ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر العبر والعظات والحكم من وراء نهيهم عن الأسئلة التي لا خير يرجى من ورائها فقال : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } .
والضمير في قوله : { قَدْ سَأَلَهَا } يعود إلى الأسئلة المنهي عنها في قوله - تعالى - { لاَ تَسْأَلُواْ } .
أي : قد سأل قوم من قبلكم - أيها المؤمنون - أمثال هذه الأسئلة التي لا خير يرجى من ورائها ، ثم أصبحوا بعد إظهار الإِجابة عليها كافرين بها ، لأنهم استقلوا الإِجابة عنها سألوا عنه ، وتركوا العمل بما تطلعوا إلى معرفته ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى أشياء في قوله { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } على تقدير السؤال عن حكمها أو عن سببها أو عن أصلها ، أو عن غير ذلك مما لا فائدة من السؤال عنه .
إلى هذين المعنين أشار الآلولسي بقوله : { قَدْ سَأَلَهَا } أي : المسألة ، فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به . والمراد : سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال { قوم } وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير .
وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير المضاف أيضاً ، فالضمير في موقع المفعول به ، وذلك من باب الحذف والإِيصال . والمراد : سأل عنها . واختلف في تعيين القوم : فعن ابن عباس هم قوم عيسى : سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها وقيل : هم قوم صالح - عليه السلام - سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها ، وقيل : هم بنو إسرائيل كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم .
والذي نراه أن لفظ { قوم } يشمل هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم الآلوسي كما يشمل غيرهم ممن سألوا عن أشياء لا خير من السؤال عنها فلما أجيبوا عما سألوا عنه لم يعملوا بما أخبروا به بل كفروا به وهجروه وأنكروه .
ونكر - سبحانه - لفظ { قوم } لأنه ليس الغرض تعيين ذواتهم ، بل الغرض النهي عن التشبه بهم مهما كانت أجناسهم أو أزمانهم .
وجاء العطف في الآية " بثم " المفيدة للتراخي ، للدلاله على التباعد المعنوي بين اللجاجة في السؤال وبين الجحود والكفر بعد ذلك ؛ فكأنهم كانوا يريدون حكما يناسب أهواءهم فلما جاءهم الحكم الذي لا يهوونه كفروا به .
وقوله { ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } يؤذن بأنهم قبل السؤال عن تلك الأشياء أو قبل الخوض في تلك الأسئلة لم يكونوا كافرين ، ولكنهم أصبحوا بسبب الخوض فيها والتفتيش عنها كافرين لأنهم لم يمتثلوا ما أجيبوا به ، وإنما نبذوه وراء ظهورهم .
وبذلك ترى أن الآيتين الكريمتين تنهيان المؤمنين في كل زمان ومان عن الخوض في الأسئلة عن أشياء يسوءهم الكشف عنها ، وضربتا لهم الأمثال بحال الذين من قبلهم ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالأسئلة عن التكاليف والأحكام ، فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها ، ولو سكتوا عن هذه الأسئلة التي لا فائدة من ورائها لكان خيرا لهم وأقوم .
هذا ، و قد ساق الشيخ القاسمي - رحمه الله - عقب تفسيره لهاتين الآيتين أقوالا متعددة للعلماء فيما يؤخذ منهما من آداب وأحكام ، فقال - ما ملخصه - :
قال ابن كثير : ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته فالأولى الإِعراض عنها :
فقد روى الإِمام أحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم . وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " .
وروى الدارقطني وأبو نعيم عن أبي ثعلبة الخشني : ن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إن الله - تعالى - فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها . وحرم أشياء فلا تقربوها . وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها " .
ثم قال الشيخ القاسمي : ثم رأيت في " موافقات " الإِمام الشاطبي في هذا الموضوع - مبحثا جليلا قال فيه .
الإِكثار من الأسئلة مذموم . والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح . وهذه مواضع يكره السؤال فيها :
1 - السؤال عما لا ينفع في الدين ، كسؤال عبد الله بن حذافة : من أبي يا رسول الله ؟ فأجابه أبوك حذافة .
2 - أن يسأل عن شيء بيه القرآن ، كما سأل الرجل عن الحج : أكل عام يا رسول الله ؟ مع أن قوله - تعالى { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه .
3 - السؤال من غير احتياج إليه في الوقت ، وكأن هذا - والله أعلم - خاص بما لم ينزل فيه حكم ، وعليه يدل قوله : " ذروني ما تركتكم " وقوله : " وسكت عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها " .
4 - أن يسأل عن صعبا المسائل وشرارها ، كما جاء في النهي عن الأغلوطات .
5 - أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات ، أو يكون السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال - كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة .
- فقد أخرج مسلم في صحيحه عن معاذة قالت : سألت عائشة فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت : أحرورية أنت ؟
قلت : لست بحرورية ، ولكني أسأل . قالت عائشة : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة .
6 - أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق ، وعلى ذلك يدل ما أخرجه مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب ، فيهم عمرو بن العاص . حتى وردوا حوضاً . فقال عمرو بن العاص : يا صاحب الحوض ! ! له ترد حوضك السباع ؟ فقال عمر بن الخطاب : يا صاحب الحوض ! لا تخبرنا . فإنا نرد على السباع وترد علينا .
7 - السؤال عن المتشابهات ، وعلى ذلك يدل قوله - تعالى - { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } الآية .
وعن عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه عرضاً للخصومات أسرع التنقل .
ومن ذلك سؤال رجل مالكا على الاستواء ؛ فقد جاء رجل إلى مالك فقال : يا أبا عبد الله " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى ؟
قال راوي الحديث : فما رأيت مالكا وجد - أي غضب - في شيء كموجدته من مقالته .
وعلاه الرحضاء - أي العرق - وأطرق القوم . فقال مالك : الاستواء معلوم ، والكيف غير معقول . والإِيمان به واجب . والسؤال عنه بدعة وإني أخاف أن تكون ضلالا .
8 - السؤال عما شجر بين السلف الصالح ، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال : تلك دماء كف الله عنها يدي ، فلا أحب أن ألطخ بها لساني .
9 - سؤال التعنت والافحام وطلب الغلبة عند الخصام : وقد ذم القرآن هذا اللون من الناس فقال . { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } وقال ، { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } وفي الحديث : " أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " .
هذه الجملة من المواضع التي يكره السؤال فيها ، ويقاس عليها ما سواها ، وليس النهي فيها واحداً ، بل فيها ما تشتد كراهيته ومنها ما يخفف ، ومنها ما يحرم . ومنها ما يكون محل اجتهاد .
والنهي في الآية مقيد بما لا تدعو إليه الحاجة من الأسئلة ؛ لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه فقال : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } وفي الحديث : " قاتلهم الله ! ! هلا سألوا إذا لم يعلموا ، فإنما شفاء الجهل بالسؤال " .
فأما الاستفتاء عن مسائل لم تقع ، فهو استفتاء عن فرض غير محدد . وما دام غير واقع فإن تحديده غير مستطاع . والفتوى عليه حينئذ لا تطابقه لأنه فرض غيرمحدد . والسؤال والجواب عندئذ يحملان معنى الاستهتار بجدية الشريعة ؛ كما يحملان مخالفة للمنهج الإسلامي القويم .
ومثله الاستفتاء عن أحكام شريعة الله في أرض لا تقام فيها شريعة الله ، والفتوى على هذا الأساس ! . . إن شريعة الله لا تستفتى إلا ليطبق حكمها وينفذ . . فإذا كان المستفتي والمفتي كلاهما يعلمان أنهما في أرض لا تقيم شريعة الله ؛ ولا تعترف بسلطان الله في الأرض وفي نظام المجتمع وفي حياة الناس . . أي لا تعترف بألوهية الله في هذه الأرض ولا تخضع لحكمه ولا تدين لسلطانه . . فما استفتاء المستفتي ؟ وما فتوى المفتي ؟ إنهما - كليهما - يرخصان شريعة الله ، ويستهتران بها شاعرين أو غير شاعرين سواء !
ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة . . إنها دراسة للتلهية ! لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكانا في هذه الأرض التي تدرسه في معاهدها ولا تطبقه في محاكمها ! وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه ، ليخدر مشاعر الناس بهذا الإيهام !
إن هذا الدين جد . وقد جاء ليحكم الحياة . جاء ليعبد الناس لله وحده ، وينتزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان ، فيرد الأمر كله إلى شريعة الله ، لا إلى شرع أحد سواه . . وجاءت هذه الشريعة لتحكم الحياة كلها ؛ ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها ، ولتدلي بحكم الله في الواقعة حين تقع بقدر حجمها وشكلها وملابساتها .
ولم يجيء هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار . ولا لتكون شريعته موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة . ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع ، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاما فقهية في الهواء !
هذا هو جد الإسلام . وهذا هو منهج الإسلام . فمن شاء من " علماء " هذا الدين أن يتبع منهجه بهذا الجد فليطلب تحكيم شريعة الله في واقع الحياة . أو على الأقل فليسكت عن الفتوى والقذف بالأحكام في الهواء !
ثم قال : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } أي : قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قومٌ من قبلكم ، فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها ، فأصبحوا بها كافرين ، أي : بسببها ، أي : بينت لهم ولم{[10455]} ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد ، وإنما سألوا على وجه التعنت والعناد .
قوله : { قد سألها قوم من قبلكم ثُم أصبحوا بها كافرين } استئناف بياني جواب سؤال يثيره النهي عن السؤال ثم الإذن فيه في حين ينزل القرآن ، أن يقول سائل : إن كان السؤال في وقت نزول القرآن وأنّ بعض الأسئلة يسوء جوابه قوماً ، فهل الأوْلى ترك السؤال أو إلقاؤه . فأجيب بتفصيل أمرها بأنّ أمثالها قد كانت سبباً في كفر قومٍ قبل المسلمين .
وضمير { سألها } جُوّز أن يكون عائداً إلى مصدر مأخوذ من الكلام غير مذكور دلّ عليه فعل { تسألوا } ، أي سأل المسألة ، فيكون الضمير منصوباً على المفعولية المطلقة . وجرى جمهور المفسّرين على تقدير مضاف ، أي سأل أمثالها . والمماثلة في ضآلة الجدوى . والأحسن عندي أن يكون ضمير { سألها } عائداً إلى { أشياء } ، أي إلى لفظه دون مدلوله . فالتقدير : قد سأل أشياء قومٌ من قبلكم ، وعدّي فعل { سأل } إلى الضمير على حذف حرف الجرّ ، وعلى هذا المعنى يكون الكلام على طريقة قريبة من طريقة الاستخدام بل هي أحقّ من الاستخدام ، فإنّ أصل الضمير أن يعود إلى لفظ باعتبار مدلوله وقد يعود إلى لفظ دون مدلوله ، نحو قولك : لك درهم ونصفه ، أي نصف درهم لا الدرهم الذي أعطيته إياه . والاستخدام أشدّ من ذلك لأنّه عود الضمير على اللفظ مع مدلول آخر .
و { ثم } في قوله : { ثم أصبحوا بها كافرين } للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل فإنّها لا تفيد فيه تراخي الزمان وإنّما تفيد تراخي مضمون الجملة المعطوفة في تصوّر المتكلّم عن تصور مضمون الجملة المعطوف عليها ، فتدلّ على أنّ الجملة المعطوفة لم يكن يُترقب حصول مضمونها حتى فاجأ المتكلم . وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند قوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } في سورة البقرة ( 85 ) .
والباء في قوله { بها } يجوز أن تكون للسببية ، فتتعلّق بِ { أصبحوا } ، أي كانت تلك المسائل سبباً في كفرهم ، أي باعتبار ما حصل من جوابها ، ويحتمل أن تكون « للتعدية » فتتعلّق ب { كافرين } ، أي كفروا بها ، أي بجوابها بأن لم يصدّقوا رسلهم فيما أجابوا به ، وعلى هذا الوجه فتقديم المجرور على عامله مفيد للتخصيص ، أي ما كفروا إلاّ بسببها ، أي كانوا في منعة من الكفر لولا تلك المسائل ، فقد كانوا كالباحث على حتفه بظلفه ، فهو تخصيص ادّعائي ، أو هو تقديم لمجرّد الاهتمام للتنبيه على التحذير منها .
وفعل { أصبحوا } مستعمل بمعنى صاروا ، وهو في هذا الاستعمال مشعر بمصير عاجل لا تريّث فيه لأنّ الصباح أول أوقات الانتشار للأعمال .
والمراد بالقوم بعض الأمم التي كانت قبل الإسلام ، سألوا مثل هذه المسائل ، فلمّا أعطوا ما سألوا لم يؤمنوا ، مثل ثمود ، سألوا صالحاً آية ، فلمّا أخرج لهم ناقة من الصخر عقروها ، وهذا شأن أهل الضلالة متابعةُ الهوى فكلّ ما يأتيهم ممّا لا يوافق أهواءهم كذّبوا به ، كما قال الله تعالى : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم مُعرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين } [ النور : 48 ، 49 ] ، وكما وقع لليهود في خبر إسلام عبد الله بن سَلام . وقريب ممّا في هذه الآية ما قدّمناه عند تفسير قوله تعالى : { قل من كان عدوّاً لجبريل } في سورة البقرة ( 97 ) . فإنّ اليهود أبغضوا جبريل لأنّه أخبر دانيال باقتراب خراب أورشليم ، وتعطيل بيت القدس ، حسبما في الإصحاح التاسع من كتاب دانيال . وقد سأل اليهود زكرياء وابنه يحيى عن عيسى ، وكانا مقدّسين عند اليهود ، فلمّا شهدا لعيسى بالنبوءة أبغضهما اليهود وأغروا بهما زوجة هيرودس فحملته على قتلهما كما في الإصحاح الرابع من إنجيل متّى والإصحاح الثالث من مرقس .
والمقصود من هذا ذمّ أمثال هذه المسائل بأنّها لا تخلو من أن تكون سبباً في غمّ النفس وحشرجة الصدر وسماع ما يَكره ممّن يُحبّه . ولولا أنّ إيمان المؤمنين وازع لهم من الوقوع في أمثال ما وقع فيه قومٌ من قبلهم لكانت هذه المسائل محرّمة عليهم لأنها تكون ذريعة للكفر .
فهذا استقصاء تأويل هذه الآية العجيبة المعاني البليغة العبر الجديرة باستجلائها ، فالحمد لله الذي منّ باستضوائها .