ثم حكى - سبحانه - ما رد به موسى فقال : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } .
أى : { قَالَ } موسى فى الرد على الشيخ الكبير { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } أى : ذلك الذى قلته لى واشترطته على ، كائن وحاصل بينى وبينك ، وكلانا مطالب بالوفاء به فاسم الإشارة مبتدأ ، وبينى وبينك خبره ، والإشارة مرجعها إلى ما تعاقدا عليه ، وأى فى قوله : { أَيَّمَا الأجلين } شرطية ، وجوابها ، { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } و ( وما ) مزيدة للتأكيد .
والمعنى : أى الأجلين ، أى الثمانية الأعوام أو العشرة الأعوام { قَضَيْتُ } أى : وفيت به ، وأديته معك أجيرا عندك { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } أى : فلا ظلم على ، وأصل العدوان : تجاوز الحد .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : أى قال موسى : ذلك الذى قلته . . . قائم بيننا جميعا لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما اشترطت على ولا أنت عما اشترطت على نفسك . . . ثم قال : أى أجل من الأجلين قضيت - أطولهما أو أقصرهما - { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } أى : فلا يعتدى على فى طلب الزيادة عليه . فإن قلت : تصور العدوان إنما هو فى أحد الأجلين الذى هو الأقصر ، وهو المطالبة بتتمة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا ؟
قلت : معناه ، كما أنى إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمانى . أراد بذلك تقرير أمر الخيار ، وأنه ثابت مستقر ، وأن الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما فى القضاء ، وأما التتمة فهى موكولة إلى رأيى . إن شئت أتيت بها ، وإلا لم أجبر عليها .
والمقصود بقوله : { والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } . توثيق العهد وتأكيده ، وأنه لا سبيل لواحد منهما على الخروج عنه أصلا .
أى : والله - تعالى - شهيد ووكيل ورقيب على ما اتفقنا عليه ، وتعاهدنا على تنفيذه ، وكفى بشهادته - سبحانه - شهادة .
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الآثار التى تدل على أن موسى - عليه السلام - قد قضى أطول الأجلين . ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سألت جبريل : أى الأجلين قضى موسى ؟ قال : " أكملهما وأتمهما ، وفى رواية : أبرهما وأوفاهما " " .
هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يرى فيها بجلاء ووضوح ، ما جبل عليه موسى - عليه السلام - من صبر على بأساء الحياة وضرائها ومن همة عالية تحمله فى كل موطن على إعانة المحتاج ، ومن طبيعة إيجابية تجعله دائما لا يقف أمام مالا يرضيه مكتوف اليدين ، ومن عاطفة رقيقة تجعله فى كل الأوقات دائم التذكر لخالقه ، كثير التضرع إليه بالدعاء .
كما يرى فيها الفطرة السوية ، والصدق مع النفس ، والحياء ، والعفاف ، والوضوح ، والبعد عن التكلف والالتواء ، كل ذلك متمثل فى قصة هاتين المرأتين اللتين سقى لهما موسى غنمهم ، واللتين إحداهما تمشى على استحياء ، ثم قالت لأبيها : يا أبت استأجره .
كما يرى فيها ما كان يتحلى به ذلك الشيخ الكبير من عقل راجح ، ومن قول طيب حكيم ، يدخل الأمان والاطمئنان على قلب الخائف ، ومن أبوة حانية رشيدة ، تستجيب للعواطف الشريفة ، وتعمل على تحقيق رغباتها عن طريق الزواج الذى شرعه الله - تعالى - .
وقبل موسى العرض وأمضى العقد ؛ في وضوح كذلك ودقة ، وأشهد الله :
( قال ذلك بيني وبينك . أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على . والله علي ما نقول وكيل ) .
إن مواضع العقد وشروط التعاقد لا مجال للغموض فيها ، ولا اللعثمة ، ولا الحياء . ومن ثم يقر موسى العرض ، ويبرم العقد ، على ما عرض الشيخ من الشروط . ثم يقرر هذا ويوضحه : ( أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي ) . . سواء قضيت ثماني سنوات أو أتممت عشرا ، فلا عدوان في تكاليف العمل ، ولا عدوان في تحتيم العشر ؛ فالزيادة على الثمانية اختيار . . ( والله على ما نقول وكيل ) . فهو الشهيد الموكل بالعدل بين المتعاقدين . وكفى بالله وكيلا .
بين موسى - عليه السلام - هذا البيان تمشيا مع استقامة فطرته ، ووضوح شخصيته ، وتوفية بواجب المتعاقدين في الدقة والوضوح والبيان . وهو ينوي أن يوفي بأفضل الأجلين كما فعل . فقد روي أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أخبر أنه : " قضى أكثرهما وأطيبهما " .
وهكذا اطمأن بموسى - عليه السلام - المقام في بيت حميه ؛ وقد أمن من فرعون وكيده . ولحكمة مقدرة في علم الله كان هذا الذي كان . . فلندع الآن هذه الحلقة تمضي في طريقها حتى تنقضي . فقد سكت السياق فيها عند هذا الحد وأسدل الستار . .
وقوله تعالى إخبارا عن موسى ، عليه السلام : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } ، يقول : إن موسى قال لصهره : الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين ، فإن أتممت عشرًا فمن عندي ، فأنا متى فعلت أقلهما [ فقد ]{[22276]} برئت من العهد ، وخرجت من الشرط ؛ ولهذا قال : { أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ } أي : فلا حرج علي مع أن الكامل - وإن كان مباحًا لكنه فاضل من جهة أخرى ، بدليل من خارج . كما قال [ الله ]{[22277]} تعالى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 203 ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي ، رضي الله عنه ، وكان كثير الصيام ، وسأله عن الصوم في السفر - فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " {[22278]} مع أن فعل الصيام راجح من دليل آخر .
هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه السلام ، إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما ؛ قال البخاري :
حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مَرْوان بن شُجاع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى ؟ فقلت : لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأَلَه . فقدمت فسألت ابن عباس ، رضي الله عنه ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل . هكذا رواه البخاري{[22279]} وهكذا رواه حكيم بن جبير وغيره ، عن سعيد بن جبير . ووقع في " حديث الفُتُون " ، من رواية القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ؛ أن الذي سأله رجل من أهل النصرانية . والأول أشبه ، والله أعلم ، وقد رُوي من{[22280]} حديث ابن عباس مرفوعا ، قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سألت جبريل : أيّ الأجلين قضى موسى قال : أكملهما وأتمهما " {[22281]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن الحميدي ، عن سفيان - وهو ابن عيينة - حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب - وكان من أسناني أو أصغر مني - فذكره .
قلت : وإبراهيم هذا ليس بمعروف .
ورواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن أعين ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره . ثم قال : لا نعرفه مرفوعا عن ابن عباس إلا من هذا الوجه{[22282]} .
وقال{[22283]} ابن أبي حاتم : قُرئ على يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث ، عن يحيى بن ميمون الحضرمي ، عن يوسف بن تيرح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قال : " لا علم لي " . فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ، فقال جبريل : لا علم لي ، فسأل جبريل ملكا فوقه فقال : لا علم لي . فسأل{[22284]} ذلك المَلَك ربه - عز وجل - عما سأله عنه جبريل عما سأله عنه محمد صلى الله عليه وسلم فقال الرب سبحانه وتعالى : " قضى أبرهما وأبقاهما - أو قال : أزكاهما " {[22285]} .
وهذا مرسل ، وقد جاء مرسلا من وجه آخر ، وقال{[22286]} سُنَيد : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيْج قال : قال مجاهد : إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل : " أيّ الأجلين قضى موسى ؟ " فقال : سوف أسأل إسرافيل . فسأله فقال : سوف أسأل الرب عز وجل . فسأله فقال : " أبرهما وأوفاهما " {[22287]} .
طريق أخرى مرسلة أيضا : قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو مَعْشَر ، عن محمد بن كعب القُرظي قال : سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : " أوفاهما وأتمهما " {[22288]} .
فهذه طرق متعاضدة ، ثم قد{[22289]} روي [ هذا ]{[22290]} مرفوعا من رواية أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال الحافظ أبو بكر البزار ، حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا عَوْبَد بن أبي عمران الجَوْني ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر : أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل : أيّ الأجلين قَضَى موسى ؟ قال : " أوفاهما وأبرهما " ، قال : " وإن سئلتَ أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما " .
ثم قال البزار : لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد{[22291]} .
وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عَوبَد بن أبي عمران - وهو ضعيف - ثم قد روي أيضا نحوه من حديث عتبة بن الندر{[22292]} بزيادة غريبة جدا ، فقال أبو بكر البزار : حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني ، حدثنا يحيى بن بُكَيْر ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا الحارث بن يزيد عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النّدر{[22293]} يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل : أيّ الأجلين قَضَى موسى ؟ قال : " أبرهما وأوفاهما " . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن موسى ، عليه السلام ، لما أراد فراق شعيب عليه السلام ، أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به . فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالِب لَون . قال : فما مرت شاة إلا ضرب موسى جنبها بعصاه ، فولدت قَوَالب ألوان كلها ، وولدت ثنتين وثلاثًا كل شاة ليس فيها فَشُوش ولا ضبُوب ، ولا كَمِيشة تُفَوّت الكف ، ولا ثَعُول " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا{[22294]} افتتحتم الشام فإنكم ستجدون بقايا منها ، وهي السامرية " {[22295]} .
هكذا أورده البزار . وقد رواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا{[22296]} فقال :
حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَير ، حدثني عبد الله بن لهيعة( ح ) وحدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النُّدّر{[22297]} السلمي - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن موسى ، عليه السلام{[22298]} آجر نفسه بعفة فرجه وطُعمة بطنه . فلما وفى الأجل - قيل : يا رسول الله ، أي الأجلين ؟ قال - أبرهما وأوفاهما . فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب{[22299]} لون من ولد ذلك العام ، وكانت غنمه سوداء حسناء ، فانطلق موسى ، عليه السلام إلى عصاه فَسَمَّاها من طرفها ، ثم وضعها في أدنى الحوض ، ثم أوردها فسقاها ، ووقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة قال : " فأتأمت وأثلثت ، ووضعت كلها قوالب ألوان ، إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش . قال يحيى : ولا ضبون . وقال صفوان : ولا ضبُوب . قال أبو زرعة : الصواب ضَبُوب - ولا عَزُوز ولا ثَعُول ، ولا كميشة تُفَوّت الكف " ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية " .
وحدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا صفوان قال : سمعت الوليد قال : فسألت ابن لَهِيعة : ما الفشوش ؟ قال : التي تَفُشّ بلبنها واسعة الشَّخب . قلت : فما الضبوب ؟ قال : الطويلة الضرع تجره . قلت : فما العَزُوز ؟ قال : ضيقة الشَّخب . قال فما الثَعُول ؟ قال : التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين . قلت : فما الكميشة ؟ قال : التي تُفَوّت الكف ، كميشة الضرع ، صغير لا يدركه الكف .
مدار هذا الحديث على عبد الله بن لَهِيعة المصري - وفي حفظه سوء - وأخشى أن يكون رفعه خطأ ، والله أعلم . وينبغي أن يُرْوَى ليس فيها فشوش ولا عزوز ، ولا ضبوب ولا ثَعول ولا كميشة ، لتذكر كل صفة ناقصة مع ما يقابلها من الصفات الناقصة . وقد روى ابن جرير من{[22300]} كلام أنس بن مالك - موقوفا عليه - ما يقارب بعضه بإسناد جيد{[22301]} ، فقال : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لما دعا نبي الله موسى ، عليه السلام ، صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما ، قال له صاحبه : كل شاة ولدت على غير لونها فذلك ولدها لك . فعمد فرفع حبالا على الماء ، فلما رأت الخيال فزعت فجالت جولة ، فولدن كلهن بلقًا إلا شاة واحدة ، فذهب بأولادهن ذلك العام{[22302]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيّ وَاللّهُ عَلَىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } .
يقول تعالى ذكره : قالَ وموسى لأبي المرأتين ذلكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي هذا الذي قلت من أنك تزوّجني أحدى ابنتيك على أن آجرك ثماني حِجَج ، واجب بيني وبينك ، على كل واحد منا الوفاء لصاحبه بما أوجب له على نفسه .
وقوله : أيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ يقول : أيّ الأجلين من الثماني الحجج والعشر الحجج قضيت ، يقول : فرغت منها فوفيتكها رعي غنمك وماشيتك فَلا عُدْوَانَ عَليّ يقول : فليس لك أن تعتدي عليّ ، فتطالبني بأكثر منه ، و«ما » في قوله : أيّمَا الأجَلَيْنِ صلة يوصل بها أيّ على الدوام ، وزعم أهل العربية أن هذا أكثر في كلام العرب من أيّ ، وأنشد قول الشاعر :
وأيّهُما ما أتْبَعَنّ فإنّنِي *** حَرِيصٌ عَلى أثْرِ الّذِي أنا تابِعُ
فَأَيّي ما وأيّكَ كانَ شَرّا *** فَقِيدَ إلى المَقامَةِ لا يَرَاها
وقوله : وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ كان ابن إسحاق يرى هذا القول من أبي المرأتين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال موسى ذلكَ بَيْني وبَيْنَكَ أيّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَليّ قال : نعم . واللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ فزوّجه ، وأقام معه يكفيه ، ويعمل له في رعاية غنمه ، وما يحتاج إليه منه ، وزوجة موسى صفورا أو أختها : شرفا أو لَيّا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال ابن عباس الجارية التي دعته هي التي تزوّج .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال له إنّي أُرِيدُ أنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتيّ هاتَيْنِ عَلى أنْ تَأْجُرَنِي . . . إلى آخر الاَية ، قال : وأيتهما تريد أن تنكحني ؟ قال : التي دعتك ، قال : لا . ألا وهي بريئة مما دخل نفسك عليها ، فقال : هي عندك كذلك ، فزوّجه . وبنحو الذي قلنا في قوله : أيّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قالَ ذلكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ إما ثمانيا ، وإما عشرا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن عمارة بن غزية ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، وسأله رجل قال أيّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَليّ قال : فقال القاسم : ما أبالي أيّ ذلك كان ، إنما هو موعد وقضاء .
وقوله : وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ يقول : والله على ما أوجب كلّ واحد منا لصاحبه على نفسه بهذا القول ، شهيد وحفيظ . كالذي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ قال : شهيد على قول موسى وخَتَنه . وذكر أن موسى وصاحبه لما تعاقدا بينهما هذا العقد ، أمر إحدى ابنتيه أن تعطِيَ موسى عصا من العصيّ التي تكون مع الرعاة ، فأعطته إياه ، فذكر بعضهم أنها العصا التي جعلها الله له آية . وقال بعضهم تلك عصا أعطاه إياها جبريل عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أمر يعني أبا المرأتين إحدى ابنتيه أن تأتيه ، يعني أن تأتيَ موسى بعصا ، فأتته بعصا ، وكانت تلك العصا عصا استودعها إياه مَلَك في صورة رجل ، فدفعها إليه ، فدخلت الجارية ، فأخذت العصا ، فأتته بها فلما رآها الشيخ قال : لا ، ائتيه بغيرها ، فألقتها تريد أن تأخذ غيرها ، فلا يقع في يدها إلاّ هي ، وجعل يردّدها ، وكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها فلما رأى ذلك عمد إليها ، فأخرجها معه ، فَرعَى بها . ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة ، فخرج يتلقى موسى ، فلما لقيه قال : أعطني العصا ، فقال موسى : هي عَصَاي ، فأبى أن يعطيه ، فاختصما ، فرضيا أن يجعلا بينهما أوّل رجل يلقاهما ، فأتاهما ملك يمشي ، فقال : ضعوها في الأرض ، فمن حملها فهي له ، فعالجها الشيخ فلم يطقها ، وأخذ موسى بيده فرفعها ، فتركها له الشيخ ، فرعَى له عشر سنين . قال عبد الله بن عباس . كان موسى أحقّ بالوفاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قال يعني أبا الجارية لما زوّجها لموسى : أدخل ذلك البيت فخذ عصا ، فتوكأ عليها ، فدخل ، فلما وقف على باب البيت ، طارت إليه تلك العصا ، فأخذها ، فقال : اردُدها وخذ أخرى مكانها ، قال : فردّها ، ثم ذهب ليأخذ أخرى ، فطارت إليه كما هي ، فقال : لا أردها ، فعل ذلك ثلاثا ، فقال : ارددها ، فقال : لا أجد غيرها اليوم ، فالتفت إلى ابنته ، فقال لابنته : إن زوجك لنبيّ . ذكر من قال التي كانت آيةً عصا أعطاها موسى جبرائيل عليه السلام :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، قال : سألت عكرِمة قال : أما عصا موسى ، فإنها خرج بها آدم من الجنة ، ثم قبضها بعد ذلك جبرائيل عليه السلام ، فلقي موسى بها ليلاً ، فدفعها إليه .