ثم قال الله تعالى : { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا }
يقول تعالى مخبرًا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا{[18503]} فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه من أسفله . ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه فقال : { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } وهذا دليل على أنهم لم{[18504]} يقدروا على نقبه ، ولا على شيء منه .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا روح ، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، حدثنا أبو رافع ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدًا فيعودون إليه كأشد ما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس{[18505]} [ حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ]{[18506]} قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله . ويستثني ، فيعودون إليه وهو كهيئته{[18507]} حين تركوه ، فيحفرونه ويخرجون{[18508]} على الناس ، فينشفون المياه ، ويتحصن الناس منهم في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء ، [ فترجع وعليها هيئة الدم ، فيقولون : قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ]{[18509]} . فيبعث الله عليهم نغفا{[18510]} في أقفائهم ، فيقتلهم بها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، إن دواب الأرض لتسمن ، وتشكر شكرًا من لحومهم ودمائهم " {[18511]} .
ورواه أحمد أيضًا عن حسن - هو ابن موسى الأشيب - عن سفيان ، عن قتادة ، به{[18512]} . وكذا رواه{[18513]} ابن ماجه ، عن أزهر بن مروان ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة قال : حدث رافع . وأخرجه الترمذي ، من حديث أبي عوانة ، عن قتادة{[18514]} . ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وهذا إسناده قوي ، ولكن في{[18515]} رفعه نكارة ؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه ، لإحكام بنائه وصلابته وشدته . ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار : أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه{[18516]} إلا القليل ، فيقولون : غدًا نفتحه . فيأتون من الغد وقد عاد كما كان ، فيلحسونه حتى لا يبقى منه{[18517]} إلا القليل ، فيقولون كذلك ، ويصبحون وهو كما كان ، فيلحسونه ويقولون : غدًا نفتحه . ويلهمون أن يقولوا : " إن شاء الله " ، فيصبحون وهو كما فارقوه ، فيفتحونه . وهذا مُتَّجه ، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب . فإنه كثيرًا ما كان يجالسه{[18518]} ويحدثه ، فحدث به أبو هريرة ، فتوهم{[18519]} بعض الرواة عنه أنه مرفوع ، فرفعه ، والله أعلم .
ويؤكد ما قلناه{[18520]} - من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه ، ومن نكارة هذا المرفوع - قول الإمام أحمد :
حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن [ زينب بنت أبي سلمة ، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان ، عن أمها أم حبيبة ، عن ]{[18521]} زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم - قال سفيان : أربع نسوة - قالت : استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه . وهو محمر وجهه ، وهو يقول : " لا إله إلا الله ! ويل للعرب{[18522]} من شر قد اقترب ! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " . وحَلَّق . قلت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : " نعم إذا كثر الخبث " .
هذا حديث صحيح ، اتفق البخاري ومسلم على إخراجه ، من حديث الزهري{[18523]} ، ولكن سقط في رواية البخاري ذكر حبيبة ، وأثبتها مسلم . وفيه أشياء{[18524]} عزيزة نادرة قليلة الوقوع في صناعة{[18525]} الإسناد ، منها رواية الزهري عن عروة ، وهما تابعيان ومنها{[18526]} اجتماع أربع نسوة في سنده ، كلهن يروي بعضهن عن بعض . ثم كل منهن صحابية{[18527]} ، ثم ثنتان ربيبتان وثنتان زوجتان ، رضي الله عنهن .
وقد روي نحو هذا عن أبي هريرة أيضًا ، فقال البزار : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا مُؤمَّل بن إسماعيل ، حدثنا وهيب{[18528]} ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " وعقد التسعين . وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب{[18529]} ، به{[18530]} .
{ فما اسطاعوا } بحذف التاء حذرا من تلاقي متقاربين . وقرأ حمزة بالإدغام جامعا بين الساكنين على غير حده . وقرئ بقلب السين صادا . { أن يظهروه } أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وانملاسه . { وما استطاعوا له نقباً } لثخنه وصلابته . وقيل حفر للأساس حتى بلغ الماء ، وجعله من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى ساوى أعلى الجبلين ، ثم وضع المنافيخ حتى صارت كالنار فصب النحاس المذاب عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلداً . وقيل بناه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها .
والضمير في قوله { استطاعوا } ل { يأجوج ومأجوج } [ الكهف : 94 ] ، وقرأت فرقة » فما اسْطاعوا «بسكون السين وتخفيف الطاء ، وقرأت فرقة بشد الطاء ، وفيها تكلف الجمع بين ساكنين و { يظهروه } معناه : يعلونه بصعود فيه ، ومنه في الموطأ : والشمس في حجرتها قبل أن تظهر{[7902]} ، { وما اسطاعوا له نقباً } لبعد عرضه وقوته ولا سبيل سوى هذين إما ارتقاء وإما نقب ، وروي أن في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ ، وفي عرضه خمسين فرسخاً ، وروي غير هذا مما لا ثبوت له ، فاختصرناه ، إذ لا غاية للتخرص ، وقوله في هذه الآية { انفخوا } يريد بالأكيار ، وقوله { اسطاعوا } بتخفيف الطاء ، على قراءة الجمهور قيل هي لغة بمعنى استطاعوا وقيل بل استطاعوا بعينه ، كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء ، فقالوا : { اسطاعوا } ، وحذف بعضهم منه الطاء فقال : » استاع «يستيع بمعنى استطاع يستطيع ، وهي لغة مشهورة وقرأ حمزة وحده » فما اسطّاعوا «بتشديد الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه ، قال أبو علي : هي غير جائزة ، وقرأ الأعمش : » فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا «بالتاء في الموضعين .