24- لم يعرفوا حق الله عليهم ، بل اتخذوا من غيره آلهة يعبدونها دون دليل معقول أو برهان صادق . قل - أيها النبي - هاتوا برهانكم علي أن لله شريكاً في الملك يبرر إشراكه في العبادة . هذا القرآن الذي جاء مذكراً لأمتي بما يجب عليها ، وهذه كتب الأنبياء التي جاءت لتذكِّر الأمم قبلي تقوم كلها علي توحيد الله . بل أكثرهم لا يعلمون ما جاء في هذه الكتب ، لأنهم لم يهتموا بالتأمل فيها ، فهم معرضون عن الإيمان بالله .
وبعد أن ساق - سبحانه - دليلا عقليا على وحدانيته ، أتبعه بدليل آخر نقلى ، فقال - تعالى - : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي . . . } .
قال الآلوسى ما ملخصه : هذا إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة ، لخلوها من خصائصها التى من جملتها الإنشار ، إلى تبكيتهم ومطالبتهم بالبرهان على دعواهم الباطلة ، وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقية التوحيد ، وبطلان الإشراك .
أى : إن هؤلاء الكافرين قد أشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة ، بسبب جهلهم وعنادهم وجحودهم للحق . . . قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل التبكيت والتوبيخ { هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } على أن مع الله - تعالى - آلهة أخرى تستحق مشاركته فى العبادة والطاعة ؟ ولا شك أنهم لا برهان لهم على ذلك .
وقوله - تعالى - : { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي } زيادة فى تبكيتهم وفى إظهار عجزهم ، أى : هذا الوحى الإلهى الناطق بتوحيد الله - تعالى - موجود فى القرآن الكريم المشتمل على ذكر بالمعاصرين لى من أتباعى ، وموجود فى كتب الأنبياء السابقين ، كالتوراة التى أنزلها الله على موسى ، والإنجيل الذى أنزله على عيسى ، فمن أين أتيتم أنتم بهؤلاء الشركاء ، وكيف اتخذتموهم آلهة مع أنهم لا برهان عليهم لا من جهة العقل ولا من جهة النقل ؟
فاسم الإشارة { هذا } فى قوله : { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ } مبتدأ ، مشار به إلى الوحى الإلهى ، وقد أخبر عنه - سبحانه - بخبرين - كما يقول الشيخ الجمل - : " بالنظر للخبر الأول يراد به القرآن ، وبالنظر للخبر الثانى يراد به ما عداه من الكتب السماوية " .
وقوله - تعالى - : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ } إضراب من جهته - تعالى - عن مناقشتهم ومطالبتهم بالبرهان ، وانتقال من الأمر بتبكيتهم إلى الأمر بإهمالهم استصغارا لشأنهم .
أى : دعهم - أيها الرسول الكريم - فى باطلهم بعمهون فإنهم قوم أكثرهم يجهلون الحق ، ولا يستطيعون التمييز بينه وبين الباطل . فهم لأجل ذلك منصرفون عن الهدى ، ومتجهون إلى الضلال ، ومن جهل شيئا عاداه .
وإلى جانب الدليل الكوني المستمد من طبيعة الوجود وواقعه يسألهم عن الدليل النقلي الذي يستندون إليه في دعوى الشرك التي لا تعتمد على دليل :
( أم اتخذوا من دونه آلهة ? قل : هاتوا برهانكم . هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ) .
فهذا هو القرآن يشتمل على ذكر المعاصرين للرسول [ ص ] وهناك ذكر من سبقه من الرسل . وليس فيما جاءوا به ذكر الشركاء . فكل الديانات قائمة على عقيدة التوحيد . فمن أين جاء المشركون بدعوى الشرك التي تنقضها طبيعة الكون ، ولا يوجد من الكتب السابقة عليها دليل :
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هََذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقّ فَهُمْ مّعْرِضُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة تنفع وتضرّ وتخلق وتحيي وتميت ؟ قل يا محمد لهم : هاتوا برهانكم يعني حجتكم يقول : هاتوا إن كنتم تزعمون أنكم محقون في قيلكم ذلك حجة ودليلاً على صدقكم . كما :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ يقول : هاتوا بينتكم على ما تقولون .
وقوله : هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ يقول : هذا الذي جئتكم به من عند الله من القرآن والتنزيل ، ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ يقول : خبر من معي مما لهم من ثواب الله على إيمانهم به وطاعتهم إياه وما عليهم من عقاب الله على معصيتهم إياه وكفرهم به . وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي يقول : وخبر من قبلي من الأمم التي سلفت قبلي ، وما فعل الله بهم في الدنيا وهو فاعل بهم في الاَخرة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني بِشْر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ يقول : هذا القرآن فيه ذكر الجلال والحرام . وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي يقول : ذكر أعمال الأمم السالفة وما صنع الله بهم وإلى ما صاروا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج » هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ قال : حديث من معي ، وحديث من قبلي .
وقوله : بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحَقّ يقول : بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الصواب فيما يقولون ولا فيما يأتون ويذرون ، فهم معرضون عن الحقّ جهلاً منهم به وقلّة فهم .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة : بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحَقّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن كتاب الله .
ثم قررهم تعالى ثانية على اتخاذ الآلهة ، وفي تكرار هذا التقرير مبالغة في نكره وبيان فساده ، وفي هذا التقرير زيادة على الأول وهي قوله تعالى : { من دونه } فكأنهم قررهم هنا على قصد الكفر بالله عز وجل ، ثم دعاهم إلى الحجة والإتيان بالبرهان . وقوله تعالى : { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } يحتمل أن يريد به هذا جميع الكتب المنزلة قديمها وحديثها ، أي ليس فيها برهان على اتخاذ آلهة من دون الله ، بل فيها ضد ذلك ، ويحتمل أن يريد هذا القرآن والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين ، فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم وردهم على طريق النجاة ، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم ، ومعنى الكلام على هذا التأويل عرض القرآن في معرض البرهان أي { هاتوا برهانكم } فهذا برهاني أنا ظاهر في { ذكر من معي وذكر من قبلي } وقرأت فرقة «هذا ذكرُ من » «وذكرُ من » بالإضافة فيهما ، وقرأت فرقة «هذا ذكرُ من » بالإضافة «وذكرٌ مِن قبلي » بتنوين «ذكر » الثاني وكسر الميم من قوله تعالى : { مِن قبلي } وقرأ يحيى بن سعيد{[8206]} وابن مصرف بالتنوين في «ذكرٌ مِن » في الموضعين وكسر الميم من قوله «مِن » في الموضعين ، وضعف أبو حاتم هذه القراءة كسر الميم في الأولى ولم يرلها وجهاً{[8207]} ، ثم حكم عليهم تعالى بأن { أكثرهم لا يعلمون الحق } لإعراضهم عنه وليس المعنى { فهم معرضون } لأنهم لا يعلمون بل المعنى { فهم معرضون } ولذلك { لا يعلمون الحق } وقرأ الحسن وابن محيصن «الحقُ » بالرفع على معنى هذا القول هو الحق والوقف على هذه القراءة على { لا يعلمون }{[8208]} .
جملة { أم اتخذوا من دونه آلهة } تأكيد لجملة { أم اتخذوا آلهة من الأرض } [ الأنبياء : 21 ] . أُكد ذلك الإضراب الانتقالي بمثله استعظاماً لِفظاعته وليُبنَى عليه استدلالٌ آخر كما بُني على نظيره السابق ؛ فإن الأول بني عليه دليلُ استحالةٍ من طريق العقل ، وهذا بني عليه دليل بطلان بشهادة الشرائع سابِقِها ولاحقها ، فلقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول : { هاتوا برهانكم } أي ، هاتوا دليلاً على أنّ لله شركاء من شواهد الشرائع والرسل .
والبرهان : الحجة الواضحة . وتقدم في قوله تعالى : { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم } في سورة النساء ( 174 ) .
والإشارة في قوله تعالى { هذا ذكر من معي } إلى مقدّر في الذهن يفسره الخبر . والمقصود من الإشارة تمييزه وإعلانه بحيث لا يستطيع المخاطب المغالطة فيه ولا في مضمونه ، كقوله تعالى : { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } في سورة لقمان ( 11 ) ، أي أن كتب الذكر أي الكتب الدينية في متناول الناس فانظروا هل تجدون في أحد منها أن لله شركاء وأن الله أذن باتخاذهم آلهة . وإضافة { ذِكر } إلى { مَن معي } من إضافة المصدر إلى مفعوله وهم المذكَّرون بفتح الكاف .
والمعية في قوله تعالى { مَن معي } معيَّة المتابعة ، أي مَن معي من المسلمين ، فما صْدق ( مَن ) الموصولة الأمم ، أي هذا ذكر الأمة التي هي معي ، أي الذكر المنزل لأجلكم . فالإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله تعالى : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } [ الأنبياء : 10 ] . والمراد بقوله تعالى : { هذا ذكر من معي } القرآن ، وأما قوله تعالى : { وذكر من قبلي } فمعناه ذكر الأمم الذين هم قبلي يشمل جميع الكتب السالفة المعروفة : التوراة والزبور والإنجيل وكتاب لقمان . وهذا كقوله تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط في } [ آل عمران : 18 ] .
وأضرب عن الاستدلال بأنه استدلال مضيع فيهم بقوله تعالى : { بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون } ، أي لا تَرجُ منهم اعترافاً ببطلان شركهم من دليل العقل المتقدم ولا من دليل شهادة الشرائع المذكور ثانياً ، فإن أكثرهم لا يعلمون الحق ولا يكتسبون عِلمه .
والمراد بكونهم لا يعلمون الحق أنهم لا يتطلبون علمه كما دلت عليه قرينة التفريع عليه بقوله تعالى { فهم معرضون } ، أي معرضون عن النظر في الأدلة التي تدعوهم أنت إلى معرفتها والنظر فيها .
وإنما أسند هذا الحكم إلى أكثرهم لا لجميعهم تسجيلاً عليهم بأن قليلاً منهم يعلمون الحق ويجحدونه ، أو إيماء إلى أن قليلاً منهم تهيّأت نفوسهم لقبول الحقّ . وتلك هي الحالة التي تعرض للنفس عند هبوب نسمات التوفيق عليها مثل ما عرض لعمر بن الخطاب حين وجد اللوح عند أخته مكتوباً فيه سورة طه فأقبل على قراءته بشَرَاشِرِه فما أتمها حتى عزم على الإسلام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم اتخذوا من دونه آلهة قل} لكفار مكة: {هاتوا برهانكم} يعني: حجتكم، أن مع الله، عز وجل، إلها كما زعمتم.
{هذا ذكر من معي وذكر من قبلي} يقول: هذا القرآن فيه خبر من معي، وخبر من قبلي من الكتب، ليس فيه أن مع الله، عز وجل، إلها كما زعمتم. {بل أكثرهم} يعنى كفار مكة {لا يعلمون الحق} يعني: التوحيد.
{فهم معرضون} عنه عن التوحيد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة تنفع وتضرّ وتخلق وتحيي وتميت؟ قل يا محمد لهم:"هاتوا برهانكم" يعني حجتكم يقول: هاتوا إن كنتم تزعمون أنكم محقون في قيلكم ذلك حجة ودليلاً على صدقكم...
وقوله: "هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ "يقول: هذا الذي جئتكم به من عند الله من القرآن والتنزيل، "ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ" يقول: خبر من معي مما لهم من ثواب الله على إيمانهم به وطاعتهم إياه وما عليهم من عقاب الله على معصيتهم إياه وكفرهم به. "وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي" يقول: وخبر من قبلي من الأمم التي سلفت قبلي، وما فعل الله بهم في الدنيا وهو فاعل بهم في الآخرة...
وقوله: "بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحَقّ" يقول: بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الصواب فيما يقولون ولا فيما يأتون ويذرون، فهم معرضون عن الحقّ جهلاً منهم به وقلّة فهم...
عن قَتادة: "بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحَقّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ" عن كتاب الله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"هاتوا برهانكم" على ذلك وحججكم على صحة ما فعلتموه. فالبرهان هو الدليل المؤدي إلى العلم، لأنهم لا يقدرون على ذلك أبدا. وفى ذلك دلالة على فساد التقليد، لأنه طالبهم بالحجة على صحة قولهم...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{هذا ذكر من معي} يعني القرآن {وذكر من قبلي} يعني التوراة والإنجيل، فهل في واحد من هذه الكتب إلا توحيد الله سبحانه وتعالى.
{بل أكثرهم لا يعلمون الحق} فلا يتأملون حجة التوحيد وهو قوله {فهم معرضون}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كرّر {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً} استفظاعاً لشأنهم واستعظاماً لكفرهم، أي: وصفتم الله تعالى بأنّ له شريكاً، فهاتوا برهانكم على ذلك: إمّا من جهة العقل، وإمّا من جهة الوحي، فإنكم لا تجدون كتاباً من كتب الأوّلين إلا وتوحيد الله وتنزيهه عن الأنداد مدعوّ إليه، والإشراك به منهي عنه متوعد عليه. أي {هذا} الوحي الوارد في معنى توحيد الله ونفي الشركاء عنه، كما ورد عليّ فقد ورد على جميع الأنبياء...
كأنه قيل: بل عندهم ما هو أصل الشرّ والفساد كله وهو الجهل وفقد العلم، وعدم التمييز بين الحق والباطل، فمن ثم جاء هذا الإعراض، ومن هناك ورد هذا الإنكار.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {هذا ذكر من معي وذكر من قبلي} يحتمل أن يريد به هذا جميع الكتب المنزلة قديمها وحديثها، أي ليس فيها برهان على اتخاذ آلهة من دون الله، بل فيها ضد ذلك، ويحتمل أن يريد هذا القرآن والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين، فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم وردهم على طريق النجاة، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم، ومعنى الكلام على هذا التأويل عرض القرآن في معرض البرهان أي {هاتوا برهانكم} فهذا برهاني أنا ظاهر في {ذكر من معي وذكر من قبلي} ثم حكم عليهم تعالى بأن {أكثرهم لا يعلمون الحق} لإعراضهم عنه، وليس المعنى {فهم معرضون} لأنهم لا يعلمون، بل المعنى {فهم معرضون}؛ ولذلك {لا يعلمون الحق}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قام الدليل، ووضح السبيل، واضمحل كل قال وقيل، فانمحقت الأباطيل، قال منبهاً لهم على ذلك: {أم} أي أرجعوا عن ضلالهم لما بان لهم غيهم فيه فوحدوا الله أم {اتخذوا} ونبه على أن كل شيء دونه وأثبت أن آلهتهم بعض من ذلك بإثبات الجار فقال منبهاً لهم مكرراً لما مضى على وجه أعم، طالباً البرهان تلويحاً إلى التهديد: {من دونه ءالهة} من السماء أو الأرض وغيرهما.
ولما كان جوابهم: اتخذنا، ولا يرجع أمره بجوابهم فقال: {قل هاتوا برهانكم} على ما ادعيتموه من عقل أو نقل كما أثبت أنا ببرهان النقل المؤيد بالعقل.
ولما كان الكريم سبحانه لا يؤاخذ بمخالفة العقل ما لم ينضم إليه دليل النقل، أتبعه قوله مشيراً إلى ما بعث الله به الرسل من الكتب: {هذا ذكر} أي موعظة وشرف {من معي} ممن آمن بي وقد ثبت أنه كلام الله بعجزكم عن معارضته فانظروا هل تجدون فيه شيئاً يؤيد أمركم {وذكر} أي وهذا ذكر {من قبلي} فاسألوا أهل الكتابين هل في كتاب منهما برهان لكم.
ولما كانوا لا يجدون شبهة لذلك فضلاً عن حجة اقتضى الحال الإعراض عنهم غضباً، فكان كأنه قيل: لا يجدون لشيء من ذلك برهاناً {بل أكثرهم} أي هؤلاء المدعوين {لا يعلمون الحق} بل هم جهلة والجهل أصل الشر والفساد، فهم يكفرون تقليداً {فهم} أي فتسبب عن جهلهم ما افتتحنا به السورة من أنهم {معرضون} عن ذكرك وذكر من قبلك غفلة منهم عما يراد بهم وفعلاً باللعب فعلَ القاصر عن درجة العقل، وبعضهم معاند مع علمه الحق، وبعضهم يعلم فيفهم -كما أفهمه التقييد بالأكثر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ْ} أي: وإنما أقاموا على ما هم عليه، تقليدا لأسلافهم يجادلون بغير علم ولا هدى، وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه، وإنما ذلك، لإعراضهم عنه، وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات، لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا ولهذا قال: {فَهُمْ مُعْرِضُونَ ْ}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {أم اتخذوا من دونه آلهة} تأكيد لجملة {أم اتخذوا آلهة من الأرض} [الأنبياء: 21]. أُكد ذلك الإضراب الانتقالي بمثله استعظاماً لِفظاعته وليُبنَى عليه استدلالٌ آخر كما بُني على نظيره السابق؛ فإن الأول بني عليه دليلُ استحالةٍ من طريق العقل، وهذا بني عليه دليل بطلان بشهادة الشرائع سابِقِها ولاحقها، فلقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {هاتوا برهانكم} أي، هاتوا دليلاً على أنّ لله شركاء من شواهد الشرائع والرسل.
والبرهان: الحجة الواضحة. وتقدم في قوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم} في سورة النساء (174).
والإشارة في قوله تعالى {هذا ذكر من معي} إلى مقدّر في الذهن يفسره الخبر. والمقصود من الإشارة تمييزه وإعلانه بحيث لا يستطيع المخاطب المغالطة فيه ولا في مضمونه، كقوله تعالى: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} في سورة لقمان (11)، أي أن كتب الذكر أي الكتب الدينية في متناول الناس فانظروا هل تجدون في أحد منها أن لله شركاء وأن الله أذن باتخاذهم آلهة. وإضافة {ذِكر} إلى {مَن معي} من إضافة المصدر إلى مفعوله وهم المذكَّرون بفتح الكاف.
والمعية في قوله تعالى {مَن معي} معيَّة المتابعة، أي مَن معي من المسلمين، فما صْدق (مَن) الموصولة الأمم، أي هذا ذكر الأمة التي هي معي، أي الذكر المنزل لأجلكم. فالإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم} [الأنبياء: 10]. والمراد بقوله تعالى: {هذا ذكر من معي} القرآن، وأما قوله تعالى: {وذكر من قبلي} فمعناه ذكر الأمم الذين هم قبلي يشمل جميع الكتب السالفة المعروفة: التوراة والزبور والإنجيل وكتاب لقمان. وهذا كقوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط في} [آل عمران: 18].
وأضرب عن الاستدلال بأنه استدلال مضيع فيهم بقوله تعالى: {بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون}، أي لا تَرجُ منهم اعترافاً ببطلان شركهم من دليل العقل المتقدم ولا من دليل شهادة الشرائع المذكور ثانياً، فإن أكثرهم لا يعلمون الحق ولا يكتسبون عِلمه.
والمراد بكونهم لا يعلمون الحق أنهم لا يتطلبون علمه كما دلت عليه قرينة التفريع عليه بقوله تعالى {فهم معرضون}، أي معرضون عن النظر في الأدلة التي تدعوهم أنت إلى معرفتها والنظر فيها.
وإنما أسند هذا الحكم إلى أكثرهم لا لجميعهم تسجيلاً عليهم بأن قليلاً منهم يعلمون الحق ويجحدونه، أو إيماء إلى أن قليلاً منهم تهيّأت نفوسهم لقبول الحقّ. وتلك هي الحالة التي تعرض للنفس عند هبوب نسمات التوفيق عليها مثل ما عرض لعمر بن الخطاب حين وجد اللوح عند أخته مكتوباً فيه سورة طه فأقبل على قراءته بشَرَاشِرِه فما أتمها حتى عزم على الإسلام.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(بل أكثرهم لا يعلمون الحقّ فهم معرضون). لقد كانت مخالفة الأكثرية الجاهلة في كثير من المجتمعات دليلا وحجّة لإعراض الغافلين الجاهلين دائماً، وقد انتقد القرآن الاستناد إلى هذه الأكثرية بشدّة في كثير من الآيات، سواء التي نزلت في مكّة أو المدينة، ولم يعرها أيّة أهميّة، بل اعتبر المعيار هو الدليل والمنطق.