ثم نجد السورة الكريمة بعد ذلك ، تلقن النبى صلى الله عليه وسلم الحجج التى تؤيد ما هو عليه من حق وصدق ، وتزهق ما عليه أعداؤه من باطل وكذب . . فتقول : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ . . . . العزيز الحكيم } .
والأمر بالدعاء فى قوله - سبحانه - : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله } للتوبيخ والتعجيز . ومفعولا { زَعَمْتُمْ } مخذوفان .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المزعومة بعد ذلك فى قوله - تعالى - : { لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض . . } .
أى : هؤلاء الشركاء لا يملكون شيئا ما قل أو كثر لا فى السماوات ولا فى الأرض ، بل الذى بملك كل شئ ، هو الله - تعالى - وحده .
فالجملة الكريمة مستأنفة لبيان حال هذه الآية ، وللكشف عن حقيقتها .
والتعبير بعدم ملكيتهم لمثقال ذرة ، المقصود به أنهم لا يملكون شيئا على الإِطلاق ، لأن مثقال الذرة أقل ما تصور فى الحقارة والقلة .
وذكر - سبحانه - السماوات والأرض لقصد التعميم ، إذ هما محل الموجودات الخارجية .
أى : لا يملكون شيئا ما فى هذا الكون العلوى والسفلى .
وبعد أن نفى عن الشركاء الملكية الخالصة لأى شئ فى هذا الكون ، أتبع ذلك بنفى ملكيتهم لشئ ولو على سبيل المشاركة ، فقال - تعالى - : { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } .
أى : أن هؤلاء الذين زعمتموهم شركاء لله - تعالى - فى العبادة ، لايمكون شيئا ما فى هذا الكون ملكية خاصة ، ولا يملكون شيئا ما - أيضا - على سبيل المشاركة لغيرهم . وليس لله - تعالى - أحد يعينه أو يظاهره فيما يريد من إيجاد أو إعدام ، بل الأمر كله إليه وحده .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد نفت عن تلك الآلهة المزعومة ، ملكية أى شئ فى هذا الكون ، سواء أكانت ملكية خالصة ، أم ملكية على سبيل المشاركة ، وأثبتت أن المالك والمتصرف فى هذا الكون إنما هو الله - تعالى - وحده ، دون أن يكون فى حاجة إلى عون من تلك الآلهة أو من غيرها .
( قل : ادعوا الذين زعمتم من دون الله . لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، وما لهم فيهما من شرك ، وما له منهم من ظهير ) . .
إنه التحدي في مجال السماوات والأرض على الإطلاق :
( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ) . .
ادعوهم . فليأتوا . وليظهروا . وليقولوا أو لتقولوا أنتم ماذا يملكون من شيء في السماوات أو في الأرض جل أو هان ?
( لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) . .
ولا سبيل لأن يدعوا ملكية شيء في السماوات أو في الأرض . فالمالك لشيء يتصرف فيه وفق مشيئته . فماذا يملك أولئك المزعومون من دون الله ? وفي أي شيء يتصرفون تصرف المالك في هذا الكون العريض ?
لا يملكون في السماوات والأرض مثقال ذرة ملكية خالصة ، ولا على سبيل المشاركة :
والله - سبحانه - لا يستعين بهم في شيء . فما هو في حاجة إلى معين :
ويظهر أن الآية هنا تشير إلى نوع خاص من الشركاء المزعومين . وهم الملائكة الذين كانت العرب تدعوهم بنات الله ؛ وتزعم لهم شفاعة عند الله . ولعلهم ممن قالوا عنهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) . .
بَيَّن{[24302]} تعالى أنه الإله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لا نظير له ولا شريك له ، بل هو المستقل بالأمر وحده ، من غير مشارك ولا منازع ولا معارض ، فقال : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : من الآلهة التي عبدت من دونه { لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ } ، كما قال تبارك وتعالى : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } [ فاطر : 13 ] .
وقوله : { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ } أي : لا يملكون شيئا استقلالا ولا على سبيل الشركة ، { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } أي : وليس لله من{[24303]} هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور ، بل الخلق كلهم فقراء إليه ، عبيد لديه .
قال قتادة في قوله : { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } ، من عون يعينه بشيء .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ } .
يقول تعالى ذكره : فهذا فعلُنا بولينا ومن أطاعنا ، داود وسليمان الذي فعلنا بهما من إنعامنا عليهما النعم التي لا كفاءَ لها إذ شكرانا ، وذاك فعلنا بسَبَإ الذين فعلنا بهم ، إذ بَطِروا نعمتنا ، وكذّبوا رسلنا ، وكفروا أيادَينا ، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك ، الجاحدين نعمنا عندهم : ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم لله شريك من دونه ، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا ، بالذين وصفنا أمرهم من إنعام أو إياس ، فإن لم يقدروا على ذلك فاعلموا أنكم مبطلون ، لأن الشركة في الربوبية لا تصلح ولا تجوز ، ثم وصف الذين يدعون من دون الله ، فقال : إنهم لا يملكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض من خير ولا شرّ ولا ضرّ ولا نفع ، فكيف يكون إلها من كان كذلك . وقوله : وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ يقول تعالى ذكره : ولا هم إذ لم يكونوا يملكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض ، منفردين بملكه من دون الله ، يملكونه على وجه الشّرِكة ، لأن الأملاك في المملوكات ، لا تكون لمالكها إلا على أحد وجهين : إما مقسوما ، وإما مُشَاعا يقول : وآلهتهم التي يدعون من دون الله ، لا يملكون وزن ذَرّة في السموات ولا في الأرض ، لا مُشاعا ولا مقسوما ، فكيف يكون من كان هكذا شريكا لمن له ملك جميع ذلك . وقوله : وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ يقول : وما لله من الاَلهة التي يدعون من دونه مُعِين على خلق شيء من ذلك ، ولا على حفظه ، إذ لم يكن لها ملك شيء منه مُشاعا ولا مقسوما ، فيقال : هو لك شريك من أجل أنه أعان وإن لم يكن له ملك شيء منه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلِ ادْعُوا الّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ لاَ يمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرّةٍ فِي السّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ يقول : ما لله من شريك في السماء ولا في الأرض وما لَهُ مِنْهمْ من الذين يدعون من دون الله مِن ظهيرٍ من عون بشيء .