ثم لم يكتفوا بهذا القول ، بل انتقلوا إلى مرحلة أخرى أشد وأطغى ، فقالوا - كما حكى القرآن عنهم : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَآءَهُمْ . . . } .
أى : فحين وصل إليهم موسى - عليه السلام - بدعوته - وخاطبهم بما أمره الله - تعالى - أن يخاطبهم به ، وجابههم بالحق الذى زوده الله - تعالى - به .
ما كان منهم إلا أن قالوا - على سبيل التهديد والوعيد - : اقتلوا الذكور من أبناء الذين آمنوا مع موسى ، ودخلوا فى دينه ، واتركوا الإِناث بدون قتل لخدمتكم ، وليكون ذلك أبلغ فى إذلالهم . إذ بقاء النساء بدون رجال فتنة كبيرة . وذل عظيم .
والتعبير بقوله : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا } يشعر بأن هؤلاء الظالمين قد جاءهم الحق إلى بيوتهم ومساكنهم ، وأنهم لم يخرجوا لطلبه ، وإنما هو الذى جاءهم عن طريق موسى ، المؤيد بآيات الله - تعالى - .
والقائلون : { اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَآءَهُمْ } هم الملأ من قوم فرعون الذين كانوا يزينون له الظلم والعدوان . إرضاء له . وإرهابا لموسى - عليه السلام - ولمن آمن معه .
قال الإِمام الرازى : والصحيح أن هذا القتل كان غير القتل الذى وقع فى وقت ولادة موسى ، لأن القتل فى ذلك الوقت كان بسبب أن المنجمين قد أخبروا فرعون بولادة عدو له يظهر عليه ، فأمر بقتل الأبناء فى ذلك الوقت . وأما فى هذا الوقت . فموسى - عليه السلام - كان قد جاءه وأظهر المعجزات . فعند ذلك أمر بقتل أبناء الذين آمنوا معه ، لئلا ينشأوا على دين موسى ، فيقوى بهم . وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات . فلهذا السبب أمر بقتل الأبناء . .
وقوله - تعالى - : { وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } توهين لشأن الكافرين فى كل زمان ومكان ، وتشجيع للمؤمنين على أن يسيروا فى طريق الحق دون أن يرهبهم وعد أو وعيد . فإن النصر سيكون فى النهاية لهم .
أى : وما كيد الكافرين ومكرهم وعدوانهم ، إلا مصيره إلى الضلال والضياع والبطلان . يقال : ضل فلان الطريق إذا ضاع منه الرشد . والتبست عليه السبل . وصار تائها لا يعرف له طريقا يوصله إلى ما يريد .
والجملة الكريمة معطوفة على قوله : { قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ } وجملة { وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } اعتراضية ، جئ بها مسارعة لبيان خسرانهم وضلالهم .
ويجمل السياق تفصيل ما حدث بعد هذا الجدال ، ويطوي موقف المباراة مع السحرة ، وإيمانهم بالحق الذي غلب باطلهم ولقف ما يأفكون . ويعرض الموقف الذي تلا هذه الأحداث :
( فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا : اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم ) .
ويعقب عليه قبل أن تكمل الآية :
( وما كيد الكافرين إلا في ضلال ) . .
إنه منطق الطغيان الغليظ ، كلما أعوزته الحجة ، وخذله البرهان ، وخاف أن يستعلي الحق ، بما فيه من قوة وفصاحة ووضوح ، وهو يخاطب الفطرة فتصغي له وتستجيب . كما استجاب السحرة الذين جيء بهم ليغلبوا موسى وما معه ، فانقلبوا أول المؤمنين بالحق في مواجهة فرعون الجبار .
فأما فرعون وهامان وقارون فقالوا :
( اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم ) . .
ولقد كان فرعون - في أيام مولد موسى - قد أصدر مثل هذا الأمر . وهناك أحد احتمالين فيما حدث بعد ذلك الأمر الأول . . الاحتمال الأول أن فرعون الذي أصدر ذلك الأمر كان قد مات وخلفه ابنه أو ولي عهده ، ولم يكن الأمر منفذاً في العهد الجديد ، حتى جاء موسى وواجه الفرعون الجديد ، الذي كان يعرفه وهو ولي للعهد ، ويعرف تربيته في القصر ، ويعرف الأمر الأول بتذبيح الذكور وترك الإناث من بني إسرائيل . فحاشيته تشير إلى هذا الأمر ، وتوحي بتخصيصه بمن آمنوا بموسى ، سواء كانوا من السحرة أو من بني إسرائيل القلائل الذين استجابوا له على خوف من فرعون وملئه . . والاحتمال الثاني : أنه كان فرعون الأول الذي تبنى موسى ، ما يزال على عرشه . وقد تراخى تنفيذ الأمر الأول بعد فترة أو وقف العمل به بعد زوال حدته . فالحاشية تشير بتجديده ، وتخص به الذين آمنوا مع موسى وحدهم للإرهاب والتخويف .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا جَآءَهُمْ بِالْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُوَاْ أَبْنَآءَ الّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ } .
يقول تعالى ذكره : فلما جاء موسى هؤلاء الذين أرسله الله إليهم بالحقّ من عندنا ، وذلك مجيئه إياهم بتوحيد الله ، والعمل بطاعته ، مع إقامة الحجة عليهم ، بأن الله ابتعثه إليهم بالدعاء إلى ذلك قالُوا اقْتُلُوا أبْناءَ الّذِينَ آمَنُوا بالله مَعَهُ من بني إسرائيل وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ يقول : واستبقوا نساءهم للخدمة .
فإن قال قائل : وكيف قيل فَلَمّا جاءَهُمْ مُوسَى بالحَقّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أبْناءَ الّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ، وإنما كان قتل فرعون الولدان من بني إسرائيل حذار المولود الذي كان أخبر أنه على رأسه ذهاب ملكه ، وهلاك قومه ، وذلك كان فيما يقال قبل أن يبعث الله موسى نبيّا ؟ قيل : إن هذا الأمر بقتل أبناء الذين آمنوا مع موسى ، واستحياء نسائهم ، كان أمرا من فرعون وملئه من بعد الأمر الأوّل الذي كان من فرعون قبل مولد موسى ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلَمّا جاءَهُمْ بالحَقّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أبْناءَ الّذِينَ آمَنُوا مَعَهْ واسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ قال : هذا قتل غير القتل الأوّل الذي كان .
وقوله : وَما كَيْدُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ يقول : وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله إلا في جور عن سبيل الحقّ ، وصدّ عن قصد المحجة ، وأخذ على غير هدى .
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لما جاءهم موسى بالنبوة والحق من عند الله ، قال هؤلاء الثلاثة وأجمع رأيهم على أن يقتل أبناء بني إسرائيل أتباع موسى وشبانهم وأهل القوة منهم ، وأن يستحي النساء للخدمة والاسترقاق ، وهذا رجوع منهم إلى نحو القتل الأول الذي كان قبل ميلاد موسى ، ولكن هذا الأخير لم تتم فيه عزمة ، ولا أعانهم الله تعالى على شيء منه . قال قتادة : هذا قتل غير الأول الذي كان حذر المولود ، وسموا من ذكرنا من بني إسرائيل أبناء ، كما تقول لأنجاد القبيلة أو المدينة وأهل الظهور فيها : هؤلاء أبناء فلانة .
وقوله تعالى : { وما كيد الكافرين إلا في ضلال } عبارة وجيزة تعطي قوتها أن هؤلاء الثلاثة لم يقدرهم الله تعالى على قتل أحد من بني إسرائيل ولا نجحت لهم فيه سعاية ، بل أضل الله سعيهم وكيدهم .
أي رَمَوْه ابتداءً بأنه ساحر كذاب توهماً أنهم يلقمونه حجر الإِحجام فلما استمر على دَعوته وجاءهم بالحق ، أي أظهر لهم الآيات الحقَّ ، أي الواضحة ، فأطلق { جاءهم } على ظهور الحق كقوله تعالى : { جاء الحق وزهق الباطل } [ الإسراء : 81 ] .
و { مِن عِندِنا } وصف للحق لإِفادة أنه حق خارق للعادة لا يكون إلا من تسخير الله وتأييده ، وهو آيات نبوته التسعُ .
ووجه وقوع { فلَمَّا جَاءَهم بالحَقِّ مِن عِندنا } بعد قوله : { أرْسَلْنَا مُوسَى بآياتِنا } [ غافر : 23 ] مع اتحاد مُفاد الجملتين فإن مفاد جملة { جاءهم } مساو لمفاد جملة { أرسلنا } ومفاد قوله : { بالحق } مساو لمفاد قوله : { بآياتنا وسُلطان مُبين } [ غافر : 23 ] أن الأول للتنويه برسالة موسى وعظمة موقفه أمام أعظم ملوك الأرض يومئذٍ ، وأما قوله : { فلمَّا جَاءَهُم بالحَقِّ } فهو بيان لدعوته إياهم وما نشأ عنها ، وتقدير الكلام : أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون فلما جاءهم بالحق ، فسلكت في هذا النظم طريقة الإِطناب للتنويه والتشريف .
وجملة { فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } معترضة . وأرادوا بقولهم اقتلوا أبناء الذين معه أن يُرهبوا أتباعه حتى ينفضوا عنه فلا يجد أنصاراً ويبقى بنو إسرائيل في خدمة المصريين .
وضمير { جاءهم } يحمل على أنه عائد إلى غير مذكور في اللفظ لأنه ضمير جمع يدل عليه المقام وهم أهل مجلس فرعون الذين لا يخلو عنهم مجلس الملك في مثل هذه الحوادث العظيمة كما في قوله تعالى : { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين } [ القصص : 38 ] الآية . وليس عائداً إلى فرعون وهامان وقارون ، لأن قارون لم يكن مع فرعون حين دعاه موسى ولم يكن من المكذبين لموسى في وقت حضوره لدى فرعون ولكنه طغا بعد خروج بني إسرائيل من مصر وبلغ به طغيانه إلى الكفر كما تقدم في قصته في سورة القصص .
والضمير في قولهم : { اقتلوا } مخاطب به فرعون خطاب تعظيم مثل { ربّ ارجعون } [ المؤمنون : 99 ] . وإنما أبهم القائلون لعدم تعلق الغرض بعلمه ، ففعل قالوا } بمنزلة المبني للنائب أو بمنزلة : قال قائل ، لأن المقصود قوله بعده : { وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إلاَّ في ضَلالٍ } . وهو محل الاعتبار لقريش بأن كيد أمثالهم كان مضاعاً فكذلك يكون كيدهم . وهذا القتل غير القتل الذي فعله فرعون الذي وُلد موسى في زمنه .
وسمي هذا الرأي كيداً لأنهم تشاوروا فيه فيما بينهم دون أن يعلم بذلك موسى والذين آمنوا معه وأنهم أضمروه ولم يعلنوه ثم شغلهم عن إنفاذه ما حلّ بهم من المصائب التي ذكرت في قوله تعالى في سورة [ الأعراف : 130 ] : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } الآية ، ثم بقوله : { فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد } [ الأعراف : 133 ] الآية .
والضلال : الضياع والاضمحلال كقوله : { قالوا أئذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] أي هذا الكيد الذي دبروه قد أخذ الله على أيديهم فلم يجدوا لانقاذه سبيلاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما جاءهم} موسى {بالحق من عندنا} يعني اليد والعصا آمنت به بنو إسرائيل ف {قالوا} أي قال فرعون وحده لقومه للملأ يعني الأشراف: {اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه} يعني مع موسى.
{واستحيوا نساءهم}: اقتلوا أبناهم ودعوا البنات، فلما هموا بذلك حبسهم الله عنهم حين اقطعهم البحر، يقول الله عز وجل: {وما كيد الكافرين إلا في ضلال} آية يعني خسار: {وما كيد} فرعون الذي أراد ببني إسرائيل من قتل الأبناء واستحياء النساء {إلا في ضلال} يعني خسار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما جاء موسى هؤلاء الذين أرسله الله إليهم بالحقّ من عندنا، وذلك مجيئه إياهم بتوحيد الله، والعمل بطاعته، مع إقامة الحجة عليهم، بأن الله ابتعثه إليهم بالدعاء إلى ذلك قالُوا:"اقْتُلُوا أبْناءَ الّذِينَ آمَنُوا بالله مَعَهُ" من بني إسرائيل "وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ "يقول: واستبقوا نساءهم للخدمة.
فإن قال قائل: وكيف قيل "فَلَمّا جاءَهُمْ مُوسَى بالحَقّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أبْناءَ الّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ"، وإنما كان قتل فرعون الولدان من بني إسرائيل حذار المولود الذي كان أخبر أنه على رأسه ذهاب ملكه، وهلاك قومه، وذلك كان فيما يقال قبل أن يبعث الله موسى نبيّا؟ قيل: إن هذا الأمر بقتل أبناء الذين آمنوا مع موسى، واستحياء نسائهم، كان أمرا من فرعون وملئه من بعد الأمر الأوّل الذي كان من فرعون قبل مولد موسى...
وقوله: "وَما كَيْدُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ" يقول: وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله إلا في جور عن سبيل الحقّ، وصدّ عن قصد المحجة، وأخذ على غير هدى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلَمَّا جَاءهُمْ بالحق} بالنبوّة،
فإن قلت: أما كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أو يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده؟ قلت: قد كان ذلك القتل حينئذ، وهذا قتل آخر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {قَالُواْ اقتلوا} أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولاً، يريد: أن هذا قتل غير القتل الأول {فِى ضلال} في ضياع وذهاب، باطلاً لم يجد عليهم، يعني: أنهم باشروا قتلهم أولاً فما أغنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني، وكان فرعون قد كفّ عن قتل الولدان، فلما بعث موسى وأحسّ بأنه قد وقع: أعاده عليهم غيظاً وحنقاً، وظناً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرتين جميعاً.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وما كيد الكافرين إلا في ضلال} في ضياع، ووضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم والدلالة على العلة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أجمل أمره كله في هاتين الآيتين، شرع في تفصيله فقال مشيراً إلى مبادرتهم إلى العناد من غير توقف أصلاً التي أشار إليها حذف المبتدأ والاقتصار على الخبر الذي هو محط الفائدة: {فلما جاءهم} أي موسى عليه السلام {بالحق} أي بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه، كائناً {من عندنا} على ما لنا من القهر، فآمن معه طائفة من قومه.
{قالوا} أي فرعون وأتباعه {اقتلوا} أي قتلاً حقيقياً بإزالة الروح.
{أبناء الذين آمنوا} أي به فكانوا {معه} أي خصوهم بذلك واتركوا من عداهم لعلهم يكذبونه.
{واستحيوا نساءهم} أي اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن.
ولما كان هذا أمراً صاداً في العادة لمن يؤمن عن الإيمان وراداً لمن آمن إلى الكفران، أشار إلى أنه سبحانه خرق العادة بإبطاله فقال: {وما} أي والحال أنه ما كيدهم -هكذا كان الأصل ولكنه قال: {كيد الكافرين} تعميماً وتعليقاً بالوصف.
{إلا في ضلال} أي مجانبة للسداد الموصل إلى الظفر والفوز؛ لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام، ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم، بل كان فيه تبارهم وهلاكهم، وكذا أفعال الفجرة مع أولياء الله، ما حفر أحد منهم لأحد منهم حفرة مكر إلا أركسه الله فيها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويجمل السياق تفصيل ما حدث بعد هذا الجدال، ويطوي موقف المباراة مع السحرة، وإيمانهم بالحق الذي غلب باطلهم ولقف ما يأفكون. ويعرض الموقف الذي تلا هذه الأحداث:
(فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم).
(وما كيد الكافرين إلا في ضلال)..
إنه منطق الطغيان الغليظ، كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، وخاف أن يستعلي الحق، بما فيه من قوة وفصاحة ووضوح، وهو يخاطب الفطرة فتصغي له وتستجيب. كما استجاب السحرة الذين جيء بهم ليغلبوا موسى وما معه، فانقلبوا أول المؤمنين بالحق في مواجهة فرعون الجبار.
فأما فرعون وهامان وقارون فقالوا: (اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم)..
ولقد كان فرعون -في أيام مولد موسى- قد أصدر مثل هذا الأمر. وهناك أحد احتمالين فيما حدث بعد ذلك الأمر الأول.. الاحتمال الأول أن فرعون الذي أصدر ذلك الأمر كان قد مات وخلفه ابنه أو ولي عهده، ولم يكن الأمر منفذاً في العهد الجديد، حتى جاء موسى وواجه الفرعون الجديد، الذي كان يعرفه وهو ولي للعهد، ويعرف تربيته في القصر، ويعرف الأمر الأول بتذبيح الذكور وترك الإناث من بني إسرائيل. فحاشيته تشير إلى هذا الأمر، وتوحي بتخصيصه بمن آمنوا بموسى، سواء كانوا من السحرة أو من بني إسرائيل القلائل الذين استجابوا له على خوف من فرعون وملئه.. والاحتمال الثاني: أنه كان فرعون الأول الذي تبنى موسى، ما يزال على عرشه. وقد تراخى تنفيذ الأمر الأول بعد فترة أو وقف العمل به بعد زوال حدته. فالحاشية تشير بتجديده، وتخص به الذين آمنوا مع موسى وحدهم للإرهاب والتخويف.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
رَمَوْه ابتداءً بأنه ساحر كذاب توهماً أنهم يلقمونه حجر الإِحجام فلما استمر على دَعوته وجاءهم بالحق، أي أظهر لهم الآيات الحقَّ أي الواضحة، فأطلق {جاءهم} على ظهور الحق كقوله تعالى: {جاء الحق وزهق الباطل} [الإسراء: 81]. و {مِن عِندِنا} وصف للحق لإِفادة أنه حق خارق للعادة لا يكون إلا من تسخير الله وتأييده وهو آيات نبوته التسعُ...
{وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إلاَّ في ضَلالٍ}. وهو محل الاعتبار لقريش بأن كيد أمثالهم كان مضاعاً فكذلك يكون كيدهم...
وسمي هذا الرأي كيداً لأنهم تشاوروا فيه فيما بينهم دون أن يعلم بذلك موسى والذين آمنوا معه، وأنهم أضمروه ولم يعلنوه ثم شغلهم عن إنفاذه ما حلّ بهم من المصائب التي ذكرت في قوله تعالى في سورة [الأعراف: 130]: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين} الآية، ثم بقوله: {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد} [الأعراف: 133] الآية. والضلال: الضياع والاضمحلال كقوله: {قالوا أئذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10] أي هذا الكيد الذي دبروه قد أخذ الله على أيديهم فلم يجدوا لإنفاذه سبيلاً...