74- ثم أرسلنا من بعد نوح رُسُلاً آخرين ، داعين إلى التوحيد ، ومبشرين ومنذرين ، ومؤيدين بالمعجزات الدالة على صدقهم ، فكذبت أقوامهم كما كذب قوم نوح ، فما كان من شأن الجاحدين منهم أن يذعنوا ، لأن التكذيب سبق التبصر والاعتبار ، وبذلك طبع الله الباطل على قلوب الذين من شأنهم الاعتداء على الحقائق وعلى البينات .
ثم حكت السورة الكريمة أن الله - تعالى - قد أرسل رسلا كثيرين بعد نوح - عليه السلام - فكان موقف أقوامهم منهم مشابها لموقف قوم نوح منه ، فقال - تعالى - :
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ . . . } .
أى : ثم بعثنا من بعد نوح - عليه السلام - رسلا كثيرين دوى قدر عظيم إلى أقوامهم ، ليخرجوهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان فهود - عليه السلام - أرسلناه إلى قوم عاد ، وصالح - عليه السلام - أرسلناه إلى ثمود ، وهذا أرسلنا رسلا كثيرين إلى أقوامهم .
وقوله : { فَجَآءُوهُمْ بالبينات } أى : فأتى كل رسول قومه بالمعجزات الواضحات ، وبالحجج الساطعات الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه .
وقوله - { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } بيان لموقف هؤلاء الأقوام الجاحدين من رسلهم الذين جاءوا لهدايتهم وسعادتهم .
وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال :
فمنهم من يرى أن الضمائر في " كانوا ، ويؤمنوا ، وكذبوا " تعود على أقوام الرسل الذين جاءوا من بعد نوح - عليه السلام - وأن المراد بقوله : { من قبل } أى : من قبل مجئ الرسل إليهم .
والمعنى على هذا الرأى : ثم بعثنا من بعد نوح - عليه السلام - رسلا كثيرين إلى أقوامهم فجاءهم بالمعجزات الدالة على صدقهم ، إلا أن هؤلاءا لأقوام الأشقياء . استمروا على كفرهم وعنادهم ، وامتنعوا عن الإِيمان بما كذبوا به من قبل مجئ الرسل إليهم وهو إفراد الله - تعالى بالعبادة والطاعة فكان حالهم في الإِصرار على الكفر والجحود قبل مجئ الرسل إليهم ، كحالهم بعد أن جاءهم بالهدى ودين الحق ، حتى لكأنهم لم يأتهم من بشير ولا نذير .
ومن المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى الإِمام البيضاوي فقد قال : " قوله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } أى : فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر ، وخذلان الله إياهم . . بما كذبوا به من قبل ، أى بسبب تعودهم تكذيب الحق ، وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - " .
ومنهم من يرى - أيضا - أن الضمائر تعود على أقوام الرسل الذين جاءوا من بعد نوح - عليه السلام - إلا أن المراد بقوله { مِن قَبْلُ } : أى : من قبل ابتداء دعوة الرسل لهؤلاء الأقوام .
وعليه يكون المعنى : ثم بعثنا من نوح - عليه السلام - رسلا كثيرين إلى أقوامهم ، فجاءهم بالأدلة الواضحة الدالة على صدقهم ، إلا أن هؤلاء الأقوام قابلوا رسلهم بالتكذيب من أول يوم ، واستمروا على ذلك حتى آخر أحوالهم معهم ، فكان تكذيبهم لهم في آخر أحوالهم معهم ، يشبه تكذيبهم لهم من قبل : أى : في أول مجيئهم إليهم .
ومن المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى : الإِمام ابن كثير فقال قال : " قوله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أى : فما كاننت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم ، بسبب تكذيبهم إياهم أول من أرسلوا إليهم ، كما قال - تعالى -
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ومنهم من يرى أن الضمير في قوله : " كانوا ويؤمنوا " يعود على أقوام الرسل الذين جاءوا من بعد نوح - عليه السلام - وأن الضمير في قوله " كذبوا " يعود إلى قوم نوح ، وعلى هذا الرأى يكون المعنى :
ثم بعثنا من بعد نوح - عليه السلام - رسلا إلى أقوامهم ، فجاءوهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم ، ولكن هؤلاء الأقوام استمروا في كفرهم وعنادهم ، وأبوا أن يؤمنوا بوحدانية الله التي كذب بها قوم نوح من قبل .
ومن المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى الإِمام ابن جرير فقد قال " قوله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } يقول : " فما كانوا ليصدقوا بما جاءتهم به رسلهم وبما كذب به قوم نوح ومن قبلهم من الأمم الخالية . . "
وعلى أية حال فهذه الأقوال الثلاثة ، تدل على أن هؤلاء الأقوام عموا وصموا عن الحق ، واستمروا على ذلك دون أن تحولهم الآيات البينات التي جاءهم بها الرسل عن عنادهم وضلالهم .
وقوله : { كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين } بيان لسنة الله - تعالى - في خلقه التي لا تتخلف ولا تتبدل . والطبع : الختم والاستيثاق بحيث لا يخرج من الشيء ما دخل فيه ، ولا يدخل فيه ما خرج منه .
أى : مثل ذلك الطبع المحكم نطبع على قلوب المعتدين المتجاوزين للحدود في الكفر والجحود ، وذلك بخذلانهم ، وتخليتهم وشأنهم ، لانهماكهم في الغواية والضلال .
وفي اختصار وإجمال يشير السياق إلى الرسل بعد نوح ، وما جاءوا به من البينات والخوارق وكيف تلقاها المكذبون الضالون :
( ثم بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات ، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، كذلك نطبع على قلوب المعتدين ) . .
فهؤلاء الرسل جاءوا قومهم بالبينات . والنص يقول : إنهم ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل . . وهذا يحتمل أنهم بعد مجيء الآيات ظلوا يكذبون كما كانوا قبلها يكذبون . فلم تحولهم الآيات عن عنادهم . كما يحتمل أن المكذبين جماعة واحدة على اختلاف أجيالهم ، لأنهم ذوو طبيعة واحدة . فهؤلاء ما كان يمكن أن يؤمنوا بما كذب به أسلاف لهم ، أو بما كذبوا هم به في أشخاص هؤلاء الأسلاف ! فهم منهم ، طبيعتهم واحدة ، وموقفهم تجاه البينات واحد . لا يفتحون لها قلوبهم ، ولا يتدبرونها بعقولهم . وهم معتدون متجاوزون
حد الاعتدال والاستقامة على طريق الهدى ، ذلك أنهم يعطلون مداركهم التي أعطاها اللّه لهم ليتدبروا بها ويتبينوا . وبمثل هذا التعطيل ، تغلق قلوبهم وتوصد منافذها :
( كذلك نطبع على قلوب المعتدين ) .
حسب سنة اللّه القديمة في أن القلب الذي يغلقه صاحبه ينطبع على هذا ويجمد ويتحجر ، فلا يعود صالحاً للتلقي والاستقبال . . لا أن الله يغلق هذه القلوب ليمنعها ابتداء من الاهتداء . فإنما هي السنة تتحقق مقتضياتها في جميع الأحوال .
{ ثم بعثنا } أرسلنا . { من بعده } من بعد نوح . { رُسلاً إلى قومهم } كل رسول إلى قومه . { فجاءوهم بالبينات } بالمعجزات الواضحة المثبتة لدعواهم . { فما كانوا ليؤمنوا } فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر وخذلان الله إياهم . { بما كذّبوا به من قبل } أي بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثه الرسل عليه الصلاة والسلام . { كذلك نطبع على قلوب المعتدين } بخذلانهم لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف ، وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد وقد مر تحقيق ذلك .
الضمير في قوله { من بعده } عائد على نوح عليه السلام والضمير في { قومهم } عائد على الرسل ، ومعنى هذه الآيات كلها ضرب المثل لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم ، أي كما حل بهؤلاء يحل بكم ، و { البينات } المعجزات والبراهين الواضحة ، والضمير في قوله { كانوا } وفي { ليؤمنوا } عائد على قوم الرسل ، والضمير في { كانوا } عائد على قوم نوح ، وهذا قول بعض المتأولين ، وقال بعضهم : بل تعود الثلاثة على قوم الرسل على معنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ثم لجوا في الكفر وتمادوا فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم ، وقال يحيى بن سلام{[6183]} { من قبل } معناه من قبل العذاب .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول بعد ، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو أن تكون «ما » مصدرية والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي من سببه ومن جرائه{[6184]} ، ويؤيد هذا التأويل قوله { كذلك نطبع } ، وقال بعض العلماء : عقوبة التكذيب الطبع على القلوب ، وقرأ جمهور الناس : «نطبع » بالنون ، وقرأ العباس بن الفضل : «يطبع » بالياء ، وقوله { كذلك } أي هذا فعلنا بهؤلاء ، ثم ابتدأ { كذلك نطبع } أي كفعلنا هذا و { المعتدين } هم الذين تجاوزوا طورهم واجترحوا ما لا يجوز لهم وهي ها هنا في الكفر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم بعثنا من بعده}، يعني من بعد نوح، {رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات} ثم أخبر بعلمه فيهم، فقال: {فما كانوا ليؤمنوا} يعني ليصدقوا {بما كذبوا به}، يعني العذاب، {من قبل} نزول العذاب.
{كذلك نطبع}، يعني هكذا نختم {على قلوب المعتدين} يعني الكافرين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح رسلاً إلى قومهم، فأتوهم ببينات من الحجج والأدلة على صدقهم، وأنهم لله رسل، وأن ما يدعونهم إليه حقّ. "فما كَانُوا ليُؤْمِنُوا بما كَذّبُوا به مِنْ قَبْلُ "يقول: فما كانوا ليصدّقوا بما جاءتهم به رسلهم بما كذّب به قوم نوح ومن قبلهم من الأمم الخالية من قبلهم. "كذلكَ نَطْبَعُ على قُلُوبِ المُعْتَدِينَ" يقول تعالى ذكره: كما طبعنا على قلوب أولئك فختمنا عليها فلم يكونوا يقبلون من أنبياء الله نصيحتهم ولا يستجيبون لدعائهم إياهم إلى ربهم بما اجترموا من الذنوب واكتسبوا من الآثام، كذلك نطبع على قلوب من اعتدى على ربه، فتجاوز ما أمره به من توحيده، وخالف ما دعاهم إليه رسلهم من طاعته، عقوبة لهم على معصيتهم ربهم من هؤلاء الآخرين من بعدهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِن بَعْدِهِ} من بعد نوح {رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} يعني هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً {فَجَاءوهُم بالبينات} بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} فما كان إيمانهم إلاّ ممتنعاً كالمحال لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق، فما وقع فصل بين حالتهم بعد بعثة الرسل وقبلها، كأن لم يبعث إليهم أحد {كَذَلِكَ نَطْبَعُ} مثل ذلك الطبع المحكم نطبع {على قُلوبِ المعتدين} والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم، لأنّ الخذلان يتبعه. ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الضمير في قوله {من بعده} عائد على نوح عليه السلام والضمير في {قومهم} عائد على الرسل، ومعنى هذه الآيات كلها ضرب المثل لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، أي كما حل بهؤلاء يحل بكم، و {البينات} المعجزات والبراهين الواضحة، والضمير في قوله {كانوا} وفي {ليؤمنوا} عائد على قوم الرسل، والضمير في {كانوا} عائد على قوم نوح، وهذا قول بعض المتأولين، وقال بعضهم: بل تعود الثلاثة على قوم الرسل على معنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ثم لجوا في الكفر وتمادوا فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم، وقال يحيى بن سلام {من قبل} معناه من قبل العذاب.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القول بعد، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو أن تكون «ما» مصدرية والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي من سببه ومن جرائه، ويؤيد هذا التأويل قوله {كذلك نطبع}، وقال بعض العلماء: عقوبة التكذيب الطبع على القلوب...
وقوله {كذلك} أي هذا فعلنا بهؤلاء، ثم ابتدأ {كذلك نطبع} أي كفعلنا هذا و {المعتدين} هم الذين تجاوزوا طورهم واجترحوا ما لا يجوز لهم وهي ها هنا في الكفر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وفي هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا بسيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العقاب والنَّكَال، فما ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك؟
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما لم يكن في قصص من بينه وبين موسى عليهم السلام مما يناسب مقصود هذه السورة إلا ما شاركوا فيه قوم نوح من أنهم لم تنفع الآيات من أريدت شقاوته منهم، ذكره سبحانه طاوياً لما عداه فقال تعالى: {ثم} أي بعد مدة طويلة {بعثنا} أي على عظمتنا؛ ولما كان البعث لم يستغرق زمان البعد، أدخل الجار فقال: {من بعده} أي قوم نوح {رسلاً} كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام.
ولما كان ربما ظن أن قوم الإنسان لا يكذبونه، وإن كذبوه لم يتمادوا على التكذيب لا سيما إن أتاهم بما يقترحونه من الخوارق قال: {إلى قومهم} أي ففاجأهم قومهم بالتكذيب {فجاءوهم} أي فتسبب عن استنادهم إلى عظمتنا أن جاؤوهم {بالبينات} ليزول تكذيبهم فيؤمنوا {فما} أي فتسبب عن ذلك ضد ما أمروا به وقامت دلائله وهو أنهم ما {كانوا} أي بوجه من وجوه الكون {ليؤمنوا} أي مقرين {بما كذبوا} أي مستهينين {به} أول ما جاؤوهم. ولما كان تكذيبهم في بعض الزمن الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي قبل مجيء البينات لأنا طبعنا على قلوبهم؛ قال أبو حيان: وجاء النفي مصحوباً بلام الحجود ليدل على أن إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع -انتهى. ويجوز أن يكون التقدير: من قبل مجيء الرسل إليهم، ويكون التكذيب أسند إليهم لأن أباهم كذبوا لما بدلوا ما كان عندهم من الدين الصحيح الذي أتتهم به الرسل ورضوا هم بما أحدث آباؤهم استحساناً له، أو لأنه كان بين أظهرهم بقايا على بقايا مما شرعته الرسل فكانوا يعظونهم فيما يبتدعون فلا يعون ولا يسمعون كما كان قس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهم قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم، لكن المعنى الأول أولى- والله أعلم.
ولما قرر عدم انتفاعهم بالآيات، بنى ما يليه على سؤاله من لعله يقول: هل استمر الخلق فيمن بعدهم؟ فكأنه قيل: نعم! {كذلك} أي مثل ما طبعنا على قلوبهم هذا الطبع العظيم {نطبع} أي نوجد الطبع ونجدده متى شئنا بما لنا من العظمة {على قلوب المعتدين} في كل زمن لكل من تعمد العدو فيما لا يحل له، وهذا كما أتى موسى عليه السلام إلى فرعون فدعاه إلى الله فكذبه فأخبره أن معه آية تصدقه فقال له: إن كنت جئت بآية فائت بها إن كنت من الصادقين، فلما أتاه بها استمر على تكذيبه وكان كلما رأى آية ازداد تكذيباً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله تعالى في هذه الآية عبرة أخرى من عبر مكذبي الرسل وسنة من سننه فيهم تكملة لما بينه في حال قوم نوح مع رسولهم، عسى أن يعتبر بها أهل مكة فيعلموا كيف يتقون عاقبة المكذبين من قوم نوح وغيرهم، فإن كل سوء وضر علم سببه أمكن اتقاؤه باتقاء سببه إذا كان من عمل الناس الاختياري كالكفر والاعتداء والظلم.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} أي بعثنا من بعد نوح رسلا مثله إلى أقوامهم الذين كانوا مثل قومه فيما يأتي من خبرهم معهم، ولهذا أفرد كلمة قومهم فيما يظهر لنا منه، والمراد أرسلنا كل رسول إلى قومه كهود إلى عاد وصالح إلى ثمود، ولم يرسل رسول منهم إلى كل الأقوام الذين كانوا زمانه إلا شعيبا أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى جيرانهم أصحاب المؤتفكة لاتحادهما في اللغة والوطن، وإنما أرسل محمد وحده إلى الناس كافة.
{فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ} أي فجاء كل رسول منهم قومه بالبينات الدالة على رسالته وصحة ما دعاهم إليه بحسب أفهامهم وأحوالهم العقلية.
{فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي فما كان من شأنهم أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم من قبل ممن كان مثله في سبب كفره وهو استنكار الرؤساء، وتقليد الدهماء للآباء والأجداد.
{كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} أي مثل هذا الطبع، وعلى غرار هذه السنة التي اطردت فيهم نطبع على قلوب المعتدين مثلهم في كل قوم كقومك أيها الرسول إذا كانوا مثلهم {ولا تجد لسنتنا تحويلا} [الإسراء: 77] {ولن تجد لسنة الله تبديلا} [الأحزاب: 62]، فأما الطبع على القلوب فهو عبارة عن عدم قبولها شيئا غير ما رسخ فيها واستحوذ عليها مما يخالفه، كقبول الجاهل المقلد الدليل العلمي على بطلان اعتقاده التقليدي، ورجوع المعاند عن عناده وكبره النفسي، وقد تقدم تفصيله في تفسير ما سبق فيه من الآيات في سور النساء والأعراف والتوبة، ومثله تفسير {ختم الله على قلوبهم} [البقرة: 7] في أوائل سورة البقرة، وأما الاعتداء الذي صار وصفا ثابتا لهؤلاء (المعتدين) فمعناه تجاوز حدود الحق والعدل اتباعا لهوى النفس وشهواتها، فالطبع المذكور أثر طبعي للحالة النفسية التي عبر عنها بوصف الاعتداء، وليس عقابا أنُفا (بضمتين أي جديد) خلقه الله لمنعهم من الإيمان، إذ لو كان كذلك لكانوا معذورين بكفرهم، ولما كان فيه عبرة لغيرهم، بل لكان حجة لهم، وقد فهمت قريش وسائر العرب ما لم يفهمه متكلمو الجبرية من هذه الآية وأمثالها، وهو أنها وصف للعلة والمعلول، والسبب والمسبب، وسنته تعالى في دوام كل منهما بدوام الآخر، لا بذاته وكونه خلقيا لا مفر منه، بل المفر أمر اختياري ممكن، وهو ترك المعاند لعناده والمقلد لتقليده، إيثارا للحق الذين يقوم عليه الدليل، فهموا هذا فاهتدى الأكثرون بالتدريج، وهلك الذين استحبوا العمى على الهدى في غزوة بدر وغيرها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي اختصار وإجمال يشير السياق إلى الرسل بعد نوح، وما جاءوا به من البينات والخوارق وكيف تلقاها المكذبون الضالون:... وهذا يحتمل أنهم بعد مجيء الآيات ظلوا يكذبون كما كانوا قبلها يكذبون. فلم تحولهم الآيات عن عنادهم. كما يحتمل أن المكذبين جماعة واحدة على اختلاف أجيالهم، لأنهم ذوو طبيعة واحدة. فهؤلاء ما كان يمكن أن يؤمنوا بما كذب به أسلاف لهم، أو بما كذبوا هم به في أشخاص هؤلاء الأسلاف! فهم منهم، طبيعتهم واحدة، وموقفهم تجاه البينات واحد. لا يفتحون لها قلوبهم، ولا يتدبرونها بعقولهم. وهم معتدون متجاوزون...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في الآية إشارة مقتضبة إلى ما كان من إرسال الله الرسل إلى أقوامهم من بعد نوح عليه السلام، وإلى ما كان من تكذيبهم للرسل كما كذب الذين من قبلهم وعدم إيمانهم. وخاتمة الآية تقرر أن المعتدين هم الذين كذبوا أولا وآخرا أي أن انحرافهم وفسادهم هما اللذان ساقاهم إلى الكفر والتكذيب؛ ولذلك طبع الله على قلوبهم
وقد هدفت الآية إلى تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بذكرها مواقف ذوي النيات السيئة الناشرين من الأمم السابقة من رسلهم ليعرف من ذلك أن مواقف ذوي النيات السيئة من قومه ليست بدعا.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{كذلك نطبع على قلوب المعتدين} أي وهكذا يقع للمكذبين الذين يأتون من بعدهم، إذ يسلكون نفس السبيل الذي سلكه أسلافهم من المكذبين الأولين، فهم في الحقيقة حزب واحد، ويجمعهم رأي واحد، هو الاعتقاد الفاسد.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا كانت الرسالات منطلق هدى، وينبوع خير، وحركة إبداع، ويقظة روح {فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} إن الرسالات لا تمثّل الصدمة التي تهز في الناس شعورهم، بل تمثّل الفكرة التي تحرك فيهم عقولهم، ولذلك كانت أدواتها فكرية عقلانية، فلا تدعو الناس إلا من خلال الحجة التي تدفعهم إلى التفكير، وتقودهم إلى التأمل والحوار، لأن ذلك هو الذي يجعل للقناعات قوّتها في حساب العقيدة، ويؤكّد لها مواقعها في مواقع الصراع...