المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

11- وإذا قال أحد من المهتدين لهؤلاء المنافقين : لا تفسدوا في الأرض بالصدِّ عن سبيل الله ، ونشر الفتنة وإيقاد نار الحرب برَّأوا أنفسهم من الفساد ، وقالوا : ما نحن إلا مصلحون . وذلك لفرط غرورهم ، وهذا شأن كل مفسد خبيث مغرور يزعم فساده إصلاحاً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

ثم وصفهم الله - تعالى - بعد ذلك بجملة من الرذائل والقبائح مضافة إلى قبائحهم السابقة فقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا . . . } .

الفساد : خروج الشيء عن حالة الاعتدال والاستقامة ، وعن كونه منتفعاً به ، وضده الصلاح ، يقال : فسد الشيء فساداً ، وأفسده إفساداً . والمراد به هنا كفرهم ، ومعاصيهم ، ومن كفر بالله وانتهك محارمه فقد أفسد في الأرض ، لأن الأرض لا تصلح إلا بالتوحيد والطاعة .

ومن أبرز معاصي هؤلاء المنافقين ، ما كانوا يدعون إليه في السر من تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشبه في طريق دعوته ، والتحالف مع المشركين ضد المسلمين كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا .

وسلك القرآن هذا الأسلوب فقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } بالبناء للمفعول دون أن يسند الفعل إلى فاعله ، لأن مصدر القول المعبر عن النهي عن الإِفساد ليس مصدراً واحداً ، فقد يصل آذانهم هذا النهي مرة من صريح القول . وأخرى مما كانوا يقابلون به من ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من تجهم وإعراض . وعلق بالفعل الذي هو الإِفساد قوله : { فِي الأرض } إيذاناً بأن الإِفساد مهما ضاقت حدوده ، فإنه لابد يوماً أن يتعدى الحدود إلى ما وراء ذلك فقد يعم ويشمل إذا لم يشتد في الاحتياط له ، لذلك جعل ظرف إفسادهم الأرض كلها مع أنهم موجودون في بقعة محصورة هي المدينة المنورة .

ولقد حكى القرآن جوابهم على نصيحة الناصحين وما فيه من تبجح وادعاء فقال :

{ قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } . فقد بالغوا في الرد فحصروا أنفسهم أولاً في الإصلاح مبالغة المفجوع الذي أذهلته المفاجأة بكشف أستار حقيقة ، فتراهم لم يقتصروا على أن يقولوا : { إِنّا مُصْلِحُونَ } بل قالوا " إنما " ثم أكدوا الجملة بكونها اسمية ليدلوا بذلك على أن شأنهم في الإصلاح ثابت لازم . قال الراغب : صوروا إفسادهم بصورة الإِصلاح لما في قلوبهم من المر ، كما في قوله - تعالى - : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } وقوله : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } وقوله : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً . الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

1

وصفة أخرى من صفاتهم - وبخاصة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في قومهم ورياسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول - صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد ، والتبجح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون :

( وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض ، قالوا : إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ، ولكن لا يشعرون ) . .

إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع ، بل يضيفون اليهما السفه والادعاء : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) . . لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد ، بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير : ( قالوا : إنما نحن مصلحون ) . .

والذين يفسدون أشنع الفساد ، ويقولون : إنهم مصلحون ، كثيرون جدا في كل زمان . يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم . ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم . والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم ، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية ، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرّة الطيب الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس{[1270]} من أصحاب رسول الله{[1271]} صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أما لا تفسدوا في الأرض ، قال : الفساد هو الكفر ، والعمل بالمعصية .

وقال أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } قال : يعني : لا تعصُوا في الأرض ، وكان فسادهم ذلك معصية الله ؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله ، فقد أفسد في الأرض ؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطَّاعة .

وهكذا قال الربيع بن أنس ، وقتادة .

وقال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } قال : إذا ركبوا معصية الله ، فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا ، قالوا : إنما نحن على الهدى ، مصلحون .

وقد قال وَكِيع ، وعيسى بن يونس ، وعثَّام بن علي ، عن الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله الأسدي ، عن سلمان الفارسي : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قال سلمان : لم يجئ أهل هذه الآية بعد .

وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم ، حدثنا عبد الرحمن بن شَريك ، حدثني أبي ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب وغيره ، عن سلمان ، في هذه الآية ، قال : ما جاء هؤلاء بَعْدُ{[1272]} .

قال ابن جرير : يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادًا من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد{[1273]} .

قال ابن جرير : فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكّهم في دينه الذي لا يُقْبَلُ من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله ، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا . فذلك إفساد المنافقين في الأرض ، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها{[1274]} .

وهذا الذي قاله حسن ، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ الأنفال : 73 ] فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [ النساء : 144 ] ثم قال : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [ النساء : 145 ] فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين ، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل ؛ لأنه هو الذي غَرّ المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له ، ووالى الكافرين على المؤمنين ، ولو أنه استمر على حالته{[1275]} الأولى لكان شرّه أخف ، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح وأنجح ؛ ولهذا قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي : نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين ، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب .

/خ20


[1270]:في طـ، ب: "ناس".
[1271]:في أ: "النبي".
[1272]:تفسير الطبري (1/288).
[1273]:تفسير الطبري (1/289).
[1274]:تفسير الطبري (1/289).
[1275]:في أ، و: "لحاله".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ قَالُوَاْ إِنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }

اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فروي عن سلمان الفارسي أنه كان يقول : لم يجيءْ هؤلاء بعد .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن عليّ ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : سمعت المنهال بن عمرو يحدّث عن عباد بن عبد الله ، عن سلمان ، قال : ما جاء هؤلاء بعد ، الذين إذَا قيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ .

حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني الأعمش ، عن زيد بن وهب وغيره ، عن سلمان أنه قال في هذه الآية : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ قال ما جاء هؤلاء بعد . وقال آخرون بما :

حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأرْض قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ هم المنافقون . أما لا تفسدوا في الأرض فإن الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية .

وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا في الأرْضِ يقول : لا تعصوا في الأرض . قال : فكان فسادهم على أنفسهم ذلك معصية الله جل ثناؤه ، لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض ، لأن إصلاح الأرض والسماء بالطاعة .

وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : إن قول الله تبارك اسمه : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان معنيا بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة . وقد يحتمل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية : «ما جاء هؤلاء بعد » أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا منه عمن جاء منهم بعدهم ولما يجيء بعد ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن هذه صفته أحد .

وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك صفة من كان بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ، وأن هذه الاَيات فيهم نزلت . والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير . والإفساد في الأرض : العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه ، وتضييع ما أمر الله بحفظه . فذلك جملة الإفساد ، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرا عن قيل ملائكته : { قالُوا أَتَجْعَلَ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ } يعنون بذلك : أتجعل في الأرض من يعصيك ويخالف أمرك ؟ فكذلك صفة أهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصِيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا بالتصديق به والإيقان بحقّيته ، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً .

فذلك إفساد المنافقين في أرض الله ، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها . فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته ، ولا خفف عنهم أليم ما أعدّ من عقابه لأهل معصيته بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون ، بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره والأليمَ من عذابه والعارَ العاجل بسبّ الله إياهم وشتمه لهم ، فقال تعالى : أَلاّ إنّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم أدلّ الدليل على تكذيبه تعالى قول القائلين : إن عقوبات الله لا يستحقها إلا المعاند ربه فيما لزمه من حقوقه وفروضه بعد علمه وثبوت الحجة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إياه .

القول في تأويل قوله تعالى : قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ .

وتأويل ذلك كالذي قاله ابن عباس ، الذي :

حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أي قالوا : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب . وخالفه في ذلك غيره .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قال : إذا ركبوا معصية الله ، فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا ، قالوا : إنما نحن على الهدى مصلحون .

قال أبو جعفر : وأيّ الأمرين كان منهم في ذلك أعني في دعواهم أنهم مصلحون فهم لا شكّ أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون . فسواء بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاح أو في أديانهم ، وفيما ركبوا من معصية الله ، وكذبهم المؤمنين فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهروا مستبطنون ، لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين ، وهم عند الله مسيئون ، ولأمر الله مخالفون لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوة اليهود وحربهم مع المسلمين ، وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله كالذي ألزم من ذلك المؤمنين ، فكان لقاؤهم اليهود على وجه الولاية منهم لهم ، وشكهم في نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله أعظم الفساد ، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحا وهدى : في أديانهم ، أو فيما بين المؤمنين واليهود ، فقال جل ثناؤه فيهم : ألا إنّهُمُ هُمْ المُفْسِدُونَ دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض ولكن لا يشعرون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

َوَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( 11 )

و { إذا } ظرف زمان ، وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة خرجت فإذا زيد ظرف مكان ، لأنها تضمنت جثة ، وهذا مردود لأن المعنى «خرجت فإذا حضور زيد » فإنما تضمنت المصدر ، كما يقتضيه سائر ظروف الزمان ، ومنه قولهم : «اليوم خمر ، وغداً أمر » فمعناه وجود خمر ووقوع أمر ، والعامل في { إذا } في هذه الآية { قالوا } . وأصل { قيل } قول نقلت حركة الواو إلى القاف فقلبت ياء لانكسار ما قبلها .

وقرأ الكسائي : «قُيل وغُيض وسُيء وسُيئت وحُيل وسُيق وجُيء » بضم أوائل ذلك كله . وروي مثل ذلك عن ابن عامر . وروي أيضاً عنه أنه كسر «غِيض وقِيل وجِيء » ، الغين القاف والجيم حيث وقع من القرآن وضم نافع من ذلك كله حرفين «سُيء وسُيئت » وكسر ما بقي . وكان ابن كثير وعاصم وأبوعمرو وحمزة يكسرون أوائل هذه الحروف كلها ، والضمير في { لهم } هو عائد إلى المنافقين المشار إليهم قبل .

وقال بعض الناس : «الإشارة هنا هي إلى منافقي اليهود » .

وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية : لم يجىء( {[235]} ) هؤلاء بعد ومعنى قوله : لم ينقرضوا بل هم يجيئون في كل زمان .

و { لا تفسدوا في الأرض } معناه بالكفر وموالاة الكفرة ، و { نحن } اسم من ضمائر المرفوع مبني على الضم ، إذ كان اسماً قوياً يقع للواحد المعظم والاثنين والجماعة ، فأعطي أسنى الحركات .

وأيضاً فلما كان في الأغلب ضمير جماعة ، وضمير الجماعة في الأسماء الظاهرة الواو أعطي الضمة إذ هي أخت الواو ، ولقول المنافقين : { إنما نحن مصلحون } ثلاث تأويلات :

أحدها : جحد أنهم مفسدون وهذا استمرار منهم على النفاق .

والثاني : أن يقروا بموالاة الكفار ويدعون أنها صلاح من حيث هم قرابة توصل .

والثالث : أنهم مصلحون بن الكفار والمؤمنين ، فلذلك يداخلون الكفار .


[235]:- رواه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه ابن جرير الطبري بسنده في تفسير هذه الآية الكريمة وقال: يحتمل أن سلمان رضي الله عنه أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنه عني أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد- قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لا يُقْبل عمل من أحد إلا بالتصديق به، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله ورسله وكتبه على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا، فذلك إفساد المنافقين في الأرض وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها، قال ابن (ك) رحمه الله: وكذا الذي قاله حسن، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، انتهى. فهذه الآية تخاطب أهل كل زمان يصورون الإفساد بصورة الإصلاح.