ثم هدد - سبحانه - الذين يحاربون دعوة الحق ، ويصفون القرآن بأوصاف لا تليق به فقال - تعالى - : { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ
والكاف في قوله { كما } للتشبيه ، و { ما } موصوله أو مصدرية وهى المشبه به أما المشبه فهو الإيتاء المأخوذ من قوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني
ولفظ { المقتسمين } افتعال من القسم بمعنى تجزئة الشئ وجعله أقسامًا . .
والمراد بهم بعض طوائف أهل الكتاب ، الذين آمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر .
أو المراد بهم - كما قال ابن كثير : " { المقتسمين } أى المتحالفين ، أى الذين تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم . . . " .
ولفظ { عضين } جمع عضة - بزنة عزة - ، وهى الجزء والقطعة من الشئ . تقول : عضيت الشئ تعضية ، أى : فرقته وجعلته أجزاء كل فرقة عضة .
قال القرطبى ما ملخصه : وواحد العضين عضة ، من عضيت الشئ تعضية أى فرقته ، وكل فرقة عضة . قال الشاعر : وليس دين الله بالمعضى . أى : بالمفرق
والعضة والعضين في لغة قريش السحر . وهم يقولون للساحر عاضه ، وللساحرة عاضهة . . .
وفى الحديث : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة أى الساحرة والمستسحرة " . وقيل : هو من العضة ، وهى التميمة . والعضيهة : البهتان . . . يقال : أعضهت يا فلان أى : جئت بالبهتان .
والمعنى : ولقد آتيناك - أيها الرسول الكريم - السبع المثانى والقرآن العظيم ، مثل ما أنزلنا على طوائف أهل الكتاب المقتسمين ، أى الذين قسموا كتابهم أقسامًا ، فأظهروا قسمًا وأخفوا آخر ، والذين جعلوا - أيضًا - القرآن أقسامًا ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا بالبعض الآخر .
. فجعله { الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } بيان وتوضيح للمقتسمين .
ومنهم من يرى أن قوله - تعالى - { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين . . . } متعلق بقوله - تعالى - قبل ذلك ، { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } ، فيكون المشبه الإِنذار بالعقاب المفهوم من الآية الكريمة . وأن المراد بالمقتسمين : جماعة من مشركى قريش ، قسموا أنفسهم أقسامًا لصرف الناس عن الإِيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم .
والمعنى : وقل - أيها الرسول الكريم - إنى أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين . . .
وقد فصل الإِمام الآلوسى القول عند تفسيره لهاتين الآيتين فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين . . . } متعلق بقوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً . . . } على أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أى : آتيناك سبعا من المثانى إيتاء كما أنزلنا ، وهو في معنى : أنزلنا عليك ذلك إنزالاً كإنزالنا على أهل الكتاب { الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } أى قسموه إلى حق وباطل . .
وقيل : هو متعلق بقوله - تعالى - : { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } . . وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش . . . أرسلهم الوليد بن المغيرة ، أيام موسم الحج ، ليقفوا على مداخل طرق مكة ، لينفروا الناس عن الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل ، يقول بعضهم لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر . .
أى : وقل إنى أنا النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين .
وقيل المراد بالمقتسمين ، الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحًا - أى يقتلوه ليلاً - فأهلكهم الله . . .
ثم قال - رحمه الله - : والأقرب من الأقوال المذكورة أن قوله { كما أنزلنا . . } متعلق بقوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً . . . } وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين ، وأن الموصول مع صلته ، صفة مبينة لكيفية اقتسامهم . . .
والمعنى : لقد آتيناك سبعًا من المثانى والقرآن العظيم ، إيتاء مماثلاً لإِنزال الكتابين على أهلهما . . . .
ويبدو لنا أن من الأفضل أن يكون المراد بالمقتسمين ، ما يشمل أهل الكتابين وغيرهم من المشركين المتحالفين على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم - كما قال ابن كثير - وقد ذهب إلى ذلك الإِمام ابن جرير ، فقد قال - رحمه الله - بعد سرده للأقوال في ذلك ما ملخصه : " والصواب من القول في ذلك عندى أن يقال : إن الله - تعالى - أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلم قومه الذين عضوا القرآن ففرقوه ، أنه نذير لهم من سخط الله وعقوبته ، أن يحل بهم ما حل بالمقتسمين من قبلهم ومنهم " . . .
وجائز أن يكون عنى بالمقتسمين : أهل الكتابين .
. وجائز أن يكون عنى بذلك : المشركين من قريش ، لأنهم اقتسموا القرآن ، فسماه بعضهم شعرا ، وسماه بعضهم كهانة . . .
وجائز أن يكون عنى به الفريقين . . . وممكن أن يكون عنى به المقتسمين على صالح من قومه . لأنه ليس في التنزيل ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في فطرة العقل ، ما يدل على أنه عنى به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين ، وإذا فكل من اقتسم كتابًا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض ، كان داخلاً في هذا التهديد والوعيد . . . .
( وقل : إني أنا النذير المبين ) . . تلك القولة التي قالها كل رسول لقومه ؛ ومنهم بقايا الأقوام التي جاءها أولئك الرسل بتلك النذارة البينة التي جئت بها قومك . . وكان منهم في الجزيرة العربية اليهود والنصارى . . ولكن هذه البقايا لم تكن تتلقى هذا القرآن بالتسليم الكامل ، إنما كانت تقبل بعضه وترفض بعضه ، وفق الهوى ووفق التعصب وهؤلاء هم الذين يسميهم الله هنا : ( المقتسمين ، الذين جعلوا القرآن عضين ) . .
وقوله : { الْمُقْتَسِمِينَ } أي : المتحالفين ، أي : تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم ، كما قال تعالى إخبارًا عن قوم صالح أنهم : { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ النمل : 46 ] أي : نقتلهم ليلا قال مجاهد : تقاسموا : تحالفوا .
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] { أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [ إبراهيم : 44 ] { أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } [ الأعراف : 49 ] فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه ، فسموا مقتسمين .
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقتسمون أصحاب صالح ، الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله .
وفي الصحيحين ، عن أبي موسى [ الأشعري ]{[16260]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به ، كمثل رجل أتى قومه فقال : يا قوم ، إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان ، فالنجاء النجاء ! فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا ، وانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكَذب ما جئت به من الحق " {[16261]}
التشبيه الذي أفاده الكاف تشبيه بالذي أنزل على المقتسمين .
و ( ما ) موصولة أو مصدرية ، وهي المشبه به .
وأما المشبه فيجوز أن يكون الإيتاءَ المأخوذ من فعل { آتيناك سبعاً من المثاني } [ سورة الحجر : 87 ] ، أي إيتاء كالذي أنزلنا أو كإنزالنا على المقتسمين . شُبّه إيتاء بعض القرآن للنبيء بما أنزل عليه في شأن المقتسمين ، أي أنزلناه على رسل المقتسمين بحسب التفسيرين الآتيين في معنى { المقتسمين } .
ويجوز أن يكون المشبّهُ الإنذارَ المأخوذَ من قوله تعالى : { إني أنا النذير المبين } [ سورة الحجر : 89 ] ، أي الإنذار بالعقاب من قوله تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } [ سورة الحجر : 92 93 ] .
وأسلوب الكلام على هذين الوجهين أسلوب تخلّص من تسلية النبي إلى وعيد المشركين الطاعنين في القرآن بأنهم سيحاسبون على مطاعنهم .
وهو إما وعيد صريح إن أريد بالمقتسمين نفسُ المراد من الضميرين في قوله تعالى : { أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم } [ سورة الحجر : 88 ] .
وحرف { على } هنا بمعنى لام التّعليل كما في قوله تعالى : { ولتكبروا الله على ما هداكم } [ سورة البقرة : 185 ] وقوله : { فكلوا مما أمسكن عليكم } [ سورة المائدة : 4 ] ، وقول علقمة بن شيبان من بني تيم الله بن ثعلبة :
ونطاعن الأعداء عن أبنائنا *** وعلى بصائرنا وإن لم نُبصر
ولفظ { المقتسمين } افتعال من قَسم إذا جَعل شيئاً أقساماً . وصيغة الافتعال هنا تقتضي تكلف الفعل .
والمقتسمون يجوز أن يراد بهم جمع من المشركين من قريش وهم ستّة عشر رجلاً ، سنذكر أسماءهم ، فيكون المراد بالقرآن مسمى هذا الاسم العَلَم ، وهو كتاب الإسلام .
ويجوز أن يراد بهم طوائف أهل الكتاب قَسّموا كتابهم أقساماً ، منها ما أظهروه ومنها ما أنسوه ، فيكون القرآن مصدراً أطلق بمعناه اللغوي ، أي المقروء من كتبهم ؛ أو قسّموا كتاب الإسلام ، منه ما صدّقوا به وهو ما وافق دينهم ، ومنه ما كذّبوا به وهو ما خالف ما هم عليه .