ثم لفتة ثالثة للأنظار إلى الأسباب الظاهرة للرزق ، تراها فى قوله - تعالى - : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } .
أى : أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة عنده - سبحانه - وهى تنزل إليكم من جهة السماء ، عن طريق الأمطار التى تنزل على الأرض الجدباء . فتنبت بإذن الله من كل زوج بهيج .
كما قال - تعالى - : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً } وقال - سبحانه - : { يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } قال القرطبى : قوله : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ } الرزق هنا : ما ينزل من السماء من مطر ينبت به الزرع ، ويحيى به الإنسان . . . أى : وفى السماء سبب رزقكم ، سمى المطر سماء لأنه من السماء ينزل .
وقال سفيان الثورى : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ } أى : عند الله فى السماء رزقكم .
وقوله : { وَمَا تُوعَدُونَ } أى : وفى السماء محددة ومقدرة أرزاقكم . وما توعدون به من ثواب أو عقاب ، ومن خير أو شر ، ومن بعث وجزاء .
و { وَمَا } فى محل رفع عطف على قوله { رِزْقُكُمْ } أى : وفى السماء رزقكم والذى توعدونه من ثواب على الطاعة ، ومن عقاب على المعصية .
فالآية الكريمة وإن كانت تلفت الأنظار إلى أسباب الرزق وإلى مباشرة هذه الأسباب ، إلا أنها تذكر المؤمن بأن يكون اعتماده على خالق الأسباب ، وأن يراقبه ويطيعه فى السر والعلن لأنه - سبحانه - هو صاحب الخلق والأمر .
وبعد فقد كانت اللفتة الأولى إلى معرض الأرض ؛ وكانت اللفتة الثانية إلى معرض النفس . ثم تلتهما في السورة لفتة إلى معرض الغيب العلوي المطوي ، حيث الرزق المقسوم والحظ المرسوم :
( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) . .
وهي لفتة عجيبة . فمع أن أسباب الرزق الظاهرة قائمة في الأرض ، حيث يكد فيها الإنسان ويجهد ، وينتظر من ورائها الرزق والنصيب . فإن القرآن يرد بصر الإنسان ونفسه إلى السماء . إلى الغيب . إلى الله . ليتطلع هناك إلى الرزق المقسوم والحظ المرسوم . أما الأرض وما فيها من أسباب الرزق الظاهرة ، فهي آيات للموقنين . آيات ترد القلب إلى الله ليتطلع إلى الرزق من فضله ؛ ويتخلص من أثقال الأرض وأوهاق الحرص ، والأسباب الظاهرة للرزق ، فلا يدعها تحول بينه وبين التطلع إلى المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب .
والقلب المؤمن يدرك هذه اللفتة على حقيقتها ؛ ويفهمها على وضعها ؛ ويعرف أن المقصود بها ليس هو إهمال الأرض وأسبابها . فهو مكلف بالخلافة فيها وتعميرها . إنما المقصود هو ألا يعلق نفسه بها ، وألا يغفل عن الله في عمارتها . ليعمل في الأرض وهو يتطلع إلى السماء . وليأخذ بالأسباب وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه ، فرزقه مقدر في السماء ، وما وعده الله لا بد أن يكون .
بذلك ينطلق قلبه من إسار الأسباب الظاهرة في الأرض ؛ بل يرف بأجنحة من هذه الأسباب إلى ملكوت السماوات . حين يرى في الأسباب آيات تدله على خالق الأسباب ويعيش موصولا قلبه بالسماء ، وقدماه ثابتتان على الأرض . فهكذا يريد الله لهذا الإنسان . هكذا يريد الله لذلك المخلوق الذي جبله من الطين ونفخ فيه من روحه فإذا هو مفضل على كثير من العالمين .
والإيمان هو الوسيلة لتحقيق ذلك الوضع الذي يكون فيه الإنسان في أفضل حالاته . لأنه يكون حينئذ في الحالة التي أنشأه الله لها . فطرة الله التي فطر الناس عليها . قبل أن يتناولها الفساد والانحراف . .
ثم قال : { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ } يعني : المطر ، { وَمَا تُوعَدُونَ } يعني : الجنة . قاله ابن عباس ، ومجاهد وغير واحد .
وقال سفيان الثوري : قرأ واصل الأحدب هذه الآية : { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } فقال : ألا إني{[27431]} أرى رزقي في السماء ، وأنا أطلبه في الأرض ؟ فدخل خربة فمكث [ فيها ] {[27432]} ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بِدَوْخَلَة من رطب ، وكان له أخ أحسن نية منه ، فدخل معه فصارتا دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الموت بينهما {[27433]} .
وقوله تعالى : { وفي السماء رزقكم } . قال الضحاك وابن جبير : أراد المطر والثلج . وقال واصل الأحدب ومجاهد : أراد القضاء والقدر ، أي الرزق عند الله يأتي به كيف يشاء ، لا رب غيره . وقرأ ابن محيصن «وفي السماء رازقكم » .
و : { توعدون } يحتمل أن يكون من الوعد ، ويحتمل أن يكون من الوعيد ، والكل في السماء . قال الضحاك المراد : من الجنة والنار . وقال مجاهد المراد : الخير والشر . وقال ابن سيرين المراد : الساعة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.