ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال المصرين على كفرهم وضلالهم من دعوة الرسل عليهم - الصلاة والسلام - فقال : { فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ . . . } .
الفاء فى قوله - تعالى - : { فتقطعوا } لترتيب حالهم وما هم عليه من تفرق وتنازع واختلاف ، على ما سبق من أمرهم بالتقوى ، واتباع ما جاءهم به الرسل .
وضمير الجمع يعود إلى الأقوام السابقين الذين خالفوا رسلهم ، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً .
وقوله { زُبُراً } حال من هذا الضمير . ومفرده زُبْرَة - كغرفة - بمعنى : قطعة . والمراد به هنا : طائفة من الناس . والمراد بأمرهم : أمر دينهم الذى هو واحد فى الأصل .
أى : أن هؤلاء الأقوام الذين جاء الرسل لهدايتهم ، لم يتبعوا دين رسلهم بل تفرقوا فى شأنه شيعاً وأحزاباً ، فمنهم أهل الكتاب الذين قال بعضهم : عزير ابن الله ، وقال بعضهم : المسيح ابن الله ، ومنهم المشركون الذين عبدوا من دون الله - تعالى - أصناماً لا تضر ولا تنفع ، وصار كل حزب من هؤلاء المعرضين عن الحق ، مسروراً بما هو عليه من باطل ، وفرحاً بما هو فيه من ضلال .
والآية القرآنية بأسلوبها البديع ، تسوق هذا التنازع من هؤلاء الجاهلين فى شأن الدين الواحد ، فى صورة حسية ، يرى المتدبر من خلالها ، أنهم تجاذبوه فيما بينهم ، حتى قطعوه فى أيديهم قطعاً ، ثم مضى كل فريق منهم بقطعته وهو فرح مسرور ، مع أنه - لو كان يعقل - لما انحدر إلى هذا الفعل القبيح ، ولما فرح بعمل شىء من شأنه أن يحزن له كل عاقل .
( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا ، كل حزب بما لديهم فرحون . فذرهم في غمرتهم حتى حين . أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات ? بل لا يشعرون ) !
لقد مضى الرسل - صلوات الله عليهم - أمة واحدة ، ذات كلمة واحدة ، وعبادة واحدة ، ووجهة واحدة ؛ فإذا الناس من بعدهم أحزاب متنازعة لا تلتقي على منهج ولا طريق .
ويخرج التعبير القرآني المبدع هذا التنازع في صورة حسية عنيفة . لقد تنازعوا الأمر حتى مزقوه بينهم مزقا ، وقطعوه في أيديهم قطعا . ثم مضى كل حزب بالمزقة التي خرجت في يده . مضى فرحا لا يفكر في شيء ، ولا يلتفت إلى شيء ! مضى وأغلق على حسه جميع المنافذ التي تأتيه منها أية نسمة طليقة ، أو يدخل إليه منها أي شعاع مضيء ! وعاش الجميع في هذه الغمرة مذهولين مشغولين بما هم فيه ، مغمورين لا تنفذ إليهم نسمة محيية ولا شعاع منير .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : زُبُرا فقرأته عامة قرّاء المدينة والعراق : زُبُرا بمعنى جمع الزّبور . فتأويل الكلام على قراءة هؤلاء : فتفرّق القوم الذين أمرهم الله من أمة الرسول عيسى بالاجتماع على الدين الواحد والملة الواحدة ، دينهم الذي أمرهم الله بلزومه زُبُرا كُتُبا ، فدان كل فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذين دان به الفريق الاَخر ، كاليهود الذين زعموا أنهم دانوا بحكم التوراة وكذّبوا بحكم الإنجيل والقرآن ، وكالنصارى الذين دانوا بالإنجيل بزعمهم وكذّبوا بحكم الفرقان . ذكر من تأوّل ذلك كذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة زُبُرا قال : كُتُبا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بَيْنَهُمْ زُبُرا قال : كُتُب الله فرّقوها قطعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : فَتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرا قال مجاهد : كُتُبهم فرّقوها قطعا .
وقال آخرون من أهل هذه القراءة : إنما معنى الكلام : فتفرّقوا دينهم بينهم كُتُبا أحدثوها يحتجّون فيها لمذاهبهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرا كُلّ حَزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قال : هذا ما اختلفوا فيه من الأديان والكتب ، كلّ معجبون برأيهم ، ليس أهل هواء إلاّ وهم معجبون برأيهم وهواهم وصاحبهم الذي اخترق ذلك لهم .
وقرأ ذلك عامة قرّاء الشام : «فَتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبَرا » بضم الزاء وفتح الباء ، بمعنى : فتفرّقوا أمرهم بينهم قِطَعا كزُبَر الحديد ، وذلك القِطَع منها ، واحدتها زُبْرة ، من قول الله : آتُونِي زُبَرَ الحَدِيد فصار بعضهم يهودا وبعضهم نصارى .
والقراءة التي نختار في ذلك : قراءة من قرأه بضم الزاء والباء ، لإجماع أهل التأويل في تأويل ذلك على أنه مراد به الكتب ، فذلك يبين عن صحة ما اخترنا في ذلك ، لأن الزّبُر هي الكتب ، يقال منه : زَبَرْت الكتاب : إذ كتبته .
فتأويل الكلام : فتفرّق الذين أمرهم الله بلزوم دينه من الأمم دينهم بينهم كتبا ، كما بيّنا قبل .
وقوله : كُلّ حَزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ يقول : كل فريق من تلك الأمم بما اختاروه لأنفسهم من الدين والكتب فرحون ، معجبون به ، لا يرون أن الحقّ سواه . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كُلّ حَزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قطعة ، وهؤلاء هم أهل الكتاب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : كُلّ حِزْبٍ قطعة ، أهل الكتاب .
قوله { فتقطعوا } ، أما أن قوله { وأنا ربكم فاتقون } وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون بالمعنى فيحسن بعد ذلك اتصال { فتقطعوا } ، ومعنى «الأمة » هنا الملة والشريعة{[8500]} والإشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام وهو دين الإسلام ، وقوله { فتقطعوا } يريد الأمم أي افترقوا وليس بفعل مطاوع كما تقول تقطع الثوب بل هو فعل متعد بمعنى قطعوا ومثاله تجهمني الليل وتخوفني السير وتعرقني الزمن ، وقرأ نافع «زُبراً » بضم الزاي جمع زبور ، وقرأ الأعمش وأبو عمرو بخلاف «زُبَراً » بضم الزاي وفتح الباء ، فأما القراءة الأولى فتحتمل معنيين احدهما أَن الأمم تنازعت أمرها كتباً منزلة فاتبعت فرقة الصحف ، وفرقة التوارة ، وفرقة الزبورن وفرقة الإنجيل ، ثم حرف الكل وبدل ، وهذا قول قتادة ، والثاني أنهم تنازعوا أمرهم كتباً وضعوها وضلالات ألفوها وهذا قول ابن زيد ، وأما القراءة الثانية فمعناها فرقاً كزبر الحديد
جيء بفاء التعقيب لإفادة أن الأمم لم يتريثوا عقب تبليغ الرسل إياهم { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } [ المؤمنون : 52 ] أن تقطعوا أمرهم بينهم فاتخذوا آلهة كثيرة فصار دينهم متقطعاً قطعاً لكل فريق صنم وعبادة خاصة به . فضمير { تقطّعوا } عائد إلى الأمم المفهوم من السياق الذين هم المقصود من قوله { وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } [ المؤمنون : 52 ] . وضمير الجمع عائد إلى أمم الرسل يدل عليه السياق .
فالكلام مسوق مساق الذم . ولذلك قد تفيد الفاء مع التعقيب معنى التفريع ، أي فتفرع على ما أمرناهم به من التوحيد أنهم أتوا بعكس المطلوب منهم فيفيد الكلام زيادة على الذم تعجيباً من حالهم . ومما يزيد معنى الذم تذييله بقوله { كل حزب بما لديهم فرحون } أي وهم ليسوا بحال من يفرح .
والتقطع أصله مطاوع قطع . واستعمل فعلاً متعدياً بمعنى قطع بقصد إفادة الشدة في حصول الفعل ، ونظيره تخوفه السير ، أي تنقصه ، وتجهمه الليل وتعرفه الزمن . فالمعنى : قطعوا أمرهم بينهم قطعاً كثيرة ، أي تفرقوا على نحل كثيرة فجعل كل فريق منهم لنفسه ديناً . ويجوز أن يجعل { تقطَّعوا } قاصراً أسند التقطع إليهم على سبيل الإبهام ثم ميز بقوله { أمرهم } كأنه قيل : تقطعوا أمراً ، فإن كثيراً من نحاة الكوفة يجوزون كون التمييز معرفة . وقد بسطنا القول في معنى { تقطعوا أمرهم بينهم } في سورة الأنبياء ( 93 ) .
والأمر هنا بمعنى الشأن والحال وما صدقه أمور دينهم .
والزبُر بضم الزاي وضم الموحدة كما قرأ به الجمهور جمع زبور وهو الكتاب . استعير اسم الكتاب للدين لأن شأن الدين أن يكون لأهله كتاب ، فيظهر أنها استعارة تهكمية إذ لم يكن لكل فريق كتاب ولكنهم اتخذوا لأنفسهم أدياناً وعقائد لو سجلت لكانت زُبُراً .
وقرأه أبو عمرو بخلاف عنه { زُبَرا } بضم الزاء وفتح الموحدة وهو جمع زُبرة بمعنى قطعة .
وجملة { كل حزب بما لديهم فرحون } تذييل لما قبله لأن التقطع يقتضي التحزب فذيل بأن كل فريق منهم فرح بدينه ، ففي الكلام صفة محذوفة ل { حزب } ، أي كل حزب منهم ، بدلالة المقام .
والفرح : شدة المسرة ، أي راضون جذلون بأنهم اتخذوا طريقتهم في الدين . والمعنى : أنهم فرحون بدينهم عن غير دليل ولا تبصر بل لمجرد العكوف على المعتاد . وذلك يومىء إليه { لديهم } المقتضي أنه متقرر بينهم من قبل ، أي بالدين الذي هو لديهم فهم لا يرضون على من خالفهم ويعادونه ، وذلك يفضي إلى التفريق والتخاذل بين الأمة الواحدة وهو خلاف مراد الله ولذلك ذيل به قوله { وإن هذه أمتكم أمة واحدة } [ المؤمنون : 52 ] . وقديماً كان التحزب مسبباً لسقوط الأديان والأمم وهو من دعوة الشيطان التي يلبس فيها الباطل في صورة الحق .
والحزب : الجماعة المجتمعون على أمر من اعتقاد أو عمل ، أو المتفقون عليه .