين بماله من شركاء وعمال وأُجراء فهو في عزة عند نفسه .
فقد بينت هذه الآية حقيقةً نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس . ونبهت على الحذر من تغلغلها في النفس .
وضمير { رآه } المستتر المرفوع على الفاعلية وضميرُه البارز المنصوب على المفعولية كلاهما عائد إلى الإِنسان ، أي أن رأى نفسه استغنى .
ولا يجتمع ضميران متحدا المعاد : أحدهما فاعل ، والآخر مفعول في كلام العرب ، إلا إذا كان العامل من باب ظن وأخواتها كما في هذه الآية ، ومنه قوله تعالى : { قال أرأيتك هذا الذي كرمت عليَّ } في سورة الإسراء ( 62 ) . قال الفراء : والعرب تطرح النفس من هذا الجنس ( أي جنس أفعال الظن والحسبان ) تقول : رأيتُني وحسبتُني ، ومتى تَراك خارجاً ، ومتى تظُنك خارجاً ، وألحقت ( رأى ) البصرية ب ( رأى ) القلبية عند كثير من النحاة كما في قول قطري بن الفجاءة :
فلقد أراني للرِّمَاح دَريئة *** من عن يميني مرة وأمامي
ومن النادر قول النّمر بن تَوْلَب :
قد بِتُّ أحْرُسُنِي وَحْدِي وَيَمْنَعُنِي *** صوتُ السباع به يضبَحْن والْهامِ
وقرأ الجميع أن رآه } بألف بعد الهمزة ، وروى ابن مجاهد عن قنبل أنه قرأه عن ابن كثير « رأه » بدون ألف بعد الهمزة ، قال ابن مجاهد : هذا غلط ولا يعبأ بكلام ابن مجاهد بعد أن جزم بأنه رواه عن قنبل ، لكن هذا لم يروه غير ابن مجاهد عن قنبل فيكون وجهاً غريباً عن قنبل .
وأُلحق بهذه الأفعال : فعل فقَدَ وفعل عَدِم إذا استعملا في الدعاء نحو قول القائل : فقَدْتُني وعَدِمْتُني .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.