ثم ذكر - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعليهم فقال : { هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .
والرءوف : مبالغة فى الاتصاف بالرأفة ، ومعناها : كراهية إصابة الغير بما يضره أو يؤذيه .
والرحيم : مبالغة فى الاتصاف بصفة الرحمة . ومعناه : محبة إيصال الخير والنفع إلى الغير .
أى : هو - سبحانه - وحده الذى ينزل على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أى : حججا واضحات ، ودلائل باهرات ، لكى يخرجكم من ظلمات الكفر والجهل ، إلى نور الإيمان والعلم .
وإن الله - تعالى - بكم - أيها الناس - لكثير الرأفة والرحمة ، حيث أنزل إليكم كتابه ، وأرسل إليكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وما الذي يعوقهم عن الإيمان بالله وهو ينزل على عبده آيات بينات تخرجهم من ظلمات الضلال والشك والحيرة إلى نور الهدى واليقين والطمأنينة ? وفي هذا وذاك من دلائل الرأفة والرحمة بهم ما فيه .
إن نعمة وجود الرسول بين القوم ، يدعوهم بلغة السماء ، ويخاطبهم بكلام الله ، ويصل بينهم وبين الله في ذوات نفوسهم وخواص شؤونهم . . نعمة فوق التصور حين نتملاها نحن الآن من بعيد . . فهذه الفترة - فترة الوحي وحياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فترة عجيبة حقا . . إن الله - جل جلاله - يخاطب هذا البشر من صنع يديه ، على لسان عبده [ صلى الله عليه وسلم ] وفي رحمة علوية ندية يقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك ! ها هو ذا طريقي فاسلكوه ! لقد تعثرت خطاكم فهاكم حبلي ! لقد أخطأتم وأثمتم فتوبوا وها هو ذا بابي مفتوح . تعالوا ولا تشردوا بعيدا ، ولا تقنطوا من رحمتي التي وسعت كل شيء . . وأنت يا فلان - بذاتك وشخصك - قلت كذا . وهو خطأ . ونويت كذا . وهو إثم . وفعلت كذا وهي خطيئة . . فتعال هنا قدامي وتطهر وتب وعد إلى حماي . . وأنت يا فلان - بذاتك وشخصك - أمرك الذي يعضلك هذا حله . وسؤالك الذي يشغلك هذا جوابه . وعملك الذي عملت هذا وزنه !
إنه الله . هو الذي يقول . يقول لهؤلاء المخاليق . وهم يعيشون معه . يحسون أنه معهم . حقيقة وواقعا . أنه يستمع إلى شكواهم في جنح الليل ويستجيب لها . وأنه يرعاهم في كل خطوة ويعنى بها . .
ألا إنه لأمر فوق ما يطيق الذي لم يعش هذه الفترة أن يتصور . ولكن هؤلاء المخاطبين بهذه الآيات عاشوها فعلا . . ثم احتاجوا إلى مثل هذا العلاج ومثل هذه اللمسات ، ومثل هذا التذكير . . وهو فضل من الله ورحمة فوق فضله ذاك ورحمته . يدركهما ويشعر بهما من لم تقدر له الحياة في هذه الفترة العجيبة :
ورد في صحيح البخاري أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال يوما لأصحابه : " أي المؤمنين أعجب إليكم ? " قالوا : الملائكة . قال " وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ? " . قالوا : فالأنبياء . قال : " وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ? " . قالوا : فنحن . قال : " وما لكم لاتؤمنون وأنا بين أظهركم ? ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها " . .
وقوله : { هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : حججًا واضحات ، ودلائل باهرات ، وبراهين قاطعات ، { لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : من ظلمات الجهل والكفر والآراء
المتضادة إلى نور الهدى واليقين والإيمان ، { وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس ، وإزاحة العلل وإزالة الشبه .
القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 9 )
يقول تعالى ذكره : الله الذي ينزل على عبده محمد ( آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) يعني مفصلات ( لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) يقول جلّ ثناؤه : ليخرجكم أيها الناس من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، ومن الضلالة إلى الهُدى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) قال : من الضلالة إلى الهدى .
وقوله : ( وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) يقول تعالى ذكره : وإن الله بإنزاله على عبده ما أنزل عليه من الآيات البيِّنات لهدايتكم ، وتبصيركم الرشاد ، لذو رأفة بكم ورحمة ، فمن رأفته ورحمته بكم فعل ذلك
استئناف ثالث انتقل به الخطاب إلى المؤمنين ، فهذه الآية يظهر أنها مبدأ الآيات المدنية في هذه السورة ويزيد ذلك وضوحاً عطف قوله : { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله } [ الحديد : 10 ] الآيات كما سيأتي قريباً .
والخطاب هنا وإن كان صالحاً لتقرير ما أفادته جملة { وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم } [ الحديد : 8 ] ولكن أسلوب النظم وما عطف على هذه الجملة يقتضيان أن تكون استئنافاً انتقالياً هو من حسن التخلص إلى خطاب المسلمين ، ولا تفوته الدلالة على تقرير ما قبله لأن التقرير يحصل من انتساب المعنيين : معنى الجملة السابقة ، ومعنى هذه الجملة الموالية .
فهذه الجملة بموقعها ومعناها وعلتها وما عُطف عليها أفادت بياناً وتأكيداً وتعليلاً وتذييلاً وتخلصاً لغرض جديد ، وهي أغراض جمعْتها جمعاً بلغ حد الإِعجاز في الإِيجاز ، مع أن كل جملة منها مستقلة بمعنى عظيم من الاستدلال والتذكير والإِرشاد والامتنان .
والرؤوف : من أمثلة المبالغة في الاتصاف بالرأفة وهي كراهية إصابة الغير بضر .
والرحيم : من الرحمة وهي محبة إيصال الخير إلى الغير .
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم { لرؤوف } بواو بعد الهمزة على اللغة المشهورة . وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بدون واو بعد الهمزة وهي لغة ولعلها تخفيف ، قال جرير :
يرى للمسلمين عليه حقاً *** كفعل الوالد الرَّؤُف الرحيم
وتأكيد الخبر ب { إنّ } واللام في قوله : { وإن الله بكم لرؤوف رحيم } لأن المشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام قد حسبوها إساءة لهم ولآبائهم وآلهتهم ، فقد قالوا : { أهذا الذي بعث الله رسولاً إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } [ الفرقان : 41 ، 42 ] . وهذا يرجح أن قوله تعالى : { آمنوا بالله ورسوله } [ الحديد : 7 ] إلى هنا مكّي . فإن كانت الآية مدنيّة فلأن المنافقين كانوا على تلك الحالة .