وبعد أن بين القرآن ما أحله الله وما حرمه . عقب على ذلك بأن بين أن أجل الناس في هذه الدنيا محدود ، وأنهم إن آجلا أو عاجلا سوف يقفون أمام ربهم للحساب فقال : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ . . . . } .
أى : لكل أمة من الأمم ولكل جيل من الأجيال مدة من العمر محدودة في علم الله ، فإذا ما انتهت هذه المدة انقطعت حياتهم وفارقوا هذه الدنيا بدون أى تقديم أو تأخير .
وليس المراد بالساعة هنا ما اصطلح عليه الناس من كونها ستين دقيقة ، وإنما المراد بها الوقت الذي هو في غاية القلة .
ولأن هذه القضية التي تبدو فرعية ، لها كل هذه الأهمية في ميزان الله وفي حساب الإسلام ، لارتباطها أولا بقضية التوحيد والشرك ؛ ولارتباطها ثانياً بصلاح فطرة الإنسان وخلقه ومجتمعه وحياته ، أو بفساد هذا كله . . فإن السياق يعقب عليها بإيقاع قوي مؤثر ؛ يوقع به عادة في مواقف العقيدة الكبيرة . . إنه يعقب بتنبيه بني آدم ، إلى أن بقاءهم في هذه الأرض محدود مرسوم ؛ وأنه إذا جاء الأجل فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون :
( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) .
إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة ، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة - غير الذاكرة ولا الشاكرة - لتستيقظ ، فلا يغرها امتداد الحياة !
والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة . وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها . . وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوفهم بالعذاب، فقال: {ولكل أمة أجل} العذاب، {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}، يقول: لا يتأخرون ولا يتقدمون حتى يعذبوا، وذلك حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العذاب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مهدّدا للمشركين الذين أخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم كانوا إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، ووعيدا منه لهم على كذبهم عليه وعلى إصرارهم على الشرك به والمقام على كفرهم، ومذكّرا لهم ما أحلّ بأمثالهم من الأمم الذين كانوا قبلهم:"وَلِكُلّ أمّةٍ أجَلٌ" يقول: ولكلّ جماعة اجتمعت على تكذيب رسل الله وردّ نصائحهم، والشرك بالله مع متابعة ربهم حججه عليهم، أجل، يعني: وقت لحلول العقوبات بساحتهم، ونزول المثلات بهم على شركهم. "فإذَا جاءَ أجَلُهُمْ "يقول: فإذا جاء الوقت الذي وقّته الله لهلاكهم وحلول العقاب بهم "لا يَسْتأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ" يقول: لا يتأخرون بالبقاء في الدنيا ولا يتمتعون بالحياة فيها عن وقت هلاكهم وحين حلول أجل فنائهم ساعة من ساعات الزمان. "وَلا يَسْتَقْدِمُون" يقول: ولا يتقدمون بذلك أيضا عن الوقت الذي جعله الله لهم وقتا للهلاك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ): هو بعث الرسول إليها أي لا يهلكون إلا بعد، بعث الرسل إليهم، فإذا أتاهم الرسول، فكذبوه وعاندوا، فعند ذلك يهلكون، وهو كقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا).
ويحتمل أن لكل أمة أجلًا لا تهلك قبل بلوغ أجلها لا تستأخر ولا تستقدم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل الفرق بين أن تقول: ولكل أمة أجل، وبين ولكل أحد أجل من وجهين: أحدهما -أن ذكر الأمة يقتضي تقارب أعمار أهل العصر. والثاني- أنه يقتضي إهلاكهم في الدنيا بعد إقامة الحجة عليهم بإتيان الرسل...
وقوله "فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون "معنى لا يستأخرون: لا يتأخرون، وإنما قيل لا يستأخرون من أجل أنهم لا يطلبون التأخر، فهو أبلغ في المعنى من لا يتأخرون، لأن الاستئخار: طلب التأخر وقوله "ولا يستقدمون" معناه لا يتقدمون، والمعنى اذا قرب أجلهم لا يطلبون التقدم ولا التأخر، لأن بعد حضور الأجل ونزول الأملاك يستحيل منهم طلب ذلك، كما يقال جاء الشتاء وجاء الصيف إذا قارب وقته لأنه متوقع كتوقعه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {ولكل أمة أجل...} يتضمن الوعيد والتهديد، والمعنى ولكل أمة أي فرقة وجماعة، وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس، أجل مؤقت لمجيء العذاب إذا كفروا وخالفوا أمر ربهم، فأنتم أيتها الأمة...
وقوله: {ساعة} لفظ عين به الجزء القليل من الزمن، والمراد جميع أجزائه أي لا يستأخرون ساعة ولا أقل منها ولا أكثر، وهذا نحو قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} فإنما هي عبارة يقام الجزء فيها مقام الكل...
في الآية مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى لما بين الحلال والحرام وأحوال التكليف، بين أن لكل أحد أجلا معينا لا يتقدم ولا يتأخر، وإذا جاء ذلك الأجل مات لا محالة، والغرض منه التخويف ليتشدد المرء في القيام بالتكاليف كما ينبغي...
المسألة الثانية: اعلم أن الأجل، هو الوقت الموقت المضروب لانقضاء المهلة، وفي هذه الآية قولان: القول الأول: وهو قول ابن عباس، والحسن ومقاتل أن المعنى أن الله تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين، وهو تعالى لا يعذبهم إلى أن ينظروا ذلك الوقت الذي يصيرون فيه مستحقين لعذاب الاستئصال، فإذا جاء ذلك الوقت نزل ذلك العذاب لا محالة. والقول الثاني: أن المراد بهذا الأجل: العمر، فإذا انقطع ذلك الأجل وكمل امتنع وقوع التقديم والتأخير فيه، والقول الأول: أولى، لأنه تعالى قال: {ولكل أمة} ولم يقل ولكل أحد أجل وعلى القول الثاني: إنما قال: {ولكل أمة} ولم يقل لكل أحد لأن الأمة هي الجماعة في كل زمان، ومعلوم من حالها التقارب في الأجل، لأن ذكر الأمة فيما يجري مجرى الوعيد أفحم، وأيضا فالقول الأول: يقتضي أن يكون لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال عليهم وليس الأمر كذلك لأن أمتنا ليست كذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لكل أمة أجل} أي أمد مضروب لحياتها، مقدر فيما وضع الخالق سبحانه من السنن لوجودها، وهو على نوعين أحدهما أجل من يبعث الله فيهم رسلا لهدايتهم فيردون دعوتهم كبرا وعنادا في الجحود، ويقترحون عليهم الآيات فيعطونها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا بها فيكذبون فيهلكون، وبهذا هلك أقوام نوح وعاد و ثمود وفرعون وإخوان لوط وغيرهم. وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولي الدعوة الخاصة لأقوامهم. وقد انتهى ببعثة صاحب الدعوة العامة خاتم النبيين المخاطب بقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107) لكن انتهاءه عند الله لا يمنع جعله إنذارا لقومه خاصة بهلاكهم، إن أعطوا ما اقترحوه من الآيات إرضاء لعنادهم، ليعلم أهل البصيرة بعد ذلك أن منعهم إياه إنما كان رحمة بهم وبغيرهم. وقد مضت سنة الله في الأمم أن الجاحدين الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون بها، ولأجل هذا لم يعط الله تعالى رسوله شيئا مما كانوا يقترحونه عليه منها. كما تقدم بيانه في سورة الأنعام وتفسيرها. وهذا الأجل لم يكن يعلمه أحد إلا بعد أن يبينه تعالى على ألسنة الرسل. والنوع الثاني الأجل المقدر لحياة الأمم سعيدة عزيزة بالاستقلال، التي تنتهي بالشقاء والمهانة أو الاستعباد والاستذلال، إن لم تنته بالفناء والزوال، وهذا النوع منوط بسنن الله تعالى في الاجتماع البشري والعمراني، وأسبابه محصورة في مخالفة هدى الآيات التي قبل هذه الآية، بالإسراف في الزينة والتمتع بالطيبات، وباقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس، وبخرافات الشرك والوثنية التي ما أنزل بها من سلطان، وبالكذب على الله بإرهاق الأمة لما لم يشرعه لها من الأحكام، تحكما من رؤساء الدين عن تقليد أو اجتهاد. وذلك قوله تعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد 11). فما من أمة من الأمم العزيزة السعيدة ارتكبت هذه الضلالات والمفاسد المبيدة، إلا وسلبها الله سعادتها وعزها، وسلط عليها من استذلها وسلب ملكها {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} (هود 102) وأمامنا تاريخ اليهود والرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم، منهم من سلب ملكه كله، ومنهم من سلب بعضه أو أكثره، ومن لم يرجع إلى رشده، فإنه يسلب ما بقي له منه. وهذا النوع من آجال الأمم وإن عرفت أسبابه وسننه لا يمكن لأحد أن يحدده بالسنين والأيام وهو محدد في علم الله تعالى بالساعات، ولذلك قال: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اعتراض بين جملة: {يا بني آدم خذوا زينتكم} [الأعراف: 31] وبين جملة: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} [الأعراف: 35] لمّا نعى الله على المشركين ضلالهم وتمرّدهم. بعد أن دعاهم إلى الإيمان، وإعراضَهم عنه، بالمجادلة والتّوبيخ وإظهارِ نقائصهم بالحجّة البيّنة، وكان حالهم حال من لا يقلع عمّا هم فيه، أعقَب ذلك بإنذارهم ووعيدهم إقامةً للحجّة عليهم وإعذاراً لهم قبل حلول العذاب بهم.
وهذه الجملة تؤكّد الغرض من جملة: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] وتحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المقصود بهذا الخبر المشركين، بأن أقبل الله على خطابهم أو أمر نبيئه بأن يخاطبهم، لأنّ هذا الخطاب خطاب وعيد وإنذار.
والمعنى الثّاني: أن يكون المقصود بالخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيكون وعداً له بالنّصر على مكذّبيه، وإعلاماً له بأنّ سنّته سنّةُ غيره من الرّسل بطريقة جعل سنّة أمّته كسنّة غيرها من الأمم.
وذكْرُ عموم الأمم في هذا الوعيد، مع أنّ المقصود هم المشركون من العرب الذين لم يؤمنوا، إنّما هو مبالغة في الإنذار والوعيد بتقريب حصوله كما حصل لغيرهم من الأمم على طريقة الاستشهاد بشواهد التّاريخ في قياس الحاضر على الماضي فيكون الوعيد خبراً معضوداً بالدّليل والحجّة، كما قال تعالى في آيات كثيرة منها: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} [آل عمران: 137] أي: ما أنتم إلاّ أمة من الأمم المكذّبين ولكلّ أمّة أجل فأنتم لكم أجل سيحين حينه.
وذِكر الأجل هنا، دون أن يقول لكلّ أمّة عذاب أو استئصال، إيقاظاً لعقولهم من أن يغرّهم الإمهال فيحسبوا أنّ الله غيرُ مؤاخذهم على تكذيبهم، كما قالوا: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32]، وطمأنةً للرسول عليه الصّلاة والسلام بأنّ تأخير العذاب عنهم إنّما هو جري على عادة الله تعالى في إمهال الظّالمين على حدّ قوله: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذّبوا جاءهم نصرنا} [يوسف: 110] وقوله {لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [آل عمران: 196، 197].
ومعنى: {لكل أمة أجل} لكلّ أمّة مكذّبة إمهال فحذف وصف أمّة أي: مكذّبة.
وجعل لذلك الزّمان نهاية وهي الوقت المضروب لانقضاء الإمهال، فالأجل يطلق على مدّة الإمهال، ويُطلق على الوقت المحدّد به انتهاء الإمهال، ولا شكّ أنّه وُضع لأحد الأمرين ثمّ استعمل في الآخرة على تأويل منتهى المدّة أو تأخير المنتهى وشاع الاستعمالان. فعلى الأوّل يقال قَضى الأجلَ أي المدّة كما قال تعالى: {أيَّما الأجلين قضيت} [القصص: 28] وعلى الثّاني يقال: « دنا أجل فلان» وقوله تعالى: {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} [الأنعام: 128] والواقع في هذه الآية يصحّ للاستعمالين بأن يكون المراد بالأجل الأوّل المدّة، وبالثّاني الوقت المحدّد لفعلٍ مَّا.
والمراد بالأمّة هنا الجماعة التي اشتركت في عقيدة الإشراك أو في تكذيب الرّسل، كما يدلّ عليه السّياق من قوله تعالى: {وأن تشركوا بالله} [الأعراف: 33] إلخ وليس المراد بالأمّة، الجماعةَ التي يجمعها نسب أو لغة إذ لا يتصوّر انقراضها عن بكرة أبيها، ولم يقع في التّاريخ انقراض إحداها، وإنّما وقع في بعض الأمم أن انقرض غالب رجالها بحوادث عظيمة مثل (طَسْمٍ) و (جَدِيس) و (عَدْوَان) فتندمج بقاياها في أمم أخرى مجاورة لها فلا يقال لأمّة إنّ لها أجلا تنقرض فيه، إلاّ بمعنى جماعة يجمعها أنّها مُرسل إليها رسول فكذّبته، وكذلك كان ما صْدَق هذه الآية، فإنّ العرب لمّا أرسل محمّد صلى الله عليه وسلم ابتدأ دعوته فيهم ولهم، فآمن به من آمن، وتَلاحق المؤمنون أفواجاً، وكذّب به أهل مكّة وتبعهم مَن حولهم، وأمهل الله العربَ بحكمته وبرحمة نبيّه صلى الله عليه وسلم إذ قال: « لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده» فلطف الله بهم إذ جعلهم مختلطين مؤمنهم ومشركهم، ثمّ هاجر المؤمنون فبقيت مكّة دار شرك وتمحّض مَنْ عَلِم الله أنّهم لا يؤمنون فأرسل الله عليهم عبادَهُ المؤمنين فاستأصلوهم فوْجاً بعد فوح، في يوم بدر وما بعده من أيّام الإسلام، إلى أن تَم استئصال أهل الشّرك بقتل بقيّة من قتل منهم في غزوة الفتح، مثل عبد الله بن خَطَل ومن قُتل معه، فلمّا فتحت مكّة دان العرب للإسلام وانقرض أهل الشّرك، ولم تقم للشّرك قائمة بعد ذلك، وأظهر الله عنايته بالأمّة العربيّة إذ كانت من أوّلِ دعوة الرّسول غير متمحّضة للشّرك، بل كان فيها مسلمون من أوّل يوم الدّعوة، وما زالوا يتزايدون.
وليس المراد في الآية، بأجل الأمّة، أجلَ أفرادها، وهو مدّة حياة كلّ واحد منها، لأنّه لا علاقة له بالسّياق، ولأنّ إسناده إلى الأمّة يعيّن أنّه أجل مجموعها لا أفرادها، ولو أريد آجال الأفراد لقال لكلّ أحد أو لكلّ حَيّ أجل.
و {إذا} ظرف زمان للمستقبل في الغالب، وتتضمّن معنى الشّرط غالباً، لأنّ معاني الظّروف قريبَة من معاني الشّرط لما فيها من التّعليق، وقد استُغني بفاء تفريع عامل الظرّف هنا عن الإتيان بالفاء في جواب (إذا) لظهور معنى الرّبط والتّعليق بمجموع الظّرفية والتّفريع، والمفرعُ هو: {جاء أجلهم} وإنّما قدم الظّرف على عامله للاهتمام به ليتأكدّ بذلك التّقديم معنى التّعليق. والمجيء مجاز في الحلول المقدَّر له كقولهم جاء الشّتاء.
وإفراد الأجل في قوله: {إذا جاء أجلهم} مراعى فيه الجنس، الصّادق بالكثير، بقرينة إضافته إلى ضمير الجمع.
وأُظهر لفظ أجل في قوله: {إذا جاء أجلهم} ولم يُكتف بضميره لزيادة تقرير الحكم عليه، ولتكون هذه الجملة مستقلّة بنفسها غير متوقّفة عن سماع غيرها لأنّها بحيث تَجْري مَجرى المثل، وإرسالُ الكلام الصّالح لأن يكون مَثلا طريق مِن طُرق البلاغة.
و {يستأخرون}: و {يستقدمون} بمعنى: يتأخّرون ويتقدّمون، فالسّين والتّاء فيهما للتّأكيد مثل استجاب.
والمعنى: إنّهم لا يتجاوزونه بتأخير ولا يتعجّلونه بتقديم. والمقصود أنّهم لا يؤخّرون عنه، فَعَطْفُ {ولا يستقدمون} لبيان أن ما علمه الله وقدّره على وفق علمه لا يَقْدِر أحد على تغييره وصَرفه، فكان قوله: {ولا يستقدمون} لا تعلّق له بغرض التّهديد...
وكلّ ذلك مبني على تمثيل حالة الذي لا يستطيع التّخلّص من وعيد أو نحوه بهيئة من احتُبس بمكان لا يستطيع تجاوزه إلى الأمام ولا إلى الوراء.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وقد نستوحي من هذه الآية كيف تتمثل الحياة في عمر الأمّة الحضاري، من خلال ما تمثّله المجموعة من العناصر المشتركة في الثقافة والاجتماع والسياسة والعلاقات الإنسانية والأمن والاقتصاد، مما يدخل في عملية التوازن الإنساني الذي يتكامل فيه الأفراد ليعطي كل واحد منها شيئاً من طاقته المميزة لتلتقي الطاقات في حركة تكامل وتعارف وتمازج، ليدخل ذلك كله في جسم الأمّة في المعنى التوحيدي الذي يوحد بين أفرادها، لأن الأمة في معنى الجماعة، ليست وجوداً مميزاً عن الأفراد لتكون شخصية معينة متميزة، بل هي الأفراد الذين ينضمّون إلى بعضهم البعض في مشروعٍ واحدٍ وخطة موحّدة، وطاقاتٍ متفاعلةٍ متداخلةٍ تنتج طاقة واحدة للأمة. ويبقى هذا العمر قوياً شاباً منفتحاً حيويّاً حتى تتغير الخصائص الحية، لتموت في عملية تحلّلٍ وانكفاءٍ وابتعادٍ عن الخط المتوازن، وهذا هو الذي أثارته الآية القرآنية بقوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]، وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، إلى غير ذلك من الآيات المتحدثة عن عملية الموت الحضاري للأمة من خلال التغير الفكري والسلوك المنحرف والفساد المتنوع والبعد عن خط التقوى، مما يجعل الإنسان صانع التغيير في الجانب الإيجابي والسلبي، بحيث يمثل ذلك السّنة التاريخية التي أودعها الله في الواقع الإنساني الاجتماعي من موقع إرادته واختياره لا من موقع الحتمية التاريخية الخارجة عن قدرة الإنسان الحركية. وبعبارة موجزة، إن السنّة التاريخية لا تخضع دائماً للعناصر الخارجة عن قدرة الإنسان، بل إنها قد تخضع للإرادة الإنسانية في حركة الفكر والعمل، فالاختيار الإنساني جزء من السنة وليس نتيجة لها، فإذا أحسن الاختيار كان للأمة شبابها وحيويتها وامتدادها في العمر الحضاري، وإذا أساء ذلك، كان سبباً للمرض الروحي والمعنوي والمادي الذي يعجل في الموت ويبلغ بها نهاية الأجل. إن نهاية الأجل للأمة كنهاية الأجل للفرد، خاضعة للعوامل الداخلية والخارجية المتحركة في عناصر الضعف والقوّة في الذات، إنها حركة منفتحة على المستقبل متصلة بالماضي والحاضر في عملية مراوحةٍ بين الظروف التي يصنعها الإنسان والظروف المحيطة به من الخارج. وليس من الضروري أن يكون الموت الذي يمثل عملية سقوط حضاري للأمة حتمياً، بل هو إراديّ في خط الوعي السلبي والإيجابي للفكر وللحركة والامتداد، وهذا هو الذي يلتقي بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. فإنها تعني التجدد والحركة من خلال الأسباب الطبيعية الإنسانية وليست شيئاً لا مفر منه من خلال نظرية حتمية السقوط. وهذا هو الذي تلتقي فيه الآية {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} بالآية الأخرى {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فإن عملية التداول لا تبتعد عن مواقع الاختيار، بل تتحرك معها ومع العناصر الأخرى المتصلة بالنظام الكوني؛ والله العالم...