وقوله - تعالى - { اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم } أى : امض لما أمرتك به من القراءة ، فإن ربك الذى أمرك بالقراءة هو الأكرم من كل كريم ، والأعظم من كل عظيم .
قالوا : وإنما كرر - سبحانه - الأمر بالقراءة ، لأنه من الملكات التى لا ترسخ فى النفس إلا بالتكرار والإِعادة مرة فمرة .
وجملة { وَرَبُّكَ الأكرم } مستأنفة لقصد بيان أنه - تعالى - أكرم من كل من يلتمس منه العطاء ، وأنه - سبحانه - قادر على أن يمنح نبيه نعمة القراءة ، بعد أن كان يجهلها .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح . ثم حُبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه - وهو : التعبد - الليالي ذواتَ العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد{[30233]} لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : ما أنا بقارئ " . قال : " فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال : فرجع بها تَرجُف بَوادره{[30234]} حتى دخل على خديجة فقال : " زملوني زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع . فقال : يا خديجة ، ما لي : فأخبرها الخبر وقال : " قد خشيت علي " . فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث ، وتحمل الكَلَّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصي - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل{[30235]} ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ - فقالت خديجة : أيّ ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فقال ورقة : ابنَ أخي ، ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى{[30236]} ليتني{[30237]} فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أومخرجيَّ هُم ؟ " . فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به{[30238]} إلا عودي ، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا . [ ثم ] {[30239]} لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي ، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رؤوس شَوَاهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسولُ الله حقًا . فيسكن بذلك جأشه ، وتَقَرُّ نفسه فيرجع . فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري{[30240]} وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده فهو هناك محرر ، ولله الحمد والمنة .
فأول شيء [ نزل ]{[30241]} من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات{[30242]} وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم . وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ولفظي ورسمي ، والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر : قيدوا العلم بالكتابة{[30243]} . وفيه أيضا : " من عمل بما علم رزقه{[30244]} الله علم ما لم يكن [ يعلم ]{[30245]} .
ولما كان أول الواجبات معرفة الله سبحانه وتعالى نزل أولا ما يدل على وجوده وفرط قدرته وكمال حكمته( اقرأ ) تكرير للمبالغة ، أو الأول مطلق والثاني للتبليغ ، أو في الصلاة ، ولعله لما قيل له : ( اقرأ باسم ربك ) فقال : ما أنا بقارئ فقيل له : ( اقرأ وربك الأكرم ) الزائد في الكرم على كل كريم ، فإنه سبحانه وتعالى ينعم بلا عوض ، ويحلم من غير تخوف ؛ بل هو الكريم وحده على الحقيقة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.